ليسوا مغالين أولئك الذين اعتمدوا مصطلح «الحرب الكونية» في توصيف الصراعات والعمليات العسكرية الجارية في سورية. ذلك أنّ أكثر من 50 دولة شاركت وتشارك فيها بوجوه وآليات ووسائل مختلفة.
هذه الحرب تطوّرت خلال السنوات الخمس الماضية فأصبحت رحاها تدور في سوراقيا، أيّ في سورية والعراق معاً. ألم تنشر تركيا قوات لها في شمال سورية وشمال غرب العراق؟ ألم تدعم إيران حلفاءها من تنظيمات المقاومة العراقية والمقاومة اللبنانية بوحدات من حرسها الثوري لمقاتلة قوات تركية وأميركية وفرنسية وبريطانية وألمانية تشارك في الحرب الكونية الدائرة في سوراقيا؟ ألم توسّع روسيا دورها في دعم سورية سياسياً وعسكرياً وإيران عسكرياً وتكنولوجياً بوصفهما الطرفين الفاعلين في محور المقاومة والممانعة؟
من الظاهرات اللافتة في الحرب الكونية الدائرة في سوراقيا دخول حلف شمال الأطلسي «الناتو» طرفاً مباشراً فيها. فالحضور الأطلسي يتمثل بقواعد عسكرية أميركية سبع: مطار الرميلان شرق مدينة القامشلي، المبروكة غرب القامشلي تل بيدر في الريف الشمالي للحسكة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي الجلبية بين عين عيسى وعين العرب مدينة تل أبيض في أقصى ريف الرقة الشمالي عين العرب كوباني في ريف حلب الشمالي الشرقي. كما يتمثل «الناتو» بوحدات من القوات الفرنسية في قاعدة على هضبة «مشتى نور» المطلة على مدينة عين عرب، وقوات بريطانية وألمانية منتشرة في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية قسد ذات الغالبية الكردية. هذه القواعد والوحدات الأميركية والفرنسية والبريطانية والألمانية تحتوي طائرات هيليكوبتر وجنوداً مقاتلين واستشاريين عسكريين وخبراء لوجستيين.
غير أنّ الأقوى بين الأطراف الأطلسية الناشطة في سوراقيا هو الطرف التركي الذي لا يُخفي مطامع «عثمانية» قديمة له في سورية حلب والعراق الموصل ويتواجد بكثافة عسكرية لافتة في شمال سورية جرابلس واعزاز ويتأهّب للسيطرة على مدينتي الباب ومنبج شمال حلب. كما تتواجد وحدات من الجيش التركي شمال الموصل وتهدّد بدخولها إذا ما سيطر «الحشد الشعبي» على مدينة تلعفر.
إلى جانب هذه الوحدات العسكرية الأطلسية النظامية، يشارك في الحرب مئات من «المتطوّعين» الأجانب من أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وألوف من دول آسيوية. هؤلاء «المتطوّعون» يقاتل بعضهم وفق توجيهات مشغّليهم من ضباط استخبارات الدول الأطلسية، وينشط بعضهم الآخر باستقلال عن الأطراف الحكومية، العربية والأجنبية، بدعوى نصرة الشعوب المستضعفة ضدّ حكامها المستبدّين.
مع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، لوحظ تباطؤ في حركة القوات الأطلسية في مسارح العمليات السوراقية من دون أن يقابله خفض في نشاط الجيش السوري أو في نشاط الطيران الحربي الروسي العامل في الأجواء السورية. يتردّد في عواصم القرار أنّ الأطراف الأوروبية المشاركة في الحرب الكونية على سورية قد صدمها انتخاب ترامب الذي كان قال خلال حملته الانتخابية إنّ حلف «الناتو» لم يعد مجدياً وإنّ على دول أوروبا الأطلسية أن تتحمّل الأعباء المالية لحمايتها. فمن الطبيعي، والحالة هذه، أن تشعر هذه الدول بأنّ مخططاتها حيال سوراقيا قد تتعارض مع مخطط أميركا خلال رئاسة ترامب، فكان أن آثرت تجميد حركة قواتها ميدانياً بانتظار جلاء مواقف واشنطن سياسياً وعسكرياً.
