كل الأنظار تتجه الآن الى إدلب. متى تبدأ المعركة الأكثر خطورة في حرب السنوات السبع السورية؟ ما تداعياتها، محلياً وإقليمياً؟ ما مطالب الأطراف الإقليمية والدولية المشاركة فيها مباشرةً او مداورةً؟
تلتقي أطراف عدّة في مساعٍ حثيثة لتفادي معركة دموية مدمّرة لن تنتهي قبل قتل وجرح عشرات الآلاف، وتهجير ما لا يقلّ عن مليون.
سورية ما عاد في مقدورها استيعاب المزيد من المهجّرين فوق مئات آلاف المشردين حاليّاً في مختلف مناطقها. لذا تراها حريصة على إجراء مصالحات محلية مع سكان بعض البلدات والقرى لتفادي مفاعيل الاشتباكات الضارية.
تركيا تتخوّف من تدفق المزيد من اللاجئين الى ديارها حيث يتآوى نحو مليونين من أقرانهم السوريين الهاربين من أهوال الحرب.
أوروبا قلقة هي الأخرى من احتمال اتجاه آلاف اللاجئين الى دولها المرهقة بآلافٍ منهم منذ سنوات.
أميركا تريد أن تتدارك انعكاسات نجاح الجيش السوري في استعادة إدلب على وجودها العسكري في شمال شرق سورية، حيث حلفاؤها الكرد المعادون لتركيا من جهة والمعارضون للحكومة السورية من جهة أخرى.
«إسرائيل» تخشى أن يؤدي انتصار الجيش السوري في إدلب الى تدعيم سلطة الحكومة المركزية في دمشق وترسيخ تحالفها مع إيران ووجودها العسكري في بعض مناطق البلاد.
روسيا تضع في حسبانها مخاوف سائر أطراف الحرب في سورية وعليها، لكن يهمّها، في الدرجة الاولى، مستقبل وجودها العسكري في سورية ودورها السياسي في المنطقة.
كل هذه المخاوف والهواجس والمصالح والمطالب مهمة لأصحابها. لكن أهمها هو الوجود الإيراني في سورية الذي يتصل بثلاث قضايا رئيسة كان وزير الخارجية الفرنسي جان-ايف لودريان قد حدّدها بقوله: «إيران لا يمكنها أن تتفادى مفاوضات في شأن ثلاثة ملفات كبرى تثير قلقنا هي مستقبل الالتزامات النووية بعد سنة 2025 تاريخ انتهاء مدة الاتفاق النووي ومسألة الصواريخ البالستية، وحقيقة أن هناك نوعاً من الانتشار البالستي من جانب إيران، والدور الذي تضطلع به في المنطقة».
هذه القضايا الثلاث الكبرى لا تقلق دول أوروبا فحسب بل تقلق أيضاً، وربما أكثر، كلاًّ من اميركا و«إسرائيل». فالولايات المتحدة، في ظل ادارة ترامب، تعتقد ان في وسع إيران امتلاك اسلحة نووية بقدراتها الذاتية حتى قبل انتهاء مفاعيل الاتفاق النووي سنة 2025. الأمر الذي يهدد نفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط وغرب آسيا. «اسرائيل» ترى هي الأخرى أن امتلاك إيران صواريخ بالستية للمدى البعيد يهدّد أمنها القومي، ولا سيما إذا ما قيّض لوجودها العسكري أن يبقى راسخاً في سورية.
مكمن الخطورة في هذه القضايا الثلاث الكبرى أن لا أميركا ولا روسيا ولا دول أوروبا في مقدورها حمل إيران على سحب وجودها العسكري من سورية، ولا إيران يسمح أمنها القومي بالتخلّي عن خيارها الاستراتيجي في بناء صناعة صاروخية بالستية.
ذلك كله يطرح سؤالاً بالغ الخطورة: هل ينجرف أصحاب الرؤوس الحامية في إدارة ترامب مع ضغوط «اسرائيل» ونفوذها القوي في الكونغرس، فيشيرون على الرئيس الاميركي المعروف بنزقه وتهوّره بضرورة شن الحرب على إيران في عمقها، كما في مواقع انتشارها في الخارج بغية تدميرها وإضعافها وجعلها عاجزة عن بناء صناعة نووية او صناعة صاروخية بالستية؟
هذا خيار جنوني. لكن الأرجح ألاّ يقترن بقرارٍ أكثر جنوناً. مع ذلك لا بد لإيران وسورية، كما لروسيا، من ان تضع في حسبانها إمكانية أن يركب ترامب ومستشاروه المتهورون رؤوسهم فينزلقون الى حربٍ ستصبح بالتأكيد عالمية وكارثية.
ماذا تفعل إيران؟
لا سبيل، على ما يبدو، الى ان تتراجع إيران عن قرارها الاستراتيجي ببناء صناعة صاروخية بالستية لسبب جوهري هو ان الاتفاق النووي للعام 2015 منعها من بناء صناعة نووية حربية في حين أنه ترك «اسرائيل»، ومن ورائها اميركا، حرّة وقادرة على إنتاج واستعمال أسلحة نووية دونما قيود. والحال ان «اسرائيل» تعتبر إيران عدواً موصوفاً ولا تنفك تدعو الولايات المتحدة الى فرض عقوبات اقتصادية عليها وصولاً الى إضعافها وإسقاط نظامها السياسي، كما لا يتوانى بعض قادتها عن دعوة ادارة ترامب الى شن الحرب عليها لتدميرها وإخراجها نهائياً من حلبة الصراع الإقليمي.
إزاء تحديات معقدّة وبالغة الخطورة كالتي تحتدم حاليّاً في منطقة غرب آسيا، لا يسع إيران إلاّ ان تعوّض افتقارها الى سلاح نووي بتوفير قوة نارية هائلة لردع أعدائها، قوة لا يمكن امتلاكها وبالتالي استعمالها إلاّ بحيازة صواريخ بالستية بعيدة المدى لنقلها إلى أعماق أراضي أعدائها. صحيح انه من الممكن حيازة هذه الصواريخ وإطلاقها من داخل إيران الى داخل «اسرائيل»، مثلاً، لكن امتلاك قواعد لإطلاقها في سورية المجاورة للكيان الصهيوني يقصّر المدى المطلوب لدقة التصويب، ويُنتج فرصاً أكثر لتحشيد عدد كثيف منها ما يؤمّن لإيران كما لسورية فاعلية ردعية أكبر وأقوى.
الى ذلك، تتيح قواعد الصواريخ البالستية الإيرانية في سورية حجة وازنة لدمشق لتقول لـِ «اسرائيل» وراعيتها أميركا إن لا سبيل الى إنهاء قواعد إيران الصاروخية البالستية في سورية قبل إنهاء الاحتلال الصهيوني للجولان السوري.
هكذا يتضح أن خروج أميركا من الاتفاق النووي مع بقاء «إسرائيل» مدجّجة بأسلحة نووية لا يحول دون خروج إيران من سورية فحسب، بل يُحتّم أيضاً بقاء قواعدها الصاروخية فيها لدواعٍ ردعية مشروعة…
|