خلال الخمس سنوات الماضية سمع السوريون والرأي العام العربي والعالمي كثيراً عن العقوبات الأمريكية ضد سوريا وهي عقوبات لم تستهدف سويا وحدها بل استهدفت الكثير من دول المنطقة، إضافة إلى العديد من القوى السياسية في المنطقة، وخلال العام الماضي، تخطى نظام العقوبات الأمريكي استهداف سوريا والدول والمنظمات وأصبح يستهدف الأفراد والأشخاص الطبيعيين غير المنصوص عليهم في القانون الدولي.
* سوريا: ماذا وراء حملة العقوبات الأمريكية:
تعتبر العقوبات من الوسائل القديمة التي ظلت تتلازم مع الصراعات والنزاعات وكانت العقوبات تستخدم ضمن الوسائل غير العسكرية التي تقدم الدعم والمساندة للجهد العسكري الميداني، ولاحقاً بعد انهيار نظام القطبية الثنائية وصعود قوة الولايات المتحدة إلى أعلى قمة البنيان الدولي، أصبحت العقوبات بكافة أنواعها من الظواهر الصاعدة في البيئة الدولية الجديدة لجهة القيام بدور وظيفي فاعل في إعادة تشكيل هياكل وقيم وتفاعلات النظام الدولي. وبسبب الصراع العربي – الإسرائيلي فقد كان طبيعياً أن تكون سوريا هدفاً ليس بعقوبة أمريكية واحدة بل بمنظومة من العقوبات الأمريكية وغير الأمريكية، وتشير التوقعات إلى أن هذه العقوبات لن تكون فقط ضد سوريا طالما أن إسرائيل سوف تظل ترتعد فرائصها كلما ورد اسم سوريا.
* مسلسل العقوبات ضد سوريا ونطاقه:
نطاق العقوبات الأمريكية المفروض على سوريا كما هو واضح يتسم بميزتين هما:
• الازدواج النوعي: لجهة ثنائية الطرف الفارض للعقوبات والطرف المستهدف بالعقوبات. بكلمات أخرى، مهما تعددت الأطراف الفارضة للعقوبات فإن المصدر الحقيقي لها على الصعيد المعلن هو الولايات المتحدة الأمريكية وعلى الصعيد غير المعلن والذي بات شبه معلن هو إسرائيل أما الطرف المستهدف بالعقوبات فهو سوريا حصراً.
• قابلية التمدد المشروط: تحاول الولايات المتحدة حثيثاً من أجل تمديد وتوسيع نطاق عقوباتها على سوريا، بحيث لا تصبح مجرد عقوبات أمريكية فقط وإنما عقوبات دولية متعددة الأطراف عن طريق إشراك الأطراف الأخرى بها وتحقيقاً لذلك تسعى الولايات المتحدة إلى استمالة المزيد من البلدان والمنظمات بمختلف الوسائل لإشراكها في هذه العقوبات. وبرغم ذلك، فإن هناك صعوبة إن لم يكن استحالة في أن تحقق الولايات المتحدة نموذج عقوبات واسع النطاق ضد سوريا على غرار ذلك النموذج الذي تم تطبيقه سابقاً في العراق. وتأسيساً على ذلك، سوف تبقى عملية توسيع نطاق العقوبات ضد سوريا مشروطة بمدى رغبة البلدان والدول والمنظمات على التخلي عن سيادتها وإرادتها الحرة والاندماج طوعاً في ركب توجهات الإدارة الأمريكية.
حتى الآن لم تظهر أي دلائل على قبول الدول والمنظمات اعتماد العقوبات التي بادرت الإدارة الأمريكية بفرضها، وحالياً حتى حلفاء أمريكا الرئيسيين مثل بريطانيا لم يلتزموا بتطبيق أو حتى مجرد الوعد بتطبيق أي عقوبات ضد سوريا.
* أهداف العقوبات الأمريكية:
حالياً وكما هو واضح فإن نظام العقوبات الأمريكية ضد سوريا ما يزال في مرحلة البناء والتأسيس ويمكن استعراض ذلك على النحو التالي:
• الأبعاد الهيكلية البنائية: وتتمثل في مخططات شبكة نظام العقوبات التي يقوم بوضعها خبراء اللوبي الإسرائيلي وخبراء الإدارات الأمريكية ومن المؤكد أن هذه المخططات يتم وضعها لجهة استهداف الفعاليات السورية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية والعسكرية.
