إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

لماذا اعتُمد اقتراح «الأرثوذكسي»؟ وما هو الحلّ الوطني؟

العميد د. أمين محمد حطيط - البناء

نسخة للطباعة 2013-02-21

إقرأ ايضاً


أحدث اقتراح قانون انتخاب جديد في لبنان عاصفة في الوسط السياسي، كونه قام على أساس الفرز المذهبي المناقض لصيغة الوحدة الوطنية، وجاءت ردود الفعل عليه متناقضة بين شديد الترحيب به واعتباره انتصاراً وشديد الرفض له واعتباره قتلاً وانتحاراً وهنا تطرح أسئلة شتى بحثاً عن الأسباب التي دفعت الى هذا الاقتراح، ثم الوقوف على مفاعيله وكيفية العلاج.

من الطبيعي أن يعتبر نفسه منتصراً بهذا القانون من تلظى أو اكتوى بنار قانون الانتخاب السابق، وهو قانون تميّز بالاستنسابية وعدم التوازن وأفسح المجال لإفساد العملية الانتخابية بالمال السياسي والعصبية الطائفية وتغليب «الاكثرية الصاخبة المصطنعة» على «الاكثرية الواعية الحقيقية»، حيث كان قانون الغرائز الطائفية والصفقات الانتخابية وشراء الذمم والاصوات، وقد أنتج ذاك القانون بشكله الأولي، ثم بشكله المعدل حالة وضع فيها الحكم في لبنان بيد فريق سياسي ضرب بالدستو عرض الحائط، ومارس حكماً إقصائياً استئثارياً إلغائياً، ثم ومن أجل المحافظة على مكاسبه نشر الثقافة المذهبية وكاد أن يدفع لبنان أكثر من مرة لاقتتال طائفي ومذهبي، وتنكر للمقاومة وسلاحها وعقد الصفقات مع الخارج على رأسها، كل ذلك من أجل المحافظة على سلطة يعرف هو قبل غيره انها سلطة مغتصبة، وأنه لا يستحقها.

كان على منظّري «الحريرية السياسية» وممارسيها المستفيدين من سياسة الاقصاء والاستئثار ان يعلموا أن الظلم الذي مارسوه بحق الوطن وبحق المواطن والطوائف كلها لا يمكن ان يستمر الى الأبد، وهو كما تحدث سنن التاريخ سيقود يوماً الى «الثورة» او «لتمرد» او تكتل المظلومين من أجل التخلص منه بأي سبيل من السبل. ولكن يبدو أن «الحريريين السياسيين» كانوا يراهنون على أمور تمنع كل ما ذكر من وجوه التصحيح والتغيير، كانوا يراهنون على الظرف الدولي والاقليمي

الذي ظنوا أنه سيستمر لصالحهم، وكانوا يراهنون على حرص فريق من المغبونين المظلومين، حرصه على الأمن الداخلي من أجل المحافظة على المقاومة وسلاحها الموجّه ضد «اسرائيل» للدفاع عن لبنان، وأخيراً كان رهانهم على مفاعيل الاموال التي اغدقوها خاصة على بعض المسيحيين ما جعلهم تابعين لهم يسبحون عن غير قناعة بحمد «الحريرية السياسية». هذه المراهنات التي بدا أن بعضها خاطئ، قادت «الحريرية السياسية» الى الاستخفاف بكل من هو خارج قبضتهم من مسلمين ومسيحيين، وهم بعد أن ألغوا سياسياً مراكز القوى والنفوذ في الطائفة السنية واستأثروا بتمثيلها، همشوا مواقع الطوائف الأخرى في الحكم، حيث انقلبوا على تفاهم الطائف الذي منح للشيعة وزارة المالية لتثبيت توقيع من في السلطة التنفيذية، وحاصروا رئيس الجمهورية الى أن وصل الامر الى حد القول إن لبنان يحكم من قبل شخص واحد هو رئيس الحكومة الذي لا يمكن أن يتخطاه أحد، ويمكنه أن يتخطى أي أحد بما في ذلك مجلس الوزراء مجتمعاً فضلاً عن الوزراء منفردين، رئيس وصف خلافاً للدستور بأنه «يقود شعبه» ووصف نفسه بأنه «الآمر الناهي» في لبنان ولا حدَّ لأمره أو نهيه. ولو شئنا أن نضرب الأمثلة على ارتكابات وممارسات رئيس مجلس الوزراء المثيرة للسخط والاستفزاز لاحتجنا للصفحات الطويلة بدءاً من استباحة مالية الدولية مرورا بالفردية والانتقائية في اتخاذ القرارات وتنفيذها وصولاً الى حماية المخالفات القانونية وحالات التمرد التي يقوم بها الموظفون السنّة في الدولة.

لقد ولدت ممارسة سلطة ما بعد الطائف بشكل عام وما بعد اغتيال رفيق الحريري بشكل خاص، حالة من السخط والاحتقان في لبنان بشكل عام وزرعت المرارة في نفوس اللبنانيين وبدل أن تسير البلاد في الاتجاه الذي يمكن من إلغاء الطائفية السياسية، كما نص اتفاق الطائف، سارت باتجاه معاكس وأكثر تفتيتاً للمجتمع اللبناني، حيث كان الانقسام قبل «الحريرية السياسية» طائفياً بين الكتلة المسيحية والكتلة الاسلامية (ولهذا جاء النص على المناصفة من أجل حفظ التوزان السياسي بينهما ومنع الغلبة والغبن) أما مع «الحريرية السياسية» فقد بات مذهبياً في مرحلة أولى ثم فئوياً ضيقاً في مرحلة ثانية بحيث وضعت الطائفة السنية نظرياً والجزء الحريري منها عملياً في مواجهة كل اللبنانيين، وبات الشعور بـ «الفوقية» والدونية في التعاطي ليتشكل في صفوف اللبنانيين شعور يغذيه ويتعهده سلوك «الحريريين السياسيين» الفوقي دونما التفات الى المخاطر.

في ظل هذه البيئة جاء اقتراح «القانون الأرثوذكسي» للانتخاب على أساس مذهبي، وهو اقتراح قد ينظر اليه على أساس أنه مخالف لروح الطائف وجوهره، ولكنه من جهة أخرى يبدو أنه جاء تطبيقاً حرفياً لهذا الاتفاق. فهو من جهة يؤمّن إحداث مناصفة حقيقية في التمثيل بين المسلمين والمسيحيين كما ورد في النص، لكنه يسقط الصفة الوطنية عن الانتخاب والمجلس النيابي المتشكل عبره ليحل محلها الصفة المذهبية، وبدل أن يكون النائب ممثلاً للأمة كما ينص عليه الدستور، فإنه سيأتي ممثلاً للمذهب كما يفرض القانون، وبدل ان يهيئ بيئة لإلغاء الطائفية السياسية كما ينص اتفاق الطائف فإنه يقيم الفرز الطائفي ويقطع الصلة بين المذاهب ويفرض حال التقوقع والانعزال، وبدل أن يشجع على قيام الأحزاب الوطنية والقومية غير الطائفية فإنه يقضي على القائم منها أو يحد من أثرها وفعاليتها .

نعم، لا يمكن أن نقول بأن اقتراح «القانون الارثوذكسي» هو اقتراح مثالي لبناء دولة المواطن في لبنان، ولكن يجب أن نفهم ظروفه والأسباب التي دفعت اليه، وهو في نظرنا عمل دفاعي مارسه خائف ومغبون ومظلوم في وجه الغابن والظالم، في فترة زمنية حرجة تضرب المنطقة كلها وأدت حتى الآن الى تهجير الكثير من المسيحيين من الشرق وتعمل على تهجير من تبقى، ومن سوء الحظ أيضاً أن يكون هذا «السلاح الدفاعي» أو قد يكون السلاح الوحيد المتاح استعماله في الظرف الراهن ليرعوي الظالم عن ظلمه وليعرف بأن استئثاره لا يمكن أن يستمر الى الأبد. ولكن وللأسف لم يستفد أرباب «الحريرية السياسية» من عبر الماضي خاصة ما حل بـ»المارونية السياسية» التي رفضت الإصلاح ومنعت التوزان والعدالة في توزيع السلطة وتشبثت بامتيازاتها حتى الرمق الأخير، واذ بها تجد نفسها خارج السلطة فعليا ولمدى ربع قرن تقريباً ما اضطرها اليوم للبحث عن سبل لاستعادة الحقوق بعد أن نسيت الامتيازات التي صارت من التاريخ.

وفي المحصّلة واذا كنا نريد بناء دولة حقيقية والمحافظة على الوطن الآمن، فإنه لا يمكننا أن ننظر الى «الاقتراح الارثوذكسي» على أساس أنه الطريق الناجع لذلك، وفي المقابل لا يمكن أن نرجم هذا الاقتراح دون أن نلتفت الى الاسباب الدافعة اليه، فإن كان في الاقتراح وجوه من سوء وضرر بحق مفهوم دولة المواطن فإن في «الحريرية السياسية» ما هو أسوأ وأكثر ضرراً بحق الوطن والمواطن وفي هذه «الحريرية» كان العدوان على المواطن والوطن وفي هذا الاقتراح كانت مقاومة العدوان والدفاع والعمل لاستعادة المغتصب من الحقوق. وكما في الميدان يرتبط وجود المقاومة بالعدوان والاحتلال أو التهديد بهما، كذلك في السياسة ترتبط ردات الافعال بالافعال الحاملة عليها. واذا كان «القانون الارثوذكسي» غير مقبول بالمنظور الوطني، فإن الاستئثار «الحريري السياسي» مرفوض بدرجة أعلى وأشد. ولهذا ننصح الذي يريد أن ينأى بنفسه عن مضار هذا الاقتراح أن يبدأ بنفسه ويتخلى عن سياسة المصادرة والاقصاء والإلغاء والاستئثار، وكما كنا ولا زلنا نقول إن العدل يقتضي بأن نقول للمعتدي والمحتل أقلع عن عدوانك وتوقف عن تهديدك واعد الحقوق الى أصحابها، قبل أن نقول للمقاومة ارمي السلاح، فكذلك نقول للمعتدي الظالم سياسياً تخلّى عن ظلمك واعد الحقوق الى اصحابها واقم التوازن الوطني في السلطة وصولاً الى إقامة دولة المواطن لا دولة الطائفة، قم بذلك قبل أن تطالب المظلوم الغبون بأن يتخلى عن سلاح دفاعي يقاوم به ذاك العدوان.

وعلى ضوء كل ما تقدم لا نرى حلاً للازمة اللبنانية الحقيقة اليوم، ولا طريقاً ينجو عبره لبنان من خطر داهم بات يتهدده في كل شيء بما في ذلك أمنه واستقراره، الا بحوار وطني حقيقي يعيد تصويب مسار اتفاق الطائف ويقيم التوزان الحقيقي في السلطة وينهي عهد القهر والاستئثار، فهل يستجيب أرباب «الحريرية السياسية» قبل فوات الأوان، أم ....؟


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024