يواجه العرب في حاضرهم تحدياتٍ خمسة:
التحدي الأول محوره المجتمع. المجتمع في بلاد العرب يعاني في نسيجه تمزّقاً وتمزيقاً مزمنين. التمزّق ذاتي، مصدره تعدّدية عميقة، متجذّرة، ومرهقة اتسم بها المجتمع في مختلف مراحل تاريخه. التمزيق وافد، متواصل، شامل، وعنيف مصدره قوى خارجية طامعة، غازية، شرسة، ومقتدرة. كل ذلك أورث المجتمع في بلادنا، عموماً، حالاً من الحبوط والقنوط والانحطاط أوهنت، وما زالت، مختلف وجوه حياتنا المعاصرة.
التحدّي الثاني محوره السلطة. السلطة في بلاد العرب اتسمت، إجمالاً، بنزوع أهلها إلى طلب الاقتدار والاحتكار والتحكم والبطش كما الشغف بالمال والممتلكات والمتاع ناهيك عن الإثراء غير المشروع، والحرص على بسط النفوذ بالهيمنة والهيبة معاً ما أشاع ثقافة الفساد والزبائنية والمحاصصة.
التحدّي الثالث محوره الدين، ولا سيما الإسلام تحديداً الذي أورث، بتشعّبِ مفاهيمه ومذاهبه وتكاثر عصبياته وسوء استعماله في خدمة أهل السلطة، أورث انشقاقاتٍ عميقة، أسوأها وأخطرها الشقاقُ السني- الشيعي ما ساعد تنظيمات الإرهاب التكفيري، بدعمٍ سخيّ أميركي وصهيوني بالمال والسلاح والرجال، في السيطرة على مفاصل الