تستكمل البناء نشر دراسة الزميل نظام مارديني حول الصراع من الشرق الأوسط إلى القوقاز في الحلقة الثانية على ان تنشر غدا الحلقة الثالثة والأخيرة.
ثالثاً: في هذه اللحظة الفاصلة من الحراك الدولي، يذهب الرئيس السوري بشار الأسد الى روسيا ويحط رحاله ضيفاً كبيراً على الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في منتجع سوتشي على البحر الأسود.وهي الزيارة الثالثة من نوعها الى هذا البلد الحليف لقضايانا، غير أن هذه الزيارة تكتسب أهمية خاصة في ضوء الظروف الإقليمية والدولية التي تدفع دمشق وموسكو الى توثيق علاقاتهما الثنائية في مختلف المجالات العسكرية والتكنولوجية، لا سيما وأن روسيا تشعر أنها مستهدفة في القوقازمن قبل الغرب وهو الشعور الذي عانت منه سورية خلال طيلة السنوات الماضية. لذلك حرص الأسد عشية وصوله
الى روسيا على اظهار تضامن دمشق مع موسكو في أزمتها مع الغرب. لم يكن المطروح في أزمة القوقاز التي تم إيقاظها فجأة، وحسمتها موسكو بسرعة إن كنت الى جانب روسيا أم جورجيا،إنما إدارة الأزمة بتلك الحنكة السياسية، التي يتمتع بها رئيس الوزراء الروسي فلادمير بوتين، التي أكدت بقوة عودة الحرب الباردة من جديد، بعدما تعود العالم على القطبية الأحادية التي تزعمتها الولايات المتحدة، منذ سقوط الأتحاد السوفييتي في آب العام 1991 . وليس سراً أن إدارة جورج دبليو بوش السابقة، وحلفائها من المحافظين الجدد بقيادة وولفو ويتز، وديك تشيني، ورامسفيلد وكوندليزا رايس، كانوا هم المسؤولين عن دفع العالم من جديد الى مناخات المواجهات الدولية، في وقت كانت الشعوب أكثر أقتناعاً بأن التعددية في مراكز القرار العالمي، هي أفضل من أنفرادية الأحادية القطبية فالزيارة، إذاً، لم تأت من فراغ، بل لها ما يحركها، رغم الحديث عن تسليح روسي متطور لسورية، ولكن مصدر التأييد السوري لموسكو نابع من رغبة سورية في تحريك عجلات الدور السوري بشكل أكثر حيوية تجاه جميع الحلفاء، فما يهدد روسيا لا يختلف عما يهدد حليفيها سورية وإيران، وإلا بماذا
نفسر تدمير القوات الروسية لقواعد صاروخية كانت قد ركزتها «إسرائيل » في الأراضي الجورجية باتجاه الأراضي الإيرانية، أو مسارعة سورية في الوقوف الى جانب حليفتها في مواجهتها للهيمنة الأميركية، فالمعركة واحدة من الهلال
الخصيب « لبنان وفلسطين والعراق » الى إيران. في خضم هذا الواقع المتقدم من المواجهة بين قوى الممانعة والهيمنة،
يتنامى السؤال التالي: ماذا لو أتخذت موسكو قراراً يقضي ببيع سورية مجاميع من أنظمة الصواريخ الحديثة والمتطورة المضادة للطائرات، والأتفاق على إقامة قواعد إرتكاز روسية فوق أراضيهم؟ لا شك أن هكذا أتفاق إذا حصل سيحرم الطيران «الإسرائيلي » من مواصلة أنتهاكها للأجواء اللبنانية وبالتالي السورية، علاوة على أنه سيساهم في قلب موازين القوى في المنطقة، كما سيعمل على إحداث خلل إستراتيجي سيكون من الصعب تداركه، وهذا ما يفسر رد الفعل الأميركي «الإسرائيلي » على زيارة الأسد الى روسيا والحديث المتواتر عن صفقة الأسلحة الروسية الى سورية.
