الجمل: تقول حقائق التاريخ والجغرافيا أن تأثير العامل السوري سيظل من بين الأكثر فعالية في توجيه وإعادة توجيه تفاعلات العملية السياسية العراقية الجارية حالياً بشقيها، سواء على مستوى تحالف المتعاملين العراقيين المسيطر على بغداد أو القوى العراقية المنخرطة في مقاومة الاحتلال.
* الإدراك الأمريكي لتأثير العامل السوري:
اهتمت مراكز الدراسات الأمريكية بدراسة تأثير العامل السوري على الوضع العراقي، هذا وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام هذه المراكز بدراسة تأثير العامل السوري قد برز بشكل واسع النطاق خلال الفترة الممتدة من لحظة قيام القوات الأمريكية بغزو واحتلال العراق وحتى الآن.
الفحص والتدقيق في إصدارات مراكز الدراسات الأمريكية وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بسوريا والدور الإقليمي السوري، يفضيان بنا إلى تصنيف مراكز الدراسات الأمريكية ضمن ثلاثة مجموعات يمكن الإشارة إليها على النحو الآتي:
• المجموعة الأولى: تتكون من مراكز الدراسات التابعة للوبي الإسرائيلي وحركات المسيحية – الصهيونية، وبعض أجنحة الحزب الجمهوري التي يتزعمها بعض صقور الإدارة الأمريكية ويندرج ضمن هذه المراكز على سبيل المثال: معهد المسعى الأمريكي، معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وجميع هذه المراكز تهتم بتسويق العداء السافر لسوريا.
• المجموعة الثانية: تتكون من مراكز الدراسات ذات التوجهات التي تندرج ضمن أمركة العالم وفقاً لمخطط العولمة الاقتصادية ومعظم هذه المراكز يتبع لبعض أجنحة الحزب الديمقراطي الأمريكي مع ملاحظة أن هذه المراكز وإن كانت أكثر تحيزاً لإسرائيل، فإنها تهتم بتسويق صيغ العداء الناعم لسوريا من خلال التأكيد على ضرورة التعامل مع سوريا وإشراكها، ولكن كما يعرف الجميع من أجل تحقيق نفس ما تهدف إليه مراكز المجموعة الأولى، ويندرج ضمن المجموعة الثانية معهد كاتو، ومركز بيكر، ومؤسسة بروكينغز.
• المجموعة الثالثة: تتكون من مراكز الدراسات ذات الطابع الأكاديمي الصرف، وبرغم أنها لا تخلو من تحيز نسبي لصالح إسرائيل عند معالجة قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن هذه المراكز يمكن اعتبارها الأفضل نسبياً ويندرج ضمن هذه المجموعة: مركز مؤسسة الراند، مركز التقدم الأمريكي الجديد، وما شابهها.
بكلمات أخرى، فقد لعب تأثير العامل السوري دوراً كبيراً ورئيسياً في تشكيل إدراك الأمريكيين إزاء تأثير هذا العامل على الأوضاع العراقية واللبنانية والفلسطينية وغيرها.
* معهد السلام الأمريكي وملف الجوار الإقليمي العراقي:
نشر معهد السلام الأمريكي ورقة عمل أعدها فريق من الخبراء في المعهد، حول دول الجوار الإقليمي العراقي وأشار ملخص الورقة التنفيذي إلى النقاط الآتية:
• ينصب اهتمام دول الجوار العراقي على ملف صراعات الهوية والانتماء الطائفي العراقي.
• مدى إمكانية احتواء هذه الصراعات والنزاعات العراقية – العراقية، هو العامل الذي يحدد مستقبل العلاقات بين العراق ودول جواره.
• لا توجد دولة من دول الجوار العراقي ترغب في عزل نفسها عن العراق.
• تنظر دول الجوار العراقي إلى إدارة أوباما على أمل أن تتبنى نهجاً يهدف لاستقرار العراق.
• خلال الأعوام الماضية ظل العراق بسبب مشاكله الداخلية أكثر انعزالاً عن دول الجوار العراقي.
