«نورداغان» اسم لأكبر مناورات قام بها الجيش «الإسرائيلي» خلال السنين العشرين الماضية. شاركت في المناورات عشرات الفرق والألوية من القوات البرية والبحرية والجوية والاستخبارات. حاكت عمليات إخلاء مدن، وصدّ عمليات تسلل من حزب الله، وشنّ هجوم على لبنان، وإبطال عمل خلايا تجسّس. هذا ما سُمح لوسائل الإعلام بكشفه، وربما المخفيّ أخطر.
ضابط «إسرائيلي» رفيع قال لصحيفة «هآرتس» إنّ سيناريو المناورات يهدف إلى هزيمة حزب الله. المقصود بمصطلح هزيمة توجيه ضربة قاصمة إلى البنى التحتية للعدو، وتقليص إطلاق القذائف من المناطق التي يتمّ احتلالها، «لكن ليس مؤكداً أنّ هذا سيوقف الحرب».
مَن هو عدو «إسرائيل»؟
العدو متعدّد الهوية والمنطلَق والقدرة. في هذا السياق، يأتي لبنان في المرتبة الأولى لأنه المنطلَق الأساس لحزب الله. لكن لحزب الله منطلقات أخرى، فهو يقاتل في مختلف مناطق سورية وكذلك في العراق. ولأنه يقاتل في سورية فهو حليف لها، ومَن يكن حليفاً لحزب الله يصبح عدواً لـِ «إسرائيل».
ثم، أليس لسورية حلفاء آخرون؟ أليست إيران حليفة لسورية وكذلك لحزب الله؟ أليست روسيا حليفة لسورية؟ بل أليست روسيا، موضوعياً، حليفة لإيران؟
يتحصّل من هذه الواقعات أنّ أطراف محور المقاومة جميعاً أعداء لـِ «إسرائيل»، وأنّ روسيا وإنْ لم تكن عدواً لها إلاّ أنها حليف او داعم لكلّ أطراف محور المقاومة ما يجعلها خصماً غير مباشر للكيان الصهيوني.
لماذا أجرت «إسرائيل» مناورات «نورداغان» الآن؟
ليس في الأمر سرّ. «إسرائيل» خائفة ولا تُخفي خوفها. خائفة من تداعيات اندحار «داعش» أمام الجيش السوري وحلفائه، ومن ترسيخ وجود إيران في سورية واحتمال قيامها، مع حزب الله وأفواج مقاومةٍ سورية بازغة، بفتح جبهة ساخنة في جنوب سورية بمحاذاة الجولان المحتلّ. أكثر من ذلك، أن تقوم إيران بتسليح سورية وحزب الله بأفعل وأفضل ما لديها من أسلحة فتاكة وقدرات تكنولوجية ما يؤدّي الى اختلالٍ موازين القوى لصالح أطراف محور المقاومة المتربّصين بها. الوضع سيصبح أكثر خطورة إذا ما آلت تطورات المشهد العراقي إلى انخراط بغداد في محور المقاومة وفي إقامة جسر برّي لوجيستي مفتوح بين طهران وبيروت عبر العراق وسورية.
لمواجهة هذه التحديات اعتمد قادة «إسرائيل» ثلاث مقاربات:
الأولى سياسية، وذلك باستغلال مخاوف دول الخليج من صعود إيران بغية توسيع علاقات «إسرائيل» الاقتصادية والأمنية مع بعضها ولإقامة جبهة ردع فاعلة في وجه إيران وحلفائها. لرفع معنويات جمهوره، صرّح نتنياهو أنّ «إسرائيل» باتت تتمتع بمستوى تعاون غير مسبوق مع العالم العربي، واصفاً العلاقات بأنها أفضل منها في أيّ وقت مضى برغم انعدام الاتفاق مع الفلسطينيين. أكّد أنّ «التعاون الحالي مع دولٍ في العالم العربي يُعدّ الأقوى مقارنةً بفترة توقيع معاهدتيْ السلام مع مصر والأردن». عزا هذا التحوّل الى دمج قوة «إسرائيل» الاقتصادية – التكنولوجية وقوتها العسكرية – الاستخبارية ما أدّى إلى تعزيز قوتها السياسية.
