لكلّ بلدٍ عربي «ربيعه». بدايته انتفاضة شتائية مبكرة ونهايته مؤجّلة. «ربيع» كلّ من تونس ومصر وليبيا بدأ في شتاء 2011 واليمن في 2015 ولمّا ينتهِ بعد. كذلك «ربيع» سورية، بدأ في عزّ الربيع، 15 آذار/ مارس 2011، ولم ينتهِ. إنه أطول «ربيع» بين أمثاله إذ خَتمَ سنته السادسة ودخل السابعة وما زالت غيومه ملبّدة في سماء شرق البلاد وغربها. لكن، ثمّة أملاً متنامياً بانقشاعٍ قريب.
العراق كان وما زال في حال «ربيع» متكرّر الفصول وعلى مدى سنين. لعلّ «ربيعه» الأقسى بدأ مع حرب أميركا عليه في العام 2003. لكن، ما إن انحسرت غيومه بضعة أشهر حتى عادت الى التلبّد والتفجّر. آخر فصوله الكالحة بدأ في أيلول/ سبتمبر الماضي في كردستان العراق مع إصرار مسعود برزاني على إجراء استفتاء لفصل الإقليم الكردي عن العراق الاتحادي. كل الدول المحيطة بالعراق توافقت مع حكومته المركزية على رفض الاستفتاء الملغوم. حتى اميركا التي كانت أيّدته ضمناً، تظاهرت بمعارضته علناً.
سقط مسعود برزاني ومعه استفتاؤه الملغوم، لكن «ربيع» كردستان العراق لم ينحسر بعد. بالعكس، غيومه السوداء تتلّبد بسرعة في كلّ أرجائه، ولا سيما في محافظة السليمانية. فبينما كان رئيس الحكومة نيجيرفان برزاني ونائبه قباد طالباني يزوران ألمانيا التماساً لتدخلها في الأزمة المستعصية مع حكومة العراق المركزية، اندلعت انتفاضة في مدينة السليمانية ما لبثت أن عمّت كلّ أرجاء الإقليم. التظاهرات الغاضبة والإضرابات الشاملة عمّت معظم المدن الكردية احتجاجاً على عدم دفع رواتب الموظفين ومطالِبةً بمقاضاة المسؤولين المتورطين بفساد عميم.
الانتفاضة الكردية حظيت، منذ ساعاتها الاولى، بدعمٍ حارٍ من منظمات حقوقية ونشطاء وقوى سياسية جديدة كحركة «الجيل الجديد» التي تشكّلت في اعقاب الاستفتاء بقيادة رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد. الكرد المنتفضون لم يكتفوا بتنظيم التظاهرات والاعتصامات والإضرابات بل لجأوا الى مهاجمة مقار الأحزاب السياسية المشاركة في حكومة الإقليم، مردّدين شعار «الموت لبرزاني وليسقط طالباني» في إشارة الى القطبين السياسيين المحليين. أكثر من ذلك، عمد المنتفضون الى إحراق مراكز كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني، وحركة التغيير، والحزب الإسلامي، والجماعة الإسلامية، والى قطع الطريق بين السليمانية وكركوك، والطريق بين كركوك وأربيل. وتردّد أن وحداتٍ من «البيشمركة» شاركت في التظاهرات احتجاجاً على سعي الحكومة الى إخضاعها لقرار «الادخار الإجباري» القاضي بخفض الرواتب إلى أقل من النصف.
من الواضح أن الدافع الاول للانتفاضة اقتصادي بعدما تضرّرت مالية الإقليم واقتصاده نتيجةَ الإجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومة المركزية في بغداد، وأبرزها السيطرة على مدينة كركوك ومرافقها النفطية، وقطع عائداتها الوفيرة التي كانت تصادرها حكومة الإقليم، وحظر استعمال مطاريْ اربيل والسليمانية لدرجة أن ديون حكومة الإقليم تجاوزت في مجموعها 17 مليار/ بليون دولار لشركات تركية وشركات ومصارف محلية وغربية. إلى ذلك، أدّت المتاعب والصعوبات الاقتصادية المضنية الى تعزيز المعارضة للتحالف السياسي الهشّ الذي يحكم الإقليم، والى تصاعد المطالبة باستقالة حكومة برزاني وتأليف حكومة انتقالية لمفاوضة الحكومة المركزية تحت طائلة إجراء انتخابات مبكرة لبرلمان الإقليم.
