مخطيء من يعتقد ان الاصلاح يكون بالكلام والتنظير وكثرة المطالب والالحاح بسرعة الاستجابة ، ومخطيء أكثر من يتوهم أن الاصلاح يتحقق بمسيرات الشوارع والصياح والضجيج وتخريب المرافق العامة والخاصة والاعـتـداء على المـواطـنين باسم الـثـورة . فالـثـورة لا تكـون بالتخريب ، بل بالبناء . ولا تتحقق بالكلام ، بل بالأفعال . ولا تتقدم بالمنى والأحلام ، بل بارتقاء الفكر وقوة الإرادة.
واذا كان ما يميز الانسان عن الحيوان هو العقل ، فان العقل يبقى ويستمر هو الشرع الأعلى في الوجود . والله ما وهب الانسان العقل باطلا ً ، ولا جعله سيد الخليقة عبثا ً. ولا اختصه بالرسالات السماوية والدنيوية سدى . ولا منحه موهبة التفكير والتبصر والتمييز والاختيار والقدرة على الاقدام والفعل بعامل صدفة . بل ان الله جهـّز الانسان بكل تلك الخصائص والميّزات ليرفعه بها من ادنى الدركات التي هي ما دون البهيمية المنحطة الى اعلى الدرجات التي تتخطى وتتجاوز مستويات الملائكية الراقية . فاذا قصَّر عقل الانسان في وظيفته ، انحط فكره ، وساءت ارادته واستقر في مستـنقع التوحش منفعلا ً وغير فاعل ولا يمت بصلة الى أي نوع من أنواع الحضارة . أما اذا قام عقـله بوظيفته كما ينبغي وكما اراد واهب العقل ، فانه يحمل الانسان على اليقظة ، واليقظة تقود الى الوعيّ ، والوعيّ يحرك فيه الفكر ، والفكر يندفع باتجاه الرقيّ فيرتقي، ويرتقي مستوى فعل الارادة من الفعل الزائل الذي يزول بزوال الفرد الى مستوى فعل الارادة الدائم الذي يستمر باستمرار سير حياة المجتمع، فتنشأ بذلك الحضارة التي ترتقي فيها الحياة الانسانية وتعود بالخير على المجتمع، وبالتالي على افراده في جيلهم الحاضر والاجيال التي تلي .
لكن اذا كان استقرار الحالة البدائية البشرية يقوم على ركودها ونمطيتها الروتينية ، فان استقرار حالة الحضارة لا يكون الا بديناميتها الحركية المتجهة دائما الى التقدم والمـزيد من الرقيّ . وعندما تختـل حركية الحضارة بأحد العوامل الداخلية او الخارجية او الطبيعية كحصول تقصير او اهمال عن قصد او غـيـر قصد في مؤسسات مصالح المجتمع او في ابنائه من الداخل ، او في خضوع المجتمع لحروب وغزوات واحتلالات تجتاحه من الخارج ، او في تعـرضه لكـوارث طبـيعـية لا قـدرة لـه على مواجهتها ، فان المجتمع في هذه الحالات يصاب بالتخلخل والخراب ويفقد كثيـرا من حيـويته ويصبح بحاجة كبـيـرة الى كـل عـمليات الاصلاح الـتي تتطلبها الحضارة والمدنية . وهذا ما أصاب أمتنا وجلب على شعبنا ويل الانحطاط والتقهقـر بعـوامل التفكك الـداخلي والغـزوات الخارجية بعـد ان كانت أمتنا هي الأمة الرائدة في شق طريق الحضارة والتمدن . وقـد اثبت التاريخ ان الأمم الحيَّة هي وحدها القادرة على مـواجهة وتجاوز الصعاب والمحن، وانقـاذ نفسها وانتصارها في معـركة النهـوض والتقـدم، واحتلال مكانها اللائق بين الأمم . لكن الانقاذ لا يكون ، والاصلاح لايتم الا بتوفـر شرطين اساسيين مهمين لا يمكن الاستغتاء عن أيٍّ منهما ابدأ هما :