المقاربة الثانية استراتيجية ميدانية، وذلك بإجراء مناورات «نورداغان» الضخمة مصحوبةً بتغطيةٍ إعلامية هدفها إعطاء انطباعٍ محدّد الى أعدائها: «وجود القدرة والاستعداد والإرادة السياسية لدى «إسرائيل» ليس لضرب حزب الله فقط، بل لإخضاعه أيضاً والانتصار عليه» مقالة إيال زيسر، نائب رئيس جامعة تل أبيب، في «يسرائيل هَيوم»، 2017/9/5 .
المقاربة الثالثة عملانية، وذلك بتوجيه سلاح الجو «الإسرائيلي» من الأجواء اللبنانية ضربةً لمنشأة عسكرية سورية في مصياف بمحافظة حماة التي لا تبعد كثيراً عن قاعدة روسيا البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في مطار حميميم القريب من اللاذقية.
لا يهمّ ما قالته «إسرائيل» لتبرير الضربة. المهمّ الإحاطة بالواقعات الآتية: أنّ الضربة كانت في سورية وليس في لبنان، وانّ تنفيذها جرى من الأجواء اللبنانية، وأنها استهدفت منشأة عسكرية بعيدة جداً عن جبهة الجولان في جنوب سورية التي تشكو تل أبيب من احتمال تحوّلها جبهة ناشطة بقوات لحزب الله مدعومة من إيران، وانّ قرب المنشأة العسكرية من قاعدتين روسيتين، بحرية وجوية، في منطقة قريبة أمر له دلالاته. ذلك كله حدث غداة حديث لنتنياهو في حفلٍ لوزارة خارجيته عن «تغيّر هائل» في العلاقات الاقتصادية والثقافية مع روسيا في سياق ما أسماه «الأهمية الاستراتيجية للتنسيق مع موسكو في شأن سورية».
توقيت المقاربات الثلاث يحمل على الظنّ بأن «إسرائيل» قصدت من وراء ضربة مصياف اختبار ردة فعل كلٍّ من حزب الله وسورية وروسيا، الأمر الذي يطرح أسئلةً ملحّة:
هل تظنّ «إسرائيل» أنّ الضربة قد تحمل حزب الله على إعادة النظر بمستوى مشاركته في الحرب ضدّ «داعش» فيقلص من حجمها ونوعيتها ما يؤدّي الى انتعاش «داعش» مجدّداً، وبالتالي إطالة أمد الحرب واستنزاف سورية؟
هل تحمل الضربة سورية على إعادة النظر بسياستها إزاء المنطقة المحاذية للجولان المحتلّ فتوافق على إعطاء تعهّدات بإبعاد إيران وحزب الله عن أيّ تواجدٍ فيها؟
هل تمّت الضربة بعلم روسيا؟ وما حدود التنسيق بين «إسرائيل» وروسيا الذي أشار إليه نتنياهو؟
إذا لم تكن موسكو على علم بالضربة، وغير موافقة عليها، لكونها استهدفت منشأة عسكرية سورية، وليس قافلة مزعومة تنقل سلاحاً لحزب الله، فهل تراها تحذر «إسرائيل» من الاسترسال في هذه السياسة تحت طائلة تزويد سورية بصواريخ دفاع جوي متقدّمة قادرة على إسقاط القاذفات «الإسرائيلية»، حتى لو كانت تعمل عن بُعد أو من الأجواء اللبنانية؟
هل يمكن اعتبار ضربة مصياف بأنها اختبار لمعرفة ردود فعل أطراف محور المقاومة وروسيا المتحالفة معهم، وأنها جرت بموافقة الولايات المتحدة أو، في الأقلّ، بعلمها ما يستوجب تالياً الردّ عليها، بشكل أو بآخر، من قبل الدول سالفة الذكر أو أقلّه من أطراف محور المقاومة بدعمٍ قوي من روسيا؟
من الواضح أنّ أطراف محور المقاومة تعطي مواجهةَ الإرهاب في هذه الآونة أولوية مطلقة، سياسية وعسكرية. لكن، أليس مفيداً إفهام «إسرائيل» التي عادت الى اعتماد مذهبها العسكري القديم القاضي بنقل الحرب إلى أرض العدو، أنه في مقدور العرب أيضاً نقل الحرب إلى أرضها وبالمقادير التي يرونها مناسبة؟
آن أوان الفعل.
|