تحت عنوان «إخضاع الحزب»، أنهى الجيش «الإسرائيلي» أخيراً مناورة كبرى تواصلت 11 يوماً وحاكت حرباً على حزب الله. نائب رئيس هيئة أركان الجيش سابقاً وزير البناء حالياً يواف غالنت اختتم المناورة بإطلاق تهديدات جديدة وجّهها إلى لبنان بقوله: «في حال أخطأ حزب الله وبادر إلى حرب ضدّ إسرائيل، فإنّ لبنان سيعود الى العصر الحجري».
بصرف النظر عن قدرة «إسرائيل» المزعومة على إعادة لبنان أو غيره الى العصر الحجري، فإنّ تهديدات مسؤول صهيوني بارز تستدعي بعض الملاحظات والحقائق:
أُولاها، إنّ حزب الله كان دائماً في حال الدفاع عن النفس وعن بلاده في صراعه مع العدو الصهيوني. «إسرائيل» العنصرية العدوانية كانت هي البادئة دائماً بشنّ الحرب بذرائع شتى. فعلت ذلك على نطاق واسع في العام 1978 وفي العام 1982 وفي العام 2006. في اعتداءاتها الوحشية كلها، كانت تلقى مقاومة شرسة من المقاومة اللبنانية، لعلّ أشرسها وأنجحها تلك التي قادها حزب الله وآلت الى اندحارها الشنيع في حرب العام 2006.
ثانيتها، إنّ تهديدات مسؤولي الكيان الصهيوني وجنرالاته ضدّ لبنان وحزب الله، ولا سيما بعد المناورة الكبرى الأخيرة، تهدف بالدرجة الأولى إلى رفع معنويات «الإسرائيليين» المتدهورة بتضخيم لهجة التهديدات ضدّ الأعداء.
ثالثتها، إنّ التهديدات «الإسرائيلية» الصارخة سبقتها تصريحات ومقالات وتحليلات لمسؤولين وإعلاميين وخبراء عسكريين «إسرائيليين» نوّهت بالصواريخ الدقيقة المئة ألف التي يمتلكها حزب الله، كما بقدراته العالية والخبرة القتالية البالغة الأهمية التي راكمها مقاتلوه خلال الحرب ضدّ الإرهاب في سورية، فهل ترى «إسرائيل» في ذلك كله مبرّراً لتهديد لبنان وحزب الله بإعادته إلى العصر الحجري لكونها تمتلك قدرة نووية مدمّرة؟
رابعتها، إنّ تصريحات وتحذيرات متعدّدة صدرت عن مسؤولين وخبراء عسكريين «إسرائيليين» قبل المناورة الكبرى وأثناءها وبعدها كشفت هشاشة الجبهة الداخلية والمفاعيل الكارثية لقدرة حزب الله على توجيه إصابات دقيقة ومدمّرة لمرافقها الأمنية والحيوية، فهل تجازف القيادة «الإسرائيلية» بشنّ حرب على لبنان «لإعادته الى العصر الحجري»، طالما تعلم وتقرّ سلفاً بقدرة حزب الله على إعادة جبهتها الداخلية الى العصر الحجري أو، بأقلّ تقدير، إلى شيء من هذا القبيل؟
خامستها، إنّ «إسرائيل» لن تتورّع عن استخدام أسلحة مدمّرة يمكن أن تُلحق بالبلد المعتدى عليه أضراراً كارثية، لا سيما في حال استعمالها أسلحة نووية، وإنها لن تفعل ذلك بغرض الدفاع المزعوم عن النفس بل ستكون هي البادئة بالعدوان لظنّها أنّ ضربتها الاستباقية كفيلة بكسر إرادة عدوها ولجم تقدّمه التكنولوجي وتفوّقه العسكري عليها.
كلّ هذه الملاحظات والحقائق، ولا سيما الخامسة منها، تستدعي إعادة بحث مفهوم الدفاع عن النفس وتصويبه في عصر الأسلحة النووية والصواريخ البالستية العابرة للقارات ووجود دول وقوى عنصرية وعدوانية لا تتورّع عن استخدامها، لظّنها أنّ في وسعها الخروج من فعلتها الوحشية الكارثية النكراء سليمة وبمنجاة من محاسبة قاسية لاحقة.