العقيدة الصحيحة الواعية الهادفة ، والبطولة المؤمنة الصادقة العاملة والمؤيدة بصحة تلك العقيدة. أما العقيدة الصحيحة فانها تعني في العمق الفكـر الـراقي الحكيم الهادف و الارادة الفاعـلة الـتي تحقـق ذلك الفـكـر الراقي الحكيم . العقيدة هي فكر إرادة . وأما البطولة المؤمنة الصادقة فانها تعني القيادة الصالحة والشعب العظيم الـذي يمتاز أبناؤه بثقافة واعـية راقية ، وبانتاجية فكرية وعلمية وفـنية وصناعية وزراعية مبـدعـة، وبنفسية شجـاعة عطائية لا تبخـل حتى بالـدماء من أجـل تحقيق الأمر الذي يساوي وجودها . ألا وهو مصلحة الأمة التي هي قـبـل وفـوق كل مصلحة جـزئية داخلية أو مصلحة عدوانية خارجية ، والتي بتحقيقها تـتحقق جميع مصالح المواطنين الأحياء في جيلهم الحيّ وجميع الأجيال القادمة . فمثلث العقيدة الصحيحة والقيادة الصالحة وجيل الشعب الصالح هو فريق الصلاح الذي لا يمكن ان يتحقـق أي اصلاح بـدونه . الصالح وحـده بستطـيـع أن يصلـح ، ومن المحـال ان يتمكن الطالح من ذلك . لأن الانـاء ينضح بالـذي فـيه . فقارورة العطـر لا تنضح الا عطرا ً ، وقازورة النتن لا تعطي الا رائحة كريهة . والمواطنون الصالحـون الأمناء هم خميـرة صلاح وأمانـة ، اما المـواطنـون الفاسدون الخـونة فلا يـؤمل منهم الا الفساد والخيانة ووحـدهم الأصدقاء وأصدقـاء الأصدقاء وأعداء الأعداء يمكن أن ينتظر منه خيرا ً ونفعا ً . أما الاعـداء وأصدقاء الأعـداء وأعـداء الأصدقاء فلا ينتظر منهم الا العـدوان والشر والخـراب .
لا اصلاح بغـيـر صلاح . والصلاح لا يعبّـر عنه الا بالعقيدة الصالحـة التي تـتـناول الأمـة وتاريخها الحـضاري منـذ كانت الحـياة الى ماسوف تكون مجتمعا ً واحدا موحدا لا فئات متنابذة ولا طوائف متناحرة ولا كنتونات مناطقية متقاتلة . وورشة الصلاح لا يستطيع الاشراف عليها تخطيطا ومراقبة وتنفيذا ومتابعة الا قيادة صالحة عبقرية مبدعة بطـولية تعرف من أين تبدأ وكيف تتجه والى أين تسير وعلى أية أرض تقف، وما هي العراقيل التي تعترضها ،وما هي الامكانيات التي بحوزتها والمتوفـرة لها ، وما هي المُـثــُـل العليا التي تسعى الى تحقيقها . وكل ذلك بفكر منفتح خلاق ، وبارادة مصممة حازمة ، لا تلين امام اغـراء او تـرهيب ، ولا تـُخـدع مهما كانت اساليب المنطـق باهـرة وبليغة وفصيحة وخادعـة . والاصلاح ايضا ً لا يمكن ان يقـوم بـه وينجـزه عـلى احسن ما يكون وافضل ما يمكن الا الفئة الصالحة المنظمة القـوية الحـرة التي تقوم بـواجبها في الاصلاح وتتحمل مسؤوليتها كاملة في الـدفاع عن حـق الأمة في الحياة الـراقية النامية الكـريمة ، ولا تـعـتدي على حقوق غيرها من الأمم .
الصالحـون وحـدهم رواد أصلاح . أما المجـرمون الـذين اعتـنقـوا عـقيـدة الطلاح والفساد قـيـادات وجـنـودا ً ويقـتـلـون أبناء أمتهـم ويمثـلون بجثـثهم ، وينفذون أوامر أعداء أمتـنا ويـدمرون الـمرافـق العامة والخاصة ، ويعـرضون أمن الناس في بـلادنا للأخطــار ، ويشاركون أعداءنا المعتـدين في القضاء على حضارتنا ووجودنا ،فانهم خـونة مارقـون يعادل التساهـل معهم درجـة الخيانة . ومن يتساهـل معهم أو يـبـرر لهم فسادهم وأجـرامهم أو يعـجـز عن مـواجهتهم ووضع حـد ٍ لإجـرامهم ،لا يـدرك حقيقة العـقيـدة الصحيحـة ، والقيادة الصالحة وطـليعة الصالحين من أبناء الأمة . فاقطعـوا دابـر الخيانة بالقـضاء عـلى الـخـونة أيـهـا الـصالحـون تصلحـوا. واقـضوا على الـفســاد بـوضـع حـد للفاسدين الـمفسدين تـنجـحـوا . ولا تـتـنازلـوا عن حـق أمتـنا في الحيـاة الـكـريمة تـتـقـدمـوا .