حكومة حيدر العبادي المركزية هي أبرز الرابحين من انفجار أزمة الاقليم. فهي لم تكتفِ بتشديد تدابيرها العقابية السياسية والاقتصادية، بل بادرت أيضاً الى تحشيد القوات الاتحادية و«الحشد الشعبي» لمواجهة «البيشمركة» والسيطرة على الطريق التي تربط الموصل بكركوك بعدما استكملت السيطرة على المناطق المتنازَع عليها في محافظة نينوى.
إذ تتحوّل انتفاضة الكرد العراقيين من حركة شعبية ضد الفساد والفئة الحاكمة إلى صراع أهلي بين جماعات حزبية وسياسية متنافرة، ينهض سؤال عمّا يجب أن تفعله الحكومة المركزية لوقف الاقتتال وحلّ الأزمة الناشئة عن تطرف بعض السياسيين الساعين الى الانفصال. ذلك أن الازمة المستفحلة بين الكرد العراقيين لا تهدّد وحدة العراق واستقلاله الوطني فحسب، بل تنعكس أيضاً على الكرد السوريين الذين يعانون مشاكل وصعوبات مع مختلف الجماعات الإرهابية من جهة والحكومة التركية المتخوّفة من تطلّعاتهم الانفصالية من جهة أخرى. كما تتخوّف الحكومة السورية من اعتماد فريق منهم نهجاً سياسياً مشبوهاً بتعاونه العسكري والسياسي مع الولايات المتحدة بل بتجنّده أحياناً لخدمتها ضد الكفاح الوطني السوري، الرسمي والشعبي، لاستعادة السيطرة على كل مناطق البلاد.
حيال هذه التطوّرات والتحديات، تعتمل في أذهان أهل الرأي في الوسطين الوطنيين العراقي والسوري أفكار نهضوية لافتة:
أولاها: أن لدى القادة الوطنيين العراقيين عموماً ورئيس الحكومة حيدر العبادي، خصوصاً فرصة نادرة لمعالجة الأزمة العالقة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان العراق وضرورة حلّها داخل الإقليم، كما من أجل حفظ وحدة العراق واستقلاله وسيادته، على أن تبدأ المعالجة المرتجاة للتوّ وبمعزل عن قوى خارجية معروفة المطامع والمصالح والأغراض.
ثانيتها: أنّ المفتاح الرئيس للحلّ الوطني المتكامل هو الديمقراطية، بما هي النظام الأعدل والأفعل لإدارة التعددية في جميع المحافظات العراقية، وبين جميع مكوّنات شعب العراق، وذلك في إطار دولة مدنية ديمقراطية يتوجّب على القوى الوطنية الديمقراطية كافةً المبادرة الى الحوار للتوافق على أسس بنائها والنهج الآيل إلى وضعها موضع التنفيذ.
ثالثتها: أن الحوار الوطني الهادف والمطلوب يجب أن يتمّ قبل إجراء الانتخابات العامة في شهر أيار/مايو 2018 كي تكون الانتخابات اختباراً لمخرجات الحوار الوطني المنشود وفرصة لتأكيد التوافق الوطني على تعديل الدستور الحالي أو سنِّ دستور جديد في البرلمان الجديد تكفل أحكامه عروبة العراق وسيادته وديمقراطية نظامه السياسي وكفالة حكم القانون والعدالة والتنمية في الممارسة السياسية والاقتصادية.
رابعتها: أنه يجب الأخذ في نظر الاعتبار واقع العراق الحالي، إقليمياً ودولياً، والتهديدات التي تحيق به من جميع النواحي، ولا سيما من تنظيمات الإرهاب المدعومة من قوى دولية وإقليمية كما من الكيان الصهيوني وحلفائه، وبالتالي ضرورة التنسيق مع سورية التي تواجه التهديدات نفسها، وذلك لمساعدة الكرد السوريين على تفادي أوهام الانفصال التي راودت بعض الكرد العراقيين.
خامستها: أن اعتماد المبادئ والأهداف والمقاربات السالفة الذكر يستوجب، بادئ الأمر، مباشرة حوار وطني عراقي بين القوى السياسية جميعاً بغية التوصل الى توافق متين على طرائق وضعها موضع التنفيذ، وإقامة تحالفات وطنية جامعة لخوض انتخاباتٍ عامة ينبثق منها تكتل او تكتلات وطنية ديمقراطية تكون أهلاً لحكم البلاد وإدارة مواردها الطبيعية وإنمائها.
التحديات كبيرة والفرص متاحة، بقي أن يبادر أصحاب الإرادات الوطنية الى العمل بلا إبطاء.
|