استخدام الإسلام السياسي
لم يكن صعباً قرار رئيس الوزراء الروسي فلادمير بوتين شن الحرب على جورجيا وطردها من أوسيتيا الجنوبية، وأحتلال أراض جورجية وصولاً الى مشارف العاصمة تبليسي، بل كان قراراً واضحاً وجريئاً، وحظي بنوع من الفهم المضمر بين المراقبين الغربيين ذوي التوجه الليبرالي والبراغماتي. فهو أراد التأكيد على أن الحرب ضد صربيا في العام 1999 ، وإعلان استقلال كوسوفو، كانت أستثناءً، وشكل أستسلام بوريس يلتسين للغرب في تلك المرحلة إهانة لروسيا، ولولا أختراقه بمراكز قوى «مؤمركة ومتصهينة » داخل الدولة والمجتمع لما تجرأت إدارة بيل كلينتون والحلف الأطلسي على شن حرب ضد
صربيا. ما نريد التأكيد عليه هو أن الحرب ضد صربيا كانت استثناء بالنسبة لاندلاع حرب في أوروبا، وهو استثناء حتى في مرحلة السنوات العشر التي تلت انتهاء الحرب الباردة. ومن هنا فقد جاء خارج السياق اشتعال لهيب الحرب بين روسيا وجورجيا بعد أن انتهى عهد يلتسين، وأستعادت روسيا قوتها وتماسكها من خلال تمكن بوتين من تصفية مراكز القوى المؤمركة والمتصهينة، ومن ثم إعادة بناء الدولة الروسية ذات الأنياب والمخالب النووية الصاروخية وقد غدت مرة أخرى، دولة كبرى، يجب أن يحسب حسابها، بعدما كادت الإستراتيجية الأميركية في السنوات العشر الأولى، بعد إنهيار الإتحاد
السوفييتي وحلف وارسو، أن تذهب بروسيا الى الأنحلال السياسي والأمني والأقتصادي والأجتماعي والثقافي، في عهد يلتسين الضعيف والفاسد، فكان الأستسلام في حرب صربيا والغرق في الديون علامتان لا تخطئان في الدلالة على ذلك المصير، إلا أن الخطأ المميت الذي وقعت فيه الولايات المتحدة كان في مجيء المحافظين الجدد بإستراتيجيتهم الغبية التي تخلت عن متابعة تفكيك روسيا والضغط على الصين لتلقى المصير نفسه، وذلك بجعلهم «الحرب على الأرهاب » أولوية الإستراتيجية الأميركية، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير، الذي يقضي بتفكيك بعض الدول العربية والإسلامية وفرض أستسلامها لصالح المشروع، الأميركي- «الإسرائيلي »، وجاء أحتلال العراق وتفكيكه وإزالته من الخارطة كدولة موحدة، في سياق هذا السيناريو الجهنمي. بإختصار عندما توصف إستراتيجية المحافظين الجدد بالغباء فهذا لتفسير النتائج التي نجمت عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إذ دفعت هذه الإسترتيجية، الدول التي تنافس أو يمكن أن تنافس هيمنة أميركا العالمية، عسكرياً أو أقتصادياً الى مرتبة ثانية، واضعة في أولوياتها دولاً وقوى لاتنافس، ولا يمكن أن تنافس في مدى قريب، وهي بذلك قدمت هدية لا تقدر بثمن لروسيا والصين والهند والبرازيل، فضلاً عن قوى ممانعة وشعبية تصلبت في المقاومة والمواجهة،مثل سورية وإيران وفنزويلا، وفصائل المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق. في ضوء هذه المعادلة، يجب أن تقرأ الحرب الروسية- الجورجية وما قد ينجم عنها من تداعيات ونتائج على أوروبا والعالم، لاسيما بالنسبة للعلاقات
الروسية- الأميركية، وهنا تكتسب جورجيا دوراً متقدماً في إستراتيجية محاصرة روسيا من خلال محورين أثنين:
} معبر لأنابيب النفط والغاز، من حوض قزوين الى تركيا، ومنها الى أوروبا، ويصل طولها الى 1770 كم وبتكلفة 3 بلايين دولار، بدلاً من مرور هذه الأنابيب عبر روسيا.
} إعتمادها مقراً للنفوذ الأميركي- «الإسرائيلي »، في تطويع الجمهوريات الإسلامية )السوفييتية سابقاً(، خدمة للأهداف الإستراتيجية الكبرى، وأهمها محاصرة روسيا. وبذلك ستعمل الإدارة الأميركية، في المرحلة المقبلة، رداً على الأنتصار
الروسي الأخير الساحق، جعل جورجيا معبراً ل «المتطوعين » الإسلاميين الى جبهة الشيشان، التي تعمل ال «سي آي إيه » و «الموساد » على إعادة تحريكها من جديد ضد القوات الروسية.