تركيا عضو في حلف «الناتو»، لكنها لا تتقيّد سياسياً وميدانياً بما تتمشى عليه غالبية أطرافه الأميركية والأوروبية. صحيح أنها تراعي الطرف الأميركي أكثر من غيره، لكنها تركّز في غالب الأحيان على تأمين مصالحها السياسية والاستراتيجية. وعليه، يبدو موقفها غامضاً خلال المرحلة الانتقالية التي تنتهي بتنصيب ترامب رئيساً في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل. فهل تنفذ تهديدها بالدخول الى الموصل إذا ما حرّر «الحشد الشعبي» مدينة تلعفر وقطع نهائياً طريق الإمداد اللوجستي بين الموصل والرقة؟ هل تدفع قواتها للسيطرة على كلّ من مدينتي الباب ومنبج بعد خروج قوات «قسد» منها وقبل سيطرة الجيش السوري عليها؟
لا شك في أنّ استقالة مدير عام الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر الذي يترأس 17 وكالة استخبارية ستقرأ فيها دول أوروبا الأطلسية إشارتين: الأولى، احتمال تجميد بعض العمليات الاستخبارية الأميركية الى ما بعد تعيين بديل له. الثانية، احتمال قيام ترامب بإجراء تعديل وازن على سياسة واشنطن في سورية، ولا سيما حيال الموقف من «داعش» والموقف من الرئيس بشار الأسد. كلّ ذلك يدفع دول أوروبا الأطلسية الى تجميد نشاط وحداتها العاملة في سوراقيا لتفادي حصول صدام بين مخططاتها ومخططات أميركا في قابل الأيام.
ما موقف أطراف محور المقاومة وروسيا من تجميد النشاط الأطلسي في سوراقيا؟
لا إشارة الى حدوث تجميد مماثل. بالعكس، الرئيس السوري صرّح بأنّ بلاده مصمّمة على تحرير كلّ المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» و«النصرة» واعتبر وجود قوات تركية داخل سورية عدواناً سافراً وانتهاكاً لسيادتها. كما حدّد سلفاً موقفه من ترامب بقوله إنّ سورية مستعدة للتعاون معه في حال تلاءمت سياسته ضدّ الإرهاب مع توقعات دمشق في هذه المجال. سورية، اذاً، مستمرة في الحرب على الإرهاب ولا خفض لوتيرتها.
لا إشارة أيضاً الى حدوث تغيير في موقف روسيا بعد اتضاح تجميد النشاط الأطلسي. بالعكس، روسيا ضاعفت نشاط سلاحها الجوي ومشاركة أسطولها البحري في الحرب ضدّ تنظيمات الإرهاب في سورية بعد انتخاب ترامب. ألم تفتح موسكو جبهة جديدة ضدّ «النصرة» وحليفاتها بشنّ حرب جوية قاسية عليها في محافظة إدلب وغربي محافظة حماه وشمال محافظة حمص؟
إيران أيضاً حافظت على وتيرة دعمها اللوجستي والعسكري لحلفائها في سوراقيا، ولا سيما في جبهة الموصل. كما أنّ قياداتها ما زالت تحمل على السياسة الأميركية وتحمّل واشنطن مسؤولية كلّ الشرور في العالم. ولا شك في أنّ قيام الكونغرس الأميركي بتمديد العقوبات عليها سيؤدّي الى مضاعفة دعمها لحلفائها في حربهم ضدّ الإرهاب.
في ضوء التطورات السالفة الذكر أرى أنّ أيّ خبير استراتيجي حصيف يتوقع، وربما يدعو، لقيام دول محور المقاومة وروسيا باغتنام المرحلة الانتقالية التي تمرّ فيها الولايات المتحدة من أجل تكثيف العمليات العسكرية، برّاً وجواً، ضدّ تنظيمات الإرهاب وحلفائها المحليين بغية تطهير جميع المناطق السورية منهم قبل أواخر العام الحالي. ومن المستبعَد أن تردّ أميركا بمقادير من العنف تتجاوز ما تقوم به، مباشرةً أو مداورةً، في مناطق سوراقيا التي تعاني حاليّاً من «داعش» و«النصرة» وحلفائهما المحليين.
بذلك يكون في وسع دمشق أن تجلس الى طاولة المفاوضات بلا تردّد لتتوصل مع تنظيمات سورية معارضة، تكون قد أصبحت معتدلة قولاً وفعلاً، إلى تسوية سياسية تحفظ وحدة البلاد وسيادتها وتفسح في المجال لبناء دولة مدنية ديمقراطية في ربوعها.
|