• الأبعاد القيمية: وتتمثل في مشروعات القوانين الأمريكية التي تسعى إلى توفير النصوص والبنود التي تبرر وتحرض وتؤسس تشريعياً وقانونياً للعقوبات.
• الأبعاد التفاعلية: وتتمثل في إدماج مسألة العقوبات ضد سوريا في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، ومحاولة تمريرها إلى حلفاء آخرين وإقناعهم بجدواها عن طريق:
* تفاهمات علاقات عبر الأطلنطي مع دول الاتحاد الأوروبي.
* تفاهمات علاقات واشنطن مع دول المعتدلين العرب.
وستحاول الإدارة الأمريكية توظيف واستغلال قدرات باريس في مرحلة ساركوزي وبرلين في مرحلة أنجيلا ميركل من أجل محاولة تعميم نظام العقوبات الأمريكية عن طريق استنساخ نموذج أوروبي مشابه أما بالنسبة لدول المعتدلين العرب فإن انكشاف هذه الدول إزاء أجندة السياسة الخارجية الأمريكية سيغري الإدارة الأمريكية إلى المزيد من الاستمرار في محاولة فرض الإملاءات الوحيدة الاتجاه على عواصم المعتدلين العرب. بكلمات أخرى، فإن واشنطن سترسل أوامرها وتعليماتها المباشرة لعواصم المعتدلين العرب من أجل تنفيذها، دون إعطاءهم أي فرصة للحوار أو التفاهم أو البحث.
* خصوصية نظام العقوبات الأمريكية:
يتميز نظام العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا بالخصوصية الشديدة لجهة العديد من الجوانب التي تميز نموذج العقوبات على سوريا عن تلك التي كانت مفروضة على العراق وليبيا والسودان وكوريا الشمالية وإيران وكوبا. ويمكن رصد تمايزات نظام العقوبات الأمريكية على سوريا لجهة المتغيرات التالية:
• متغير الطرف الفارض: الجهة الفارضة للعقوبات هي الحكومة الأمريكية وليس الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية أو الإقليمية وليس تحالفاً دولياً، وبالتالي فإن مصدر العقوبات هو دولة واحدة تتصرف من طرف واحد (unilateral) هو الحكومة الأمريكية وبالتالي فإن العقوبات ليست من النوع متعدد الأطراف (multilateral).
• متغير الطرف المستهدف: وهو أيضاً دولة واحدة هي سوريا مع وجود ملاحظة تجاوزت الأعراف والتقاليد الدولية عندما تحولت من استهداف الدولة ومؤسساتها إلى استهداف القطاع الخاص السوري ورجال الأعمال السوريين والأفراد والأشخاص الطبيعيين ويمثل هذا التوجه الأمريكي سابقة جديدة في العلاقات الدولية لجهة قيام الرئيس الأمريكي باستهداف أفراد ومواطنين دولة أخرى.
• متغير الوسائط والأدوات: استخدم الرئيس الأمريكي سلطته التنفيذية في التوقيع على الأوامر التنفيذية التي تم إعدادها بواسطة الإدارات والوكالات الأمريكية على النحو الذي يرسي سوابق جديدة في الطبيعة الإجرائية الدولاتية للعمل الحكومي الأمريكي، وحتى الآن لا يوجد أي قرار تشريعي من الكونغرس الأمريكي يؤكد على استخدام العقوبات بهذه الطريقة ضد سوريا. ولكن برغم ذلك، تحاول إدارة بوش تبرير إجراءها بالاستناد إلى القوانين السابقة مثل قانون محاسبة سوريا وغير ذلك. الوسائط التي استخدمتها وتستخدمها الإدارة الأمريكية ضد سوريا هي وسائط حتى الآن تقع ضمن دائرة الاختصاص السيادي الأمريكي مثل الحسابات في المصارف الأمريكية ومعاملات الشركات الأمريكية والخدمات المصرفية وغير المصرفية.