من المسلّم به، ديناً وعرفاً وقانوناً دولياً وتشريعات محلية، أنّ الدفاع عن النفس حق مشروع لا تثريب في ممارسته. لكن إقرار هذا المبدأ وممارسة الحق الناجم عنه إنما تمّا في ظروف وعصور كان متوافراً فيها دائماً، ولو بمقادير متفاوتة، نوع من التكافؤ في القدرات بين البشر والمجتمعات والجماعات والدول. تأتّى عن ذلك أنّ ممارسة حق الدفاع عن النفس أمّن الحماية والسلامة ولم يؤدّ بالضرورة إلى الإبادة. اليوم، بوجود السلاح النووي، فإنّ قيام طرف من الأطراف بممارسة حق الدفاع عن النفس، بدافع مشروع أو غير مشروع، من خلال استخدام هذا السلاح سيؤدّي لا محالة إلى الدمار الشامل والإبادة. ليس أدلّ على ذلك من أنّ قيام الولايات المتحدة باستعمال السلاح النووي ضدّ اليابان في العام 1945 أدّى الى تدمير مدينتيها هيروشيما وناغازاكي وإبادة مئات الآلاف من سكانهما.
صحيح أنّ الجنس البشري الذي هزّته الفعلة الأميركية الوحشية وغير المسبوقة اتخذ عبر الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية الثنائية من القرارات والتشريعات والمعاهدات ما يمنع أو يحدّ من استعمال السلاح النووي أو إجراء تجاربه فوق الأرض وتحتها. لكن، هل هذه التدابير كافية لمنع قيادات أو جماعات أو حتى أفراد من استعمال أسلحة كارثية، نووية أو كيماوية أو بيولوجية، بدعوى الدفاع عن النفس؟
لعلّ شعور قادة الدول والحكومات بخطورة السلاح النووي ومفاعيله الكارثية على الجنس البشري، ولا سيما على الأطراف التي تستعمله، حملهم على الإحجام بعد العام 1945 عن استعمال هذا السلاح. وما كان هذا الإحجام العام ليسود لولا نشوء ميزان ردع متبادل بين الدول التي تمتلك أسلحة نووية. ومع ذلك فإنّ موازين الردع لن تردع الأطراف النووية أو تحول دون انزلاقها، بسببٍ من نقصٍ في المعلومات والمعرفة أو نقص في العقل والقيم أو نقص في قوة النفس والأعصاب أو بدافعٍ من عنصرية وعصبوية وحشيتين، إلى استعمال أسلحة التدمير الشامل، فما العمل؟
قد يتوصل العلم والتكنولوجيا إلى اختراع تجهيزات وآليات يمكنها تحسّس وجود أسلحة تدمير شامل بمجرد البدء بإنتاجها أو بنشرها وقبل المبادرة تالياً إلى استعمالها. ذلك يساعد في كشف أصحاب النيات الخبيثة وفي ردعهم قبل فوات الأوان. لكن ما العمل خلال المرحلة الانتقالية؟
هذا السؤال يهمّ، بل يجب أن يُقلق، الناس والجماعات والحكومات والنخب الوطنية والإنسانية الملتزمة والمتخوّفة، بحق، من جنون «إسرائيل»، قادةً وضباطاً وأفراداً عنصريّين ومتعصّبين لهم اتصال، بشكل أو بآخر، بسلاح تدمير شامل، نووي أو كيماوي أو بيولوجي. إنّ المتضرّرين والنخب جميعاً مدعوّون الى التفكير بعمق وروية في السبل الآيلة الى ابتداع وسائل ردع متقدّمة، تكنولوجية وسياسية وعسكرية، يحول اعتمادها دون انزلاق أيّ مجنون او مجموعة من المجانين في العالم، ولا سيما في الكيان الصهيوني، إلى استعمال أيٍّ من أسلحة التدمير الشامل.
إلى أن يحظى العرب والعالم بوسائل الردع المتقدّمة المرتجاة، يقتضي أن يحرص الواعون والمتعقلون والمتربّصون بمخاطر «إسرائيل» النووية ومجانينها المدنيين والعسكريين، على أن يكون لدى قوى المقاومة العربية، حكوماتٍ وتنظيمات، أسلحة تدمير شامل متطوّرة لتأمين توازنٍ في الردع، وأن تقوم تالياً بإفهام العدو بكلّ الوسائل المتاحة أنها لن تتأخر ثانية واحدة عن استخدامها للدفاع المشروع عن النفس بمجرد تحسّسها أنه بات في لحظة المبادرة إلى استعمالها.
هل من وسيلة وآلية أفعل وأفضل…؟
|