تجاوزت حرب جورجيا – روسيا نطاق التداعيات المحلية والإقليمية باتجاه المزيد من التداعيات التي بدأت تلقي بظلالها على طبيعة وخصوصيات التوازن الدولي لجهة إعادة تشكيل خارطة توازن القوى الدولية وإعادة الاصطفاف في خارطة التحالفات الدولية والإقليمية.
* قوام البنيان الدولي الراهن: أبرز الفرضيات والشكوك:
خلال فترة ما قبل حرب جورجيا – روسيا كانت التحليلات المتعلقة بطبيعة قوام البنيان الدولي تراهن على قضيتين هما:
• خضوع البنيان الدولي لظاهرة القطبية الواحدة بقيادة الولايات المتحدة، وقد اعتمد أصحاب هذه الفرضية على الأداء السلوكي الأمريكي خلال الفترة الماضية وعلى وجه الخصوص في الجانبين العسكري والدبلوماسي.
• تعرض البنيان الدولي لظاهرة السيولة واللايقين لجهة أن الطبيعة الانتقالية التي يشهدها البنيان الدولي لم يتم حسم أمرها بعد وبالتالي فمن الممكن أن يتحول النظام إلى القطبية الواحدة أو إلى تعدد الأقطاب.
أصحاب الفرضية القائلة بالقطبية الواحدة بزعامة أمريكا كانوا أقرب إلى القبول والتصديق خاصة بعد نجاح الإدارة الأمريكية في غزو واحتلال العراق وأفغانستان ووضع البلدان الخليجية والسعودية تحت الاحتلال العسكري الأمريكي غير المعلن.
ولكن، على خلفية الوقائع والأحداث التي دارت مؤخراً في الساحة العراقية والأفغانية والباكستانية واللبنانية فقد جاءت رياح النظام الدولي بما لا تشتهي سفن الهيمنة الأمريكية، وكان الخبير – المفكر الأمريكي ريتشارد هاس رئيس مركز العلاقات الخارجية الأمريكية أول الذين أعلنوا بأن الهيمنة الأمريكية لم تتحقق وبأن سياسات إدارة بوش في الشرق الأوسط وتحديداً إزاء سوريا ولبنان والعراق وفلسطين كانت سبباً في انهيار مخطط الهيمنة الأمريكية الذي كان ممكناً لو لم ترتكب إدارة بوش أخطائها الفادحة إزاء هذه البلدان.
* تداعيات حرب جورجيا – روسيا على توازن القوى الدولي:
خلال الخمسة أعوام الماضية عزز مجلس الأمن القومي الأمريكي استراتيجية الاحتواء لجهة إضافة عنصر الاستباق ولم تعد الإدارة الأمريكية تنتظر نشوء المخاطر والتهديدات ثم الشروع في احتوائها وفقاً لاعتبارات الأمر الواقع وبدلاً عن ذلك فقد دفعت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي باتجاه مفهوم تعبئة القوى والموارد السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية وتجاوز منظومة القيم الدولية القائمة على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والعمل بشكل استباقي لجهة التعامل بشتى الوسائل والأساليب العسكرية وغير العسكرية مع كل ما تعتقد الإدارة الأمريكية بأنه يشكل خطراً يهدد المصالح الأمريكية.
الشروع في تنفيذ مخطط السيطرة على العالم تضمنت خطواته العملية:
• نشر القدرات العسكرية الأمريكية في سائر أنحاء العالم، إضافةً إلى اعتبار خارطة العالم بأنها تمثل المسرح العسكري الذي يتوجب أن يتم تجهيز القوات الأمريكية على أساس اعتبارات احتمالات خوض الحرب في أي مكان منه وأي زمان، واستناداً إلى هذا المفهوم قسم البنتاغون العالم إلى مناطق عسكرية بحيث أصبحت كل منطقة إقليمية تقع ضمن نطاق إحدى القيادات العسكرية الأمريكية.
• أمركة الاقتصاد العالمي وذلك عن طريق استخدام المؤسسات الاقتصادية الدولية الثلاثة الرئيسية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، في القيام بإدماج الاقتصادات العالمية ضمن إطار نفوذ الاقتصاد الأمريكي على النحو الذي يتيح للاقتصاد الأمريكي وضعاً استثنائياً ومزايا اقتصادية دولية استثنائية تعزز القدرة على نقل التضخم والبطالة وانخفاض معدلات النمو وغيرها من المؤشرات الاقتصادية الكلية السلبية إلى الاقتصادات الأخرى، وبكلمات أخرى، أن يدفع الآخرون خسائر الاقتصاد الأمريكي.
