في كتابه الموسوم "كهنة أم جواسيس" يستعرض الباحث محمود غزالي، دور الكهنة في التحضير لسايكس ـ بيكو، والانقضاض على تركة الرجل المريض، والقبض على كامل المواقع الاستراتيجية التي كانت تتحكم باقتصاد العالم. وقد جاء المعهد الانجيلي الدومينيكاني الذي أسسه الراهب لاغرانج في العام 1890، خدمة للأهداف الكبيرة التي من أجلها تأسس هذا المعهد.
وقد راهنت المخابرات الفرنسية والبريطانية على دور وحيوية هذا المعهد وفتحت الأبواب أمام الرهبان المستشرقين للقيام في جولات استكشافية في بلاد الشام، والعراق والجزيرة العربية نظراً لترابط التحرّك السياسي آنذاك الذي كانت تلعبه بريطانيا، مع حليفها الشريف حسين ودوره مع نجليه فيصل وعبد الله الذين وقعوا ضحية الخدعة الغربية التي هيّأت لاتفاقية سايكس ـ بيكو، ثم وعد بلفور الذي كان إيذاناً بتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
في الجانب الموازي لتحرّك المعهد الانجيلي، خرجت الحركة الصهيونية إلى العلن بعدما نجحت الجاليات اليهودية في الغرب في توظيف حركة ديبلوماسية واسعة لانتزاع قرار من السلطان عبد الحميد بالتنازل عن فلسطين للمهاجرين اليهود، إلا أن رفض عبد الحميد تحقيق هذا الهدف كان سبباً للتحرّك الصهيوني ـ الأوروبي لعزل السلطان العثماني بالتعاون مع الحركة الطورانية وجمعية تركيا الفتاة. وحينما نجح هذا التحرّك تولى رئيس الطائفة اليهودية في تركيا "قره صوغ" إبلاغ السلطان قرار عزله، الأمر الذي دفع عبد الحميد إلى مخاطبة الحضور: "أما وجدتم غير هذا اليهودي لتبلغوا خليفة المسلمين بهذا القرار".
وقد أكد هذه الوقائع أحد أركان بعثة "لورانس" اللبناني اسكندر حداد في حوار كان قد أجراه معه المؤلف، ويشير فيه حداد إلى إطلاعه على المؤامرات التي كانت تحاك على الهلال الخصيب والجزيرة العربية بعدما وقع الشريف حسين في فخ الخديعة الذي نصبها له الانكليز والفرنسيون وبعض القادة الأتراك الذين أزاحوا عبد الحميد عن سدة السلطنة بالتعاون مع اليهود.
وخلال السنوات ما بعد العشر الأولى من القرن الماضي أخذ التشابه في الأسلوب بين فرنسا وانكلترا يفترق شيئاً فشيئاً. ففي حين عمدت فرنسا إلى تكثيف اعتمادها على الارساليات وزرع المدارس وتعزيز اللغة الفرنسية، والوجود السياسي ـ الثقافي داخل المؤسسات الشعبية والأندية الثقافية والمنبرية، لجأت انكلترا إلى تمايز يكسبها مواقع مؤثرة على المدى البعيد، من خلال التركيز على علاقات سياسية تأخذ طابع المساندة في الدعوة إلى التحرر من الحكم العثماني والاتجاه إلى الاستقلال، من خلال توجيه دعمها الفعلي لقوى سياسية متنافسة، بقصد حمل هذه القوى للعودة إلى الحماية البريطانية.
وبينما وقع الفرنسيون أسرى علاقات مختارة مع فريق من السوريين هو أقرب إلى الانكفاء والتقوقع، عمد البريطانيون إلى السعي لكسب ود أوساط أخرى في المنطقة والتي وصفها ندرة المطران في كتابه "سوريا الغد" بالاتجاهات الوحدوية الاسلامية. فعمدت السياسة البريطانية في العام 1913 إلى توسيع قواعد علاقاتها في الأوساط "ذات الاتجاهات الوحدوية" وهي تحديداً المواقع الاسلامية في المنطقة العربية، ومنها سورية، الأمر الذي ساعدها في خطة الافتراق عن فرنسا وسهل أمامها التعاطي بإيجابية أوسع مع الأوساط الاسلامية ومن ثم تأليبها ضد السياسة الفرنسية المرتكزة على القوى الانكفائية مما ساهم في تزخيم الاندفاعة العروبية المرتكزة على التيار الديني الاسلامي.
هكذا تسلل الثنائي الأوروبي بهدوء وبخطة مدروسة وواسعة للتشويش على مستقبل المنطقة الحضاري، وفي غزوة متعددة الوجوه كان قطباها: الاقتصاد والثقافة، وقد استفاد هذا الثنائي ـ الغربي، كثيراً من سوء معاملة الدولة العثمانية لشعوب المنطقة العربية، وكانت "المسألة الشرقية" مصطلحاً سياسياً جديداً ذا خصوصية أوروبية، خصوصاً وأن العواصم الباحثة عن الثروة والمواد الأولية والأسواق التجارية الأكثر اتساعاً، وجدت أن السيطرة على خطوط وممرات التجارة الرئيسية آنذاك ضرورة تمليها شروط اللعبة الدولية... لا سيما وأن أحوال أوروبا وآسيا كانت تشير بوضوح إلى أن العالم سيشهد جملة من التحوّلات الصاخبة والخطرة، كما أن أحوال الامبراطورية العثمانية كانت تنذر بالتفكك والسقوط السريع، في ظروف تنامي القوى الدولية الأخرى، واحتدام تناقضات وصراعات المصالح الكبرى على إرث "الرجل المريض".
الكتاب: كهنة أم جواسيس
الكاتب: محمود غزالي
الناشر: إعلام للصحافة والخدمات بيروت
|