وتجدر الإشارة إلى أن رغبة دول الجوار العراقي وإن كانت تطالب باستقرار العراق وخروج القوات الأمريكية منه فإنها تختلف لجهة الأولويات، فالسعودية مثلاً تطالب باستقرار العراق أولاً ومن ثم خروج القوات الأمريكية منه، أما الدول الأخرى فترى أن تخرج القوات الأمريكية أولاً، باعتباره الشرط الموضوعي لاستقرار العراق والذي لن يستقر في ظل الاحتلال عملاً بالمبدأ المعروف: لا استقرار مع الاحتلال.
* البيئة الإقليمية العراقية: الملامح العامة:
تتداخل البيئة السياسية – الاجتماعية العراقية مع ستة دول مشكلة ما يعرف بتقاطعات الحوار الإقليمي العراقي، ويتضمن ذلك الكويت والسعودية من الجنوب والجنوب الغربي، سوريا والأردن من الغرب والشمال الغربي، تركيا من الشمال، وإيران من الشرق. وكل واحدة من هذه الدول تشكل عامل تأثير منفصل التداعيات على تفعيل سيناريوهات الوضع السياسي العراقي، ولتوضيح ذلك نشير إلى الآتي:
• تأثير العامل السوري: تغطي تأثيراته الجزئية مناطق شمال غرب العراق (الأنبار)، وشمال شرق العراق (كردستان ومحافظة نينوى) وما هو أهم، يتمثل في التأثيرات الكلية، وذلك لأن كل النخب السياسية العراقية والقوام المجتمعي العراقي ظل أكثر ارتباطاً بسوريا، وما هو أهم يتمثل في أن الفكر السياسي العراقي المعاصر كان أكثر ارتباطاً بالفكر السياسي المعاصر السوري، ولا توجد أي دولة بخلاف سوريا يمكن القول أن فكرها السياسي مارس تأثيرا متبادلاً مع الفكر السياسي العراقي بل وحتى تاريخ الحركة الوطنية العراقية.
• تأثير العامل السعودي: برغم طول الحدود السعودية – العراقية، فإن تأثير العامل السعودي يعتبر محدوداً بسبب جملة من الأسباب والتي يأتي في مقدمتها:
- الطابع الصحراوي الصرف لمناطق الحدود.
- انعدام الترابط التاريخي بين النخب السياسية العراقية (العلمانية) والسعودية (السنية الوهابية).
- تزايد وكثرة الخلافات السعودية – العراقية خلال الخمسين عاماً الماضية.
وحالياً، لا تملك السعودية أي قدرة على التأثير في الملف العراقي إلا من خلال القبائل الرعوية السنية المحدودة التأثير في المناطق الحدودية الصحراوية أو من خلال زعماء الجماعات الإسلامية المتطرفة، أو من خلال محاولة التعامل مع سلطات الاحتلال الأمريكي عبر علاقات خط الرياض – واشنطن.
• تأثير العامل الإيراني: يمارس العامل الإيراني تأثيره من خلال نفوذ العلاقات الطائفية الشيعية على خط النجف – قم، والعلاقات الاقتصادية والتجارية مع جنوب العراق.
• تأثير العامل التركي: يمارس العامل التركي تأثيره من خلال ملف الصراع التركي – الكردي الذي يندرج في مناطق الشمال العراقي إضافة إلى العلاقات التجارية – الاقتصادية العراقية – التركية.
• تأثير العامل الأردني: لا يتخطى تأثيره حدود بعض عشائر مناطق غرب الأنبار التي ترتبط بقدر أكبر مع سوريا.
• تأثير العامل الكويتي: لا يتخطى نطاق العلاقات العشائرية مع مناطق جنوب العراق.
على هذه الخلفية نلاحظ بوضوح أن تأثير عوامل الجوار الإقليمي وإن كانت تختلف لجهة الكم والكيف، فإن أربعة تعتبر هي الأكثر تأثيراً وهي العامل السوري والإيراني والسعودي والتركي.
* المفاضلة بين تأثير العامل السوري وتأثير العامل السعودي:
عمدت قوات الاحتلال الأمريكي منذ البداية باتجاه محاولة عزل العراق عن دول الجوار ولكن بشكل متفاوت وبالنسبة لسوريا والعراق نلاحظ الآتي:
• سعت سلطات الاحتلال الأمريكي باتجاه عزل سوريا عن العراق بما يؤدي إلى تغييب مفاعيل تأثير العامل السوري عن البيئة السياسية العراقية.