• إعادة توجيه المجتمع الدولي: وتضمنت الدفع باتجاه توظيف مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية في عملية إعادة ضبط وتقويم منظومة القيم الدولية بما يتيح للإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي ممارسة النفوذ على الكيانات الدولية كما لو أنها كيانات خاضعة لسلطة السيادة الأمريكية.
* إلى أين يسير النظام الدولي بعد حرب جورجيا – روسيا:
لم تحدث المواجهة العسكرية الروسية – الأمريكية ولكن حدثت مواجهة البروكسي بين روسيا وجورجيا التي خاضت حرباً بالوكالة عن الولايات المتحدة وقد كشفت التسريبات والحقائق أن العملية العسكرية التي نفذتها قوات الرئيس الجورجي ميخائيل ساخاشفيلي قد تم الترتيب لها بواسطة الإدارة الأمريكية ومباركة الرئيس بوش. تحليل الوقائع والأحداث وتداعياتها يشير بوضوح إلى أن عملية إعادة اصطفاف عسكري – أمني دولي ستحدث وسيكون من أبرز تداعياتها صياغة معادلة جديدة لنظام الأمن العسكري – الأمني الدولي والإقليمي ومن أبرز الملامح المتوقعة يمكن الإشارة إلى الآتي:
• تعديل نظام توازن القوى داخل مجلس الأمن الدولي على النحو الذي ستقف فيه روسيا والصين في مواجهة الولايات المتحدة التي ستجد الدعم الواضح من بريطانيا مع احتمالات أن تعود فرنسا إلى موقفها الاستقلالي السابق داخل مجلس الأمن الدولي مكونة ما يمكن أن نسميه القوة الثالثة الدولية داخل المجلس وذلك بما يتيح للفرنسيين المزيد من هامش حرية الحركة والمناورة داخل المجلس وهو أمر سيؤدي حدوثه إلى إنهاء التحالف الفرنسي – الأمريكي في مجلس الأمن والذي سبق أن أسفر عن صدور الكثير من القرارات الجائرة وعلى وجه الخصوص تلك القرارات المتعلقة بالأزمة اللبنانية وأزمة دارفور.
• تعديل بنود وأجندة علاقات عبر الأطلنطي: خلال فترة الحرب الباردة كانت واشنطن تقوم بدور الحامي والمدافع عن أوروبا في وجه الخطر الشيوعي – السوفيتي – النووي، وبعد انتهاء الحرب الباردة ظلت أمريكا تقوم بدور الشريك العسكري – الأمني المدافع عن استقرار أمن أوروبا والذي أكد ذلك عملياً بتدخله في أزمة البلقان إضافةً إلى دور الزعيم العالمي المكلف بنشر وحماية القيم الديمقراطية الليبرالية الغربية ولكن حالياً بعد حرب جورجيا – روسيا فقد أصبحت علاقات عبر الأطلنطي في مواجهة عاصفة الخلافات الأمريكية – الأوروبية لجهة رغبة بعض الأطراف الأوروبية الرئيسية مثل فرنسا وألمانيا الوقوف موقف الحياد إزاء الحرب الباردة الروسية – الأمريكية ورغبة العديد من الأطراف الأوروبية عدم الاستجابة لطلب الولايات المتحدة المتعلق بملف توسيع حلف الناتو شرقاً وضم جورجيا وأوكرانيا إلى عضويته إضافة إلى عدم رغبة الأوروبيين في الاستجابة للطلب الأمريكي المتعلق بتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً. وعلى الأغلب أن تشهد الفترة حياداً أوروبياً في بملفات التعامل مع موسكو وواشنطن.
* منظمة تعاون شنغهاي: هل تلعب دور حلف وارسو الجديد؟
تم التوقيع على اتفاقية منظمة تعاون شنغهاي في عام 2001م وظهرت المنظمة للوجود كتحالف يحمل على الصعيد المعلن صفة التعاون في مجالات التنمية الاقتصادية – الاجتماعية ولكنه على الصعيد غير المعلن كان يحمل صفة التعاون في المجالات العسكرية – الأمنية كما تضح لاحقاً.