* مستقبل سيناريو العقوبات الأمريكية:
حتى الآن لم تسعى الإدارة الأمريكية لفرض حزمة كبيرة من العقوبات ضد سوريا، وعلينا أن نطرح سؤالاً لا يتعلق بلماذا لم تقدم الإدارة الأمريكية على إصدار قرار تطبيق العقوبات الأمريكية الشاملة ضد سوريا طالما أن بمقدورها القيام بذلك، وطالما أنه لم يعد سراً بأن واشنطن تستهدف النيل من دمشق؟ فهل تتعلق الإجابة بمدى قدرة أو رغبة إدارة بوش الراهنة على القيام بذلك، أم في ضغوط الأطراف الأخرى الرافضة للعقوبات ضد سوريا؟ والإجابة برأينا لا هذا ولا ذاك، فالإدارة الأمريكية أصدرت الكثير من القرارات الهوجاء والجائرة في حق العراق وغير العراق ولن يهمها أو "يفرق معها" كثيراً أن تصدر قراراً جائراً أهوج ضد سوريا، أما الأطراف الأخرى الرافضة، فهي لا تأثير لها لأن إدارة بوش لم تتعود الإصغاء جيداً لمن يرفضون ويعارضون توجهاتها حتى لو كانوا من حلفائها المخلصين الموجودين ضمن مثلث القاهرة – عمان – الرياض. والسبب الرئيسي لعدم قيام الإدارة الأمريكية بفرض حزمة عقوبات كبيرة شاملة ضد سوريا يتمثل في أن نموذج العقوبات الذي تقوم بتطبيقه هو نموذج يقوم على غرار موديل نظام العقوبات الزاحف (creeping sanctions system)، ويعتمد هذا النظام على الربط بين المدخلات والمخرجات. بكلمات أخرى، لا يهدف هذا النظام إلى إدراج المدخلات دفعة واحدة من أجل الحصول على المخرجات دفعة واحدة وإنما إدراج المدخلات واحدة تلو الأخرى للحصول على المخرجات واحدة تلو الأخرى، بحيث كلما تم الحصول على واحدة من المخرجات فإنه يتم فحصها ودراستها للاستفادة من النتائج في المدخلات الأخرى. إن تطبيق نظام العقوبات الزاحفة يتميز ببعض عوامل القوة وعوامل الضعف ومن نقاط ضعفه أنه يتطلب وقتاً وزمناً طويلاً وأنه سهل الاختراق بسبب عدم قابلية الأطراف الأخرى للصبر والاستمرار إضافة إلى قابلية الطرف المستهدف على القيام بالتكيف وترتيب أموره لتفادي التأثيرات والتداعيات السلبية، أما عوامل القوة فتتمثل في:
• القابلية للفحص والتقويم للمدخلات والمخرجات بواسطة الطرف أو الأطراف الخارجية والقيام بعمليات تجديد وإصلاح نظام العقوبات.
• الهدوء وعدم الإثارة بما يتيح للطرف أو الأطراف الفارضة المضي قدماً بتنفيذ بنود وأجندة نظرية المؤامرة بهدوء وبعيداً عن الإعلام وضجيج الصحفيين.
• تمهيد الطرف المستهدف من أجل تحقيق المفاجأة النهائية، لأن هذا الطرف قد لا ينتبه كثيراً في أول الأمر لتأثير العقوبات ويتعامل معها بالكثير من اللامبالاة وعدم الاكتراث، ولكن بمرور الوقت تتراكم التداعيات والمشاكل وتكون الكثير من المخارج والمنافذ قد نجح الطرف الفارض في إغلاقها، لأنه بمرور الزمن فإن التغيرات الكيفية الثانوية مهما كانت بسيطة سوف تتمخض عنها تغييرات كمية كبيرة تؤدي إلى حدوث أوضاع نوعية وكيفية جديدة تختلف تماماً عن الأولى السابقة.
إن انعدام الإرادة الجماعية لفرض العقوبات على سوريا هو انعدام سيشكل نقطة الضعف القاتلة للجهود الأمريكية الجائرة، وسوف تزداد عزلة نظام العقوبات الأمريكية إقليمياً ودولياً كلما ظلت سوريا ملتزمة بمبدأ السلام المستند إلى الحقوق العادلة والمشروعة. كذلك، تجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية قد تغير رأيها إذا توافرت بعض الظروف والتي قد تتمثل في الأحداث والمنعطفات الكبيرة التي قد تحدث بفعل الأيادي الخفية الإسرائيلية – الأمريكية في المنطقة على غرار ما حدث في عملية اغتيال رفيق الحريري.
|