• سعت سلطات الاحتلال الأمريكي باتجاه السيطرة على العامل السعودي بما يتيح توظيفه واستغلاله لفرض سيطرة قوات الاحتلال في العراق.
ولكن وبعد أن تزايدت عمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال واندلاع الصراع الشيعي – السني في المسرح العراقي وتحقق الإدارة الأمريكية من عدم جدوى توجيه الاتهامات ضد سوريا، فقد سعت سلطات الاحتلال إلى الآتي:
• استغلال القدرات السورية بحيث تشكل قيمة مضافة لقدرات الاحتلال لجهة ضبط الساحة العراقية والسيطرة عليها.
• استخدام الترهيب والترغيب لدفع دمشق إلى القبول بالتعاون مع أمريكا وفقاً لشروط وإملاءات واشنطن.
برغم سعي إدارة بوش الحثيث خلال الفترة الماضية فإن دمشق لم تبد أي استجابة بالشكل المطلوب أمريكياً وكانت النتيجة عدم نجاح أمريكا لا في ضبط استقرار العراق ولا في إقناع سوريا.
المقارنة بين العامل السوري والعامل السعودي يشير إلى الآتي:
• لجهة الإدراك: تنظر دمشق إلى العراق باعتباره أزمة فرعية ضمن ملف الشرق الأوسط وبالتالي فإن المنظور السوري أكثر انسجاماً مع المفهوم التكاملي الذي يعتبر ارتباط كل أزمات المنطقة بملف الصراع العربي – الإسرائيلي. أما بالنسبة للرياض فإنها تنظر للعراق على أساس اعتبارات الأمر الواقع المتمثل في التعامل مع سلطات الاحتلال الأمريكي وبعد ذلك النظر في خروج القوات الأمريكية من العراق.
• لجهة العلاقات مع سلطات الاحتلال، فلم تقم دمشق بتقديم أي مزايا أو تسهيلات عسكرية أو أمنية لأمريكا بعكس الرياض التي تستضيف على أراضيها القواعد الأمريكية إضافة لقيام الرياض بتقديم المزيد من الدعم المالي تحت غطاء إعادة تعمير العراق.
• لجهة العلاقات الشعبية: تستضيف سوريا ملايين المواطنين العراقيين الذين تعرضوا لمخاطر وتهديدات قوات الاحتلال والمليشيات العراقية، بعكس الرياض التي لا تستضيف اللاجئين العراقيين إلا ضمن نذر ضئيل للغاية وفي نطاق حدودها مع العراق ولا يتجاوز بضع مئات من العراقيين القاطنين في مناطق الحدود مع السعودية الذين هم في نفس الوقت من أبناء القبائل السعودية التي تعيش في المناطق السعودية المجاورة للحدود العراقية، وتجدر الإشارة إلى أن سلطات المملكة لم تقبل بوجودهم إلا خوفاً من أن يؤدي طردهم إلى تذمر قبائل السعودية.
• لجهة العلاقات الاقتصادية: لم تسع سوريا إلى إغلاق معابر حركة نقل السلع والأفراد مع العراق، بما يؤدي إلى تعزيز المواطنين العراقيين في الحصول على احتياجاتهم المدينة من السلع الاستهلاكية والخدمات الضرورة إضافة إلى أن المعابر والمنافذ الحدودية أتاحت للكثير من العراقيين سبل الخروج والنجاة من مخاطر القتل والدمار الذي لحق بهم، أما بالنسبة للسعودية، فبرغم أنها لم تغلق المعابر أمام حركة نقل السلع فقد أغلقتها أمام حركة الأفراد واللاجئين والنازحين لأسباب إنسانية من داخل العراق.
• لجهة العلاقات السياسية: لم تسع سوريا إلى التمييز بين الأطراف والقوى السياسية العراقية، وظلت تتعامل وفق مبدأ واحد وثابت مع كل الأطراف وهو إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقرار ضمن عراق واحد ومستقل وبالنسبة للسعودية فقد لجأت منذ البداية إلى التعامل مع سلطات الاحتلال الأمريكي والقوى السنية العراقية، وذلك على النحو الذي خلق التوترات مع القوى الشيعية العراقية، والنخبة السياسية المسيطرة على بغداد وقد أدى ذلك إلى تورط السعودية كلاعب متحيز ساحة الصراع العراقي – العراقي والصراع العراقي – الأمريكي.