• البعد البنائي المؤسسي: وقعت على ميثاق منظمة تعاون شنغهاي عند تأسيسها كل من: الصين، روسيا، كازخستان، كيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، وكانت أوزبكستان هي الدولة الوحيدة التي لم توقع من بين دول آيا الوسطى، واكتفت حصراً بصفة المراقب، ولكنها لاحقاً أكدت انضمامها ووقعت على عضوية الاتفاقية ثم توسعت الاتفاقية لتضم المزيد من الأعضاء الجدد، وقد شهدت الفترة الممتدة من عام 2001م حتى اليوم إعطاء صفة المراقب المرشح للانضمام لاحقاً لكل من منغوليا، الهند، باكستان، وإيران.
• البعد القيمي – الإدراكي: يشير القوام الجيو-سياسي لمنظمة تعاون شنغهاي بوضوح إلى الطبيعة والخصوصية العسكرية – الأمنية لمستقبل المنظمة، وعلى هذه الخلفية أدركت الولايات المتحدة هذه المنظمة باعتبارها مصدر الخطر والتهديد القادم وبالمقابل كانت دول منظمة تعاون شنغهاي تدرك مدى أهمية الدور الحيوي للمنظمة في درء خطر النفوذ والهيمنة الأمريكية على المنطقة.
• البعد التفاعلي – الإدراكي: استطاعت دول منظمة تعاون شنغهاي تعزيز المبادلات التجارية ورفع وتائر التعاون والتنمية الاقتصادية وفقاً لما هو وارد في ميثاق المنظمة ولكن ما كان جديراً بالملاحظة أن المنظمة أطلقت ما عرف بمبادرة مهام حفظ السلام والأمن في المنطقة وهي المبادرة التي كشفت بوضوح عن الطبيعة الأمنية – العسكرية ودورها الوظيفي المرتقب في المواجهات الإقليمية والعالمية ومن أبرز ما تم إنجازه:
- إجراء العديد من المناورات والتدريبات العسكرية العابرة للحدود.
- إقامة الكيانات المسؤولة عن التنسيق العسكري بين بلدان المنظمة والتي من أبرزها روسيا والصين ولاحقاً أصبح التنسيق قابل للتوسع والتمدد بحيث يتضمن باكستان والهند وإيران وعلى هذه الخلفية نلاحظ أن المنظمة تضم دولتين نوويتين من الأكبر في العالم على النحو الذي جعل من المنظمة تمثل أكبر تجمع نووي في العالم.
* منظمة تعاون شنغهاي وفرضية التحدي والاستجابة:
خلال الفترة الماضية تصاعدت حملة الحرب السرية الأمريكية غير المعلنة ضد روسيا والصين وتشير الوقائع والأحداث إلى أن التطورات على جبهة الحرب السرية الأمريكية وصلت إلى الآتي:
• على جبهة المواجهة مع الصين استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية النجاح في الآتي:
- إضعاف كوريا الشمالية نووياً.
- تعزيز العلاقات الأمريكية مع تايوان ودول جنوب شرق آسيا وعلى وجه الخصوص الاختراق الذي حققته واشنطن في التحالف مع فيتنام.
- تعزيز الوجود الأمريكي في المناطق البحرية المواجهة للسواحل الصينية الباسيفيكية.
- بناء تحالف أمني – عسكري يضم كوريا الجنوبية واليابان وتايوان.
- تعزيز الأسطول البحري الأمريكي في المحيط الباسفيكي.
- إشعال الاضطرابات الانفصالية في إقليم التيبت الصيني بواسطة الجماعات البوذية التبتية التابعة للدالاي لاما حليف أمريكا.
- إشعال الاضطرابات الانفصالية في إقليم سينغيانغ الصيني بواسطة الحركات الانفصالية الإيغورية الإسلامية.
- إشعال حركات الاحتجاج المدني في بالمادن الصينية الرئيسية مثل شنغهاي والعاصمة بكين.
- إشعال حملة إعلامية دولية ضد الصين لجهة تحريض الرأي العام الصيني عن طريق الاستقلال والتوظيف الإعلامي لتداعيات الزلزال الذي ضرب غرب الصين.
- استخدام آليات ووسائط الاقتصاد الدولي في التأثير سلباً على القدرات الاقتصادية الصينية.