ولا تخضعـوا لضغـط ظاهـره منطـق حـق وباطـنه تسويـق باطـل تـنـقـذوا الأمة من كـل ما يخطط لها أعـداؤها بهـدف تـفتيتها والقضاء عليها . ولا تـنخـدعـوا بحـيـَل المـرائـيـن المنافـقـين الغـادريـن مهما تمسكـنـوا وتبـاكـوا ومالأوا وتـمظهـروا بأساليب البـراءة والطهـارة والعـفة أمامكم."فأفصح ما تكون القحباء حين تحاضر بالعـفاف" وأبلغ ما تكون العاهرة حين تـتودد وتبكي ، وأخطر ما يكون العدو عندما يطلق عملاءه فيتظاهرون بالمسكـنة والمحاباة والممالاءة والتـودد . الإصلاح الحقيقي هو نهضة الصالحين المصلحين الذين لا يحيدون عن طريـق الصلاح ولا يتوقـفـون عن الإصلاح وترقـية الاصلاح حتى ولو وُضعت الشمس في يـمينهم والقـمر في يسارهم أو تراكمت جثـثهم الى عنان السماء .
وأهـم خطـوات الاصلاح هـو تثبيت سلامة وأمان أبناء الوطن وتحقيق وحـدة الأمة . وايقاظ إنسانها ، وتوعيتها ، وبعث نهضتها، وتجـديد حيويتها، وتحريك طـاقـات انـتـاجـها الـمبـدعة فـكـرا ً وعـلمـا ً وفـنـا ً وزراعـة ً وصناعـة ً وعـطـاء ً ومقـاومة ً وتضحـية ً، وإنـشـاء نـظـام أساسه الحـق والعـدل يسيـر بـهـا الى أسمى ما يـمكن ان تـتصوره نـفس بشر .
الصلاح هـو عـقـلية مناقبـية أخلاقـية واعية وراقـية تخطـط وتبني وتحقـق المـزيـد من الأصلح والأنفع ، والإصلاح هـو عـملية تصليح تهدم الطالـح وتـرمم الصالـح . تـزيـل الخـراب وتبقي على البنـاء . تحـارب العــدوان، وتعـزز قـوى الصمود وابـداع وسائـل الإنـتصار ، وتسعى الى الخروج من المألوف الـراكـد الى ما هـو حسن ومفـيـد . وفي كـلـتا الحالتين لا يكـون الـصلاح الا بالـصالحيـن ، ولا يـتحـقـق الإصلاح الا بـجـهـود الـمصلحـيـن الإصلاحين.أما ان يطالب بالإصلاح عـدوٌ باغي من خارج المجتمع، أوغبيّ خائن باع نفسه ويعيـث فسادا ً داخل مجتمعنا، فان ذلك أفظع المهازل . الصلاح والطلاح نيقيضان وعدوان لا يلتقيان لا في هذه الدنيا ولا في عـالم الغيـب .والطالحون الأشرار هم أعدء الصالحين الخيّرين وجـودا ً وحاضرا ً ومستـقبلا ً . هناك عقيدتان في الوجود : عقيدة العدوان الوحشية على حقوق الافراد والشعوب واستعبادها ، وعقيدة احترام الأفراد والشعوب الإنسانية التي شعارها ما قامت عليه رسالة المحبة المسيحة :
إفـعـلْ بالناس ما تـريـد أن يفـعـله الناس بك " وما ورد في القرآن الحكيم " من قـتـل نفسا ً بغـيـر حق ، فكأنما قـتـل الناس جميعا ً". فانتصار عقيدة التوحش الفاسدة يعني القضاء على العقيدة الانسانية الصالحة ، وانتصار العقيدة الانسانية الصالحة يعني الخروج من الظلمة الى النور ، ومن قبر التاريخ الى الحياة فنعرف عظمة الله الذي نعت ذاته بالحيّ الذي لا يموت .
فـلنقـضي على أعـدائـنا الطالحين الأشـــرار قـبـل أن يـقـضوا عـلينا، فـنـنـقـذ بـذلك أنـفسنا ونـنـقـذ الأمم من ويـل عقائد الفساد والفـتن ، وشر الفاسدين المـفـتـنـين، ليبقى شـعار الحياة الجميلة الراقية : لا إصلاح إلا بالصلاح . ولا سبـيـل الى الإصلاح قبـل القضاء على نفـوذ المجـرمين الفاسدين الذين كانوا ويستمرون سبب كل الويلات التي حلـَّت بأمتـنا .
لقد كانت سورية منبع رسالات الصلاح في العالم ولا تزال رائدة الصلاح القائم على الحق والعدل في هذا الوجود . أيهـا المطالبـون بالاصلاح عـودوا الى سـورية مبـدعة رسـالات الاصلاح، وراجعـوا تاريخـهـا الحضاري ، وتعـلموا ان تكونوا مصلحين ، ومارسـوا الصلاح فـكـرا ً وعـملا ً واستمرا ر ممارسة ،فيكون في العمل الاصلاحي دليل على النفسية الصالحة الخيِّرة ، ويتـحـقـق الاصلاح .
|