العراق في الصراع القاري
كشفت عملية نقل القوات الجورجية من العراق الى تبليسي بطائرات أميركية عن أن واشنطن لا يدور بخلدها الانسحاب أو تأشير وقت له، لذا فأن تصريح وزير الخارجية العراقية هوشيار زيباري من أن القوات الأميركية قد تستعد للأنسحاب بعد ثلاث سنوات، جاء بمثابة اشارة صريحة على بقاء الأحتلال الأميركي، وعلى أن العراق أصبح جزءاً مهماً من الصراع القاري بين الولايات المتحدة وروسيا. وهذا التصريح لزيباري جاء بعد لقاءه وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس، التي زارت بغداد فجأة في الحادي والعشرين من آب، حيث أعلنا أن بغداد وواشنطن «قريبتان جداً » من توقيع الأتفاقية الأمنية،
غير أن هذا التصريح الثنائي أيضاً جاء مبهماً، وعكس الأضطراب الذي يرافق التحرك الأميركي، بعد زيارة الأسد الى روسيا وتصريحاته القوية للصحافة الروسية،والتي أشارت الى الطبيعة التحالفية التي تربط العلاقات السورية- الروسية .
ومعلوم أن واشنطن تريد زرع شبكة صواريخ في جورجيا بهدف تشديد الحصار على روسيا عن طريق استراتيجية أميركية واسعة للسيطرة على «الاراضي الداخلية »، أو ما يطلق عليه الجيوسياسيون التاريخيون مصطلح قلب الارض )هارت لاند(، الذي يشمل توصيفاً «آسيا السوفييتية سابقاً وحوض البلطيق وجزءاً من الصين والهند وإيران .»
هذا الهدف الاميركي يرمي الى غاية استراتيجية، وهي منع روسيا، كونها دولة برية كبيرة منسجمة وقوية من السيطرة على المياه والاراضي الشاسعة المحيطة بها. لذا فأن الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً، تعمل بكل جهدها وامكانياتها الاستراتيجية العالمية للحيلولة بين روسيا وبين البحار. وهذه قصة لها جذور تاريخية وجغرافية بأهداف سياسية من مثل الحيلولة دون بلوغ الاتحاد السوفييتي السابق المياه الدافئة، والمقصود هنا مياه الخليج العربي، وحالياً وبعد الهيمنة الاميركية المنفردة على المياه الدافئة أنتقل العمل الى حجب المحيط الهادي والمحيط الاطلسي عن روسيا وقوتها التي تحاول بها مواجهة الاستراتيجية الاميركية خلال هذا القرن. وإذا نظرنا الى خارطة التحرك الاميركي في آسيا فأن العراق سيشكل محوراً مهماً في سياسة الحرب الباردة الجديدة، والصراع مع روسيا والصين من الناحية الجغرافية العسكرية، أي في سياسة مسك الأرض والتضييق على الآخر بتقليص مجاله الحيوي الأمني. أما لماذا يشكل العراق محوراً مهماً فللأسباب التالية:
أولاً: يتيح العراق للولايات المتحدة ان تستثمر أرضه لاستخداماتها الحربية كونه لا يبعد عن روسيا سوى مئات قليلة من الكيلومترات في المنطقة الشمالية منه خصوصاً.
ثانياً: مجاورته لإيران التي تتشكل لها حالياً صلات استراتيجية مع روسيا، حيث بامكان الولايات المتحدة و «إسرائيل » مراقبة التحركات الروسية الإيرانية المشتركة.
ثالثاً: يوفر العراق للاستراتيجية الأميركية الطاقة اللازمة التي تتطلبها أعمالها العسكرية في آسيا وفي المنطقة عموماً، فضلاً عن تشكيله مع دول الخليج خطاً لوجستياً رئيسياً منسجماً وعمقاً استراتيجياً لوجودها العسكري.
فالعراق في ضوء هذا الواقع، عند الاستراتيجيين الأميركيين سيخرج من إطار المنافسة والصراع الإقليمي الى المنافسة والصراع القاري نتيجة تصاعد الصراع الأميركي مع روسيا حالياً من جهة وتحسباً لتطوراته، التي قد تتحول الى تداعيات سريعة تشمل الصين في المدى المنظور من جهة أخرى، إذ تتوقع الادارة الأميركية مفاجآت كبيرة في موقف وامكانيات
التنين الأصفر، كانت قد أبدت صراحة قلقها من مؤشرات أعلنتها بكين بصدد الزيادة الكبيرة في ميزانية وزارة دفاعها وقواتها المسلحة المدعومة بتطور متصاعد في النمو الاقتصادي لا يقل عن 8 بالمئة سنوياً في الوقت الذي يعيش فيه الأقتصاد الأميركي أزمة متنامية.
|