• التطورات على جبهة الحرب السرية الروسية – الأمريكية:
- المضي قدماً في مشروع نشر بطاريات شبكة الدفاع الصاروخي في المناطق المواجهة لغرب روسيا.
- بناء الاتفاقيات الاستراتيجية العسكرية – الأمنية مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي أصبحت دولاً مستقلة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وفي هذا الخصوص:
* التحالفات مع جورجيا وأوكرانيا ودول البلطيق إضافةً إلى دول شرق أوروبا السابقة مثل بلغاريا وبولندا وتشيكيا وغيرها.
* السعي لبناء تحالف مع دول آسيا الوسطى الخمسة فس المجالات العسكرية – الأمنية.
* محاولة نشر طوق من القواعد العسكرية الأمريكية في المناطق المحيطة بروسيا.
* محاولة فرض السيطرة العسكرية البحرية الأمريكية على مناطق بحر أركتيك ومناطق الدائرة القطبية الشمالية.
* تحريض حركات الاحتجاج المدني داخل روسيا بما يتيح المجال أمام إشعال سيناريو الثورة الملونة لإسقاط النظام السياسي الروسي.
* السعي لفرض السيطرة على مخزونات الغاز والنفط الموجودة في مناطق بحر قزوين والقوقاز وآسيا الوسطى بما يؤدي إلى حرمان روسيا من المزايا المتعلقة بهذه المخزونات.
* السعي للسيطرة على الممرات البحرية ذات القيمة والأهمية الاستراتيجية الكبيرة في تسهيل عملية خنق روسيا وإغلاق منافذ انفتاحها على العالم وعلى وجه الخصوص منطقة القوقاز والممرات البرية الاستراتيجية في مناطق آسيا الوسطى وشرق أوروبا والمناطق البحرية الباسفيكية الموجودة في الجزء البحري المقابل لأقصى شرق روسيا.
برغم التقدم الذي أحرزته أمريكا وحلفاءها في جبهات الحرب السرية ضد الصين وروسيا فقد سعت أمريكا أيضاً إلى استغلال وتوظيف الوقائع والأحداث الجارية لجهة إشعال وإعادة إنتاج الخلاف الروسي – الصيني على خط موسكو – بكين.
حتى الآن وبرغم نجاح الدبلوماسية الوقائية الفرنسية في نقل الصراع الجورجي – الروسي من مرحلة التصعيد إلى مرحلة التهدئة، فإن الصراع على خط موسكو – واشنطن قد انتقل من مرحلة التهدئة إلى مرحلة التصعيد وعلى ما يبدو فإن الحرب السرية على خط موسكو – واشنطن ستنضم إليها العديد من الأطراف الأخرى وبالتالي تتوقع أن تؤدي استقطابات الحرب الباردة الجديدة إلى بلورة الأقطاب الدولية الآتية:
• معسكر حلفاء واشنطن: أمريكا، بريطانيا، إسرائيل، كوريا الجنوبية.
• معسكر حلفاء موسكو: روسيا، الصين، فنزويلا.
هذا، وتشير التحليلات إلى أن موقع إيران على خارطة التحالفات الدولية سيتحدد وفقاً لما ستسفر عنه «مفاوضات المنطقة الخضراء العراقية» بين طهران وواشنطن أما موقف تركيا فسيتوقف أيضاً على مدى جدية أمريكا في دعم مشروع انضمام تركيا الاتحاد الأوروبي وعلى ما يبدو فإن انقسام العالم إلى معسكرين سيعزز موقف أنقرة ويتيح لها استخدام مزايا موقعها الاستراتيجي الهام في الحرب الباردة الجديدة في ابتزاز واشنطن بحيث لن يكون أمام واشنطن سوى خيار الدفع باتجاه ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والقضاء على الحركات الانفصالية الكردية والتخلي عن أرمينيا وترويض إسرائيل وفقاً لمشروع السلام التركي في الوساطة بين سوريا وإسرائيل، أو تواجه أمريكا مخاطر فقدان تركيا التي ستتحول بكل سهولة للتحالف مع موسكو التي بدورها لن تتردد في تمرير خطوط النفط والغاز عبر الأراضي والموانئ التركية وهو أمر سيمثل بالنسبة لواشنطن سيناريو الكابوس التركي الذي لن يترتب عليه سوى أمر واحد فقط هو الانهيار الكامل لمشروع الهيمنة على العالم.
|