* إدارة أوباما: بين خيار دمشق وخيار الرياض:
يقول المنظور السعودي بضرورة تحقيق الاستقرار ثم إنهاء الاحتلال ويقول المنظور السوري بضرورة إنهاء الاحتلال ثم تحقيق الاستقرار.
وحالياً، فإن خبراء الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة وعلى ما يبدو، سوف يواجهون المزيد من الخلافات بسبب الاختلاف على خيار المنظور السوري أم المنظور السعودي، وتأسيساً على ذلك، فإن المؤيدين المؤبد لاستمرار وجود الاحتلال الأمريكي أصبحوا يستعينون بمعطيات المنظور السعودي لجهة إقناع وحث إدارة أوباما بضرورة عدم سحي القوات الأمريكية إلا بعد تحقيق الاستقرار المطلوب ليس أمريكياً وحسب، وإنما بواسطة السعودية التي تمثل حليف أمريكا الرئيسي في المنطقة.
المنظور السوري القائل بإنهاء الاحتلال وترك أمر الاستقرار لقرار الشعب العراقي، وتعاون دول الجوار معه، هو المنظور الذي يجد القبول بواسطة الأغلبية الساحقة العظمى من العراقيين، باستثناء طرفين هم:
• تحالف المتعاملين العراقيين المسيطر على بغداد وإن كان بعض هؤلاء المتعاملين قد بدأ يرفض استمرار الاحتلال.
• الحركات الكردية الانفصالية المسيطرة على إقليم كردستان العراقي، ترى في وجود واستمرار الاحتلال الأمريكي للعراق سنداً تكتيكياً يتيح لها البقاء والاستمرار وتفادي شبح الضربات العسكرية التركية.
المنظور السعودي إزاء العراق، أصبح قيمة مضافة للمنظور الإسرائيلي إزاء العراق ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
• استمرار الاحتلال الأمريكي لحين تحقيق استقرار العراق، هو بالأساس الذريعة التي صاغها خبراء اللوبي الإسرائيلي، وتحديداً الخبير اليهودي الأمريكي فريدريك كاغان مهندس ملفات استمرار الاحتلال الأمريكي التي ظل يصدرها واحداً تلو الآخر معهد المسعى الأمريكي.
• استمرار الاحتلال الأمريكي لحين تحقيق استقرار العراق، ينظر إليه الإسرائيليون باعتباره أمراً ضرورياً ملزماً لأمريكا، الضامنة لأمن إسرائيل التي يتوجب عليها إبقاء قواتها في العراق في العراق لجهة ردع الخط الإيراني عن إسرائيل وردع تزايد الجماعات الإسلامية المسلحة التي يمكن أن تسعى لدعم الحركات الفلسطينية الإسلامية المسلحة في حالة خروج القوات الأمريكية من العراق.
حتى الآن، يمكن الملاحظة بأن المنظور السعودي بشكله الحالي سوف يشكل أحد مصادر الخطر إزاء أمن العراق وأمن الشرق الأوسط، وتأسيساً على الافتراض القائل بأن المنظور السعودي هو بالأساس منظور تمت صياغته على خلفية الضغوط والإملاءات الأمريكية التي كانت تمارسها إدارة بوش على الرياض، فإن ذهاب إدارة بوش وصعود إدارة أوباما الساعية من أجل سحب القوات وإنهاء الاحتلال هو أمر يمثل فرصة لابد من استغلالها وتوظيفها لجهة قيام الأطراف العربية، وتحديداً دمشق لجهة التحاور والتفاهم مع الرياض بما يتيح لمجلس الأمن القومي السعودي والخارجية والبلاط الملكي السعودي، التحول باتجاه موقف أكثر إيجابية إزاء وحدة وسلامة واستقرار واستغلال سيادة العراق ولا حرج على السعودية من القيام بتغيير منظورها السابق، طالما أن الإدارة الأمريكية الجديدة تتبنى منظوراً يختلف عن الإدارة الأمريكية السابقة وبكلمات أخرى إذا كانت الرياض قد التزمت باللعب مع الهواء الأمريكي السابق فإن الهواء الأمريكي الجديد قد غير اتجاهه وعلى الرياض أن تغير اتجاهها حتى لا تجد نفسها وهي تلعب عكس الهواء الأمريكي الجديد!!
|