إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

العراق والتغيير وحفظ الحالة... حسابات الربح والخسارة

العميد د. أمين محمد حطيط - البناء

نسخة للطباعة 2014-08-14

إقرأ ايضاً


احتل تعيين حيدر العبادي رئيساً مكلفاً بتشكيل حكومة عراقية جديدة خلفاً لحكومة نوري المالكي، مرتبة متقدمة على صعيد الأحداث الدولية بشكل طرح أسئلة كثيرة عن الخلفية والسبب. وهنا نذكر بأن العراق ومنذ اللحظة التي قررت فيها أميركا إطلاق خطتها الجديدة أو يدور فيها أو عليها، كان ذلك مع إطلاق «مسرحية الموصل الداعشية» التي آلت مع ما تبعها من تداعيات، إلى وضع «داعش» الدولة الإرهابية في العراق والشام يدها على القسم الأوسط من العراق لضمه إلى مناطق في القسم الشرقي من سورية، وجعلها أرض دولة الخلافة الإسلامية المزعومة.

لقد حركت أميركا ملف العراق على هذا النحو بعد أن تبين لها أن ما تواجهه من دفاع في سورية ضد عدوانها لن يمكنها من تحقيق أهداف العدوان من البوابة السورية لذلك كان هذا التغيير في الميدان مع تطوير للأهداف الأساسية الاستراتيجية للعدوان وخفض السقف من مستوى تفكيك محور المقاومة واجتثاث المقاومة إلى سقف إشغال محور المقاومة بغية شله ثم تدجين المقاومة وصولاً إلى تحويل سلاحها حديداً يتآكله الصدأ.

جاء تفعيل الوجود والدور الأميركيين عبر داعش في العراق، متزامناً إلى حد بعيد مع دوران عجلة العملية السياسية هناك الهادفة إلى إعادة تشكيل السلطة وتعيين من يضطلع بالمسؤولية فيها بعد العملية الانتخابية التي جرت كما ينص الدستور، والتي آلت إلى فوز نوري المالكي رئيس الوزراء بأكبر كتلة نيابية في البرلمان 93 نائباً ما جعله مؤهلاً بحسب الدستور لتشكيل الحكومة العراقية التي تضطلع بالسلطة التنفيذية في البلاد ويكون رئيسها الحاكم الفعلي للدولة إذا قيض له أو نجح في تشكيل حكومة متجانسة تعكس الأكثرية النيابية وتنأى عن مفهوم الحكومة الجامعة التي يشترك فيها الجميع دونما أن يبقى للمعارضة مقاعد معتبرة تكمل مشهد الديمقراطيات القائم على موالاة ومعارضة، موالاة تحكم بفعالية ومعارضة تواجهها. وهذا ما كان يحلم به المالكي الذي تولى الحكم مرتين متتاليتين ولم يستطع أن ينجز شيئاً ذا أهمية معتبرة بسبب حكومة الجميع القائمة على التناحر والتعطيل المتبادل.

لم يكن المالكي في فترتي حكمه خلال السنوات الثماني الماضية عدواً لأميركا لا بل كان في أكثر من محطة من تاريخ حكمه موضع انتقاد شديد حتى من أقرب أصدقائه لأنه يساير أميركا في الكثير مما تطلب بدءاً باتفاقية الإطار الاستراتيجي وصولاً إلى العلاقات الثنائية واليومية مع مسؤوليها، لكن المالكي لم يكن أيضاً تابعاً أعمى منقاداً لأميركا في كل ما تطلب أسوة بحكام الخليج الذين لا يجرأون على قول كلمة لا لأميركا في صغيرة أو كبيرة، وقد تجلت صورة المالكي المستقلة في هذا الجانب في موقفه من العدوان الأميركي على سورية موقف بدا معارضاً لهذا العدوان ومستعداً لتقديم العون في القدر المتاح لتمكين سورية من مواجهته، تجلى ذلك سياسياً في مواقف الحكومة العراقية في الجامعة العربية والمنابر الدولية وميدانياً في اكثر من محطة وموقف، وقد اتهم المالكي بأنه «سقط في الحضن الإيراني» وانه في دعمه لسورية إنما يستجيب لإيران ويحجز مقعداً للعراق في محور المقاومة.

أغضبت سياسة المالكي في الملف السوري أميركا وحلفاءها، وأضيف إلى هذا الأمر ما رمي به المالكي من نزعة استئثار ومذهبية وإقصاء للآخرين من سنة وكرد وبعض الشيعة أيضاً، ما أدى إلى تشكيل جبهة معادية له رافضة لاستمراره في الحكم ومستعدة لفعل أي شيء بما في ذلك التلويح بتقسيم العراق في حال استمر المالكي في الحكم.

جبهة تكونت في الأصل في الداخل من الخصوم المتضررين من سياسة المالكي واحتضنت إقليمياً بشكل خاص من السعودية وتركيا على رغم ما بينهما من خلاف في ملفات إقليمية أخرى، أما أميركا فقد عبرت عن دعم هذه الجبهة بشكل خفي لا يشعر المالكي بما تخطط له للإطاحة به، فجمدت الكثير من العقود والمساعدات الأميركية للعراق كما امتنعت عن احترام أحكام اتفاقية الإطار الاستراتيجي معه الاتفاقية الأمنية ورفضت التدخل بناء لطلب المالكي ضد داعش عندما اجتاحت وسط العراق وهددت وحدة الدولة مدعية بأن أميركا لن تشكل سلاح الجو للشيعة. وزاد مأزق المالكي عندما انقسمت الكتل الشيعية بين مؤيد له ورافض لعودته إلى الحكم، حيث حمله بعض الشيعة مسؤولية تردي أحوال العراق وفساد الحكم، والفشل في بناء وحدة وطنية عراقية جامعة وتعريض مصالح الشيعة ومكتسباتهم للخطر، لا بل ذهب البعض إلى حد تحميله مسؤولية تقسيم العراق إن وقع.

في ظل هذا المشهد المأسوي وفي تقييم مجرد رأت المرجعية الدينية الشيعية، أن استمرار المالكي في السلطة في ظل ذاك الانقسام حوله سيؤدي إلى الإطاحة بأمن العراق حتى وبوحدته ويحول دون مواجهة وطنية جامعة لأخطار الإرهاب والفوضى التي تنشرها داعش ومن خلفها، وسيهدد المكتسبات الوطنية والطائفية التي حصل عليها الشيعة بعد عهود من القهر والتهميش، ولكنها رأت أيضاً بأن التدخل العلني ضد المالكي الحائز على أكبر كتلة نيابية سيشكل تخطي للدستور وتجاوز للعملية الديمقراطية وقد يفسر بأنه نوع من العقاب للمالكي على سياسته الإقليمية ومكافأة لمن عارضه في ذلك داخلياً وإقليمياً ودولياً، فضلاً عن إمكانية المس برمزية العلاقة مع إيران.

لم يكن وضع المرجعية حيال الشأن بالأمر السهل، وعلى رغم ذلك كانت الجرأة في اتخذ الموقف الذي يحفظ الحالة، من دون أن يعدم الشخص أو يقدم رأسه لخصومه، فكان كما يبدو أو تسرب، تفاهم في البدء مع إيران على ضرورة التمييز بين الحالة والشخص ثم اتفاق على ضرورة حفظ الحالة من دون التفريط بالمكتسبات، ويكون ذلك باختيار بديل للمالكي يستجيب للقواعد الأساسية الثلاث التي اتخذت معياراً لانتقاء المسؤولين الشيعة في عراق ما بعد الاحتلال وهي، هوية الشخص السياسية والفكرية والعقائدية، صلة الشخص بالنظام الصدامي السابق، دور الشخص في لاحتلال الأميركي والعمل معه. بديل لا يشكل اختياره نصراً لخصوم المالكي بل يكون بمثابة سحب الذرائع من يدهم. وعلى هذا الأساس كان اختيار حيدر العبادي رئيساً جديداً للوزراء لخلافة المالكي، وهو زميله في حزب الدعوة الإسلامي الذي أسسه السيد محمد باقر الصدر، وهو شريكه في الاضطهاد على يد النظام الصدامي والتهجير خارج العراق، وهو قرينه في السعي لعلاقة استراتيجية مع من يحفظ للعراق مكانته وقراره ويحفظ للمكونات الأساسية فيه دورها وفي احترام الأحجام الديمغرافية لسكانه.

لقد شكل اختيار العبادي بالشكل الذي حصل ووفقاً للإخراج الذي اعتمد نوعاً من خطة ذكية تحفظ للمكون الديمغرافي الأكبر في العراق حقوقه، فرصة لإعادة جمع شرائح المجتمع العراقي، وباباً لإعادة إنتاج صيغة تمنع الاستمرار في مسار التقسيم الذي تهب رياحه من بابين كردي وإرهابي، ولا يعتبر اختيار العبادي انقلاباً على سياسة المالكي الخارجية خاصة في ما يتعلق بسورية ومحور المقاومة، فالأمر مستبعد كلياً جملة وتفصيلاً نظراً لشخصية العبادي وجذوره العقائدية الموثوقة، كما انه لا يعتبر هزيمة للحالة التي ينتمي إليها المالكي بل حفظ لها، وإذا كان الخصوم قد رأى فيها انتصاراً، فلا بأس إذا كان هذا الأمر يريحهم ويدفعهم لكف شرهم عن العراق وأمنه ففي هذا تحقيق لما رمى إليه الاستبدال أصلاً من سحب الذرائع.

وأخيراً لا بد من تسجيل حذاقة عراقية داخلية في عملية الإخراج لجهة إعادة تشكيل الكتل والبقاء تحت سقف الدستور، بتسرب البعض من كتلة المالكي لإفقادها صفة الكتلة الأكبر وتشكيل للاتحاد الوطني ليصبح هو الكتلة الأكبر التي تسمي رئيس الحكومة تحت سقف الدستور أيضاً، كما يجب تسجيل واقعية المرجعية الدينية ومبدئيتها في السعي لحفظ الحالة قبل الشخص، والحرص الإيراني على موقع العراق وأمنه والمرونة في التعامل مع شأن عراقي وإقليمي حساس، أما ما يقال عن اتفاقيات وتسويات دولية بدأت في العراق وستنسحب على سواه في الإقليم فإننا لا نرى له موقعاً في الحقيقة، لأن العراق شهد تغيير شخص وثبات حالة، بينما نجد أن ما يطلب في الإقليم تغيير حالة بصرف النظر عن الأشخاص، وهي حالة المقاومة حيث يقصد رأسها ومحورها، وهذا كما يبدو لن يحصل عليه المعتدون وفي غزة اليوم نموذج حي.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024