ليس ثمة عراق في مواجهة «داعش». ذلك أنّ العراق، في هذه الآونة، ليس واحداً بل متعدّد. في السياسة، ثمة حكومة وبرلمان تتصارع داخلهما أحزاب وتكتلات وتحالفات عدّة تتوافق حيناً وتتنازع حيناً آخر في وتيرة متكرّرة. في الحرب، ثمة جيش نظامي وشرطة اتحادية وفصائل أهلية مقاوِمة أبرزها وأقواها «الحشد الشعبي». إلى ذلك، ثمة إقليم كردستان العراق، حيث لأحزاب الكرد في السياسة والحرب مواقف وتحركات تتفق او تختلف مع نظرائها في العاصمة بغداد.
لا خلاف بين هذه الأطراف جميعاً على ضرورة كسر «داعش» وتحرير المناطق التي يسيطر عليها، ولا سيما الموصل. لكن، ماذا بعد «داعش»؟ لمن السلطة في الموصل؟ بل لمن السلطة في بغداد؟
صراع الإرادات السياسية تأجّج في بغداد مع اندلاع الهجوم لتحرير الموصل. أطراف الصراع كثر، أبرزهم رئيس الوزراء حيدر العبادي ومناصروه في حزب الدعوة، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري، ونوري المالكي وكتلة «دولة القانون»، وعمار الحكيم و «المجلس الإسلامي الأعلى»، ومقتدى الصدر وجموع «الصدريين» في الشارع. وهناك المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني ونفوذه بين العلماء والمتديّنين وبعض الأوساط السياسية. إلى ذلك، ثمّة قوة أهلية مسلحة صاعدة سيكون لها تأثير ونفوذ في قابل الأيام هي «هيئة الحشد الشعبي».
هذه حال الداخل العراقي. أما الخارج المعني بما يجري فيه فهو متعدّد الأطراف أيضاً: الولايات المتحدة وتركيا وإيران والسعودية وسورية. الولايات المتحدة هي رأس اللاعبين والمتلاعبين. تلعب في ساحة العراق من خلال حلفاء سياسيين جاؤوا مع احتلالها البلاد العام 2003، وأسهموا معها في إقرار الدستور الفدرالي، كما في إدارة «العملية السياسية» الرامية الى التوفيق بين أطرافه المتصارعين تحت خيمة الهيمنة الأميركية، فضلاً عن ممارسة أدوار مساعدة في إدارة المسألة الكردية.
تركيا، بدافع من تخوّفها الدائم من نزوع أكرادها مع أقرانهم في العراق وسورية إلى إقامة دولة مستقلة، وجنوح رجب طيب أردوغان إلى أحياء مطامع «عثمانية» في كلّ من العراق وسورية لاستثمارها في أغراض سياسية داخلية، احتلت مناطق استراتيجية في كِلا البلدين وتعاونت لوجيستياً وعسكرياً مع «داعش».
إيران تتهم الولايات المتحدة بأنها تبتغي تقسيم العراق وسورية في إطار مخططٍ متكامل لحماية مصالحها في بلدان المشرق العربي وتعزيز أمن «إسرائيل»، وانّ ذلك يؤدّي بالضرورة الى تهديدها وضرب نفوذها في الإقليم.
السعودية تعتبر الأحزاب والتنظيمات ذات الغالبية الشيعية موالية لحكومتيْ إيران وسورية، وبالتالي معادية لها الأمر الذي يحملها على محاربة هؤلاء جميعاً ومدّ يد العون الى أعدائهما من الإسلاميين السلفيين المتطرفين.
سورية تجد نفسها، نتيجةَ السياسات الأميركية والتركية والسعودية المعادية، ضحية حرب إرهابية مموّلة ومسلّحة من الخارج تهدّد استقلالها ووحدتها، وأنها مضطرة إلى التعاون، سياسياً وميدانياً، مع تنظيمات المقاومة المدعومة من إيران والمعادية لكلّ من الولايات المتحدة وتركيا و»إسرائيل».
كلّ هذه الدول والتنظيمات منخرطة هذه الأيام في حروبٍ وصراع إرادات سياسية دائرة في العراق وسورية، لعلّ أكثرها فعالية ومدعاة للمتابعة «الحشد الشعبي» الناشط في الهجوم المتعدّد الجبهات على الموصل، ولا سيما في غربها المتصل عبر الحدود بمحافظة الرقة السورية، حيث عاصمة «الخلافة» الداعشية ومحور قوتها الأساسية. الواقع أنه لولا «الحشد الشعبي» لما تمكّنت القوات العراقية النظامية من جيش وشرطة من مباشرة الهجوم على الموصل واقتحامها من جهات عدة. ولعلّ الإنجاز الأهمّ هو نجاح «الحشد الشعبي» في قطع طريق الإمداد اللوجيستي بين الرقة والموصل الأمر الذي يعجّل في تحرير الثانية من دون أن يكون لقوات البيشمركة الكردية دور مؤثر في ذلك.
في صراع الإرادات داخل العراق تتخوّف سائر الأطراف السياسية من «الحشد الشعبي»، وتحسب حساباً لدورٍ كبير سيلعبه بعد طرد «داعش» وأذنابه من البلاد. كذلك تعادي تركيا والولايات المتحدة «الحشد الشعبي» وقد رفضتا أن يكون له دور وازن في معركة تحرير الموصل وضغطتا على حيدر العبادي في هذا السبيل. ذلك أنّ نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس أعلن في حوار مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية 2016/10/28 : «نحن نركّز مهمتنا الأساسية في القضاء على الإرهاب في العراق وفي المنطقة، كما نعمل على حماية النظام والعملية السياسية في العراق … وسنكون هناك أيّ في سورية وفي أيّ مكان آخر تنطلق منه عمليات تهدّد الأمن العراقي».
واشنطن وأنقرة ساءهما هذا الكلام فحذّرتا العبادي من مفاعيله السياسية والعسكرية لكونه احتضن «الحشد الشعبي» وأسبغ عليه صفة رسمية بإخضاعه للقيادة العامة للقوات المسلحة أيّ لقيادته بصفته القائد العام ، وهو في صدد إقرار قانون خاص في مجلس النواب يقضي بقبول انضمام مَن يريد من منتسبي الحشد إلى المؤسسة العسكرية. ويترَدّدُ في بغداد أنّ العبادي الذي يرأس ائتلافاً حكومياً هشاً يريد الترسمل على إنجازات «الحشد الشعبي» وقاعدته الجماهيرية العريضة لتعزيز نفوذه السياسي والاستعاضة به وبها عن بعض أطراف التحالف الهشّ الذي يساند حكومته.
إلى ذلك، تدعم إيران «الحشد الشعبي» سياسياً وتسليحياً، الأمر الذي يثير مخاوف قيادات سنّية نافذة في محافظات نينوى الموصل وصلاح الدين والأنبار، كما يستفزّ القوى الوطنية المعادية للولايات المتحدة ولـِ «العملية السياسية» التي تديرها عبر حكومة العبادي مخافةَ أن تكون إيران مؤيدة لها ضمناً.
غير أنّ أميركا وتركيا تجاهران بمعارضة قوية للدور القتالي الفعّال الذي يقوم به «الحشد الشعبي» في غرب الموصل وعلى الحدود مع سورية وإعلان قيادته اعتزامها مساندة قوى المقاومة العربية حزب الله في حربها ضدّ الإرهاب في سورية، لأنه يفضي في تقديرهما إلى نتيجتين استراتيجيتين ليستا في مصلحتهما:
ـ جعل العراق وسورية مسرح عمليات واحداً ضدّ الإرهاب وضدّ أميركا وتركيا.
ـ تمكين «الحشد الشعبي» بقاعدته العريضة وسعيه إلى جعل تركيبته عابرة للطوائف من وراثة «داعش» في الموصل وغيرها ومدّ نفوذه السياسي وسلطته؟ إلى بغداد.
العيون شاخصة إلى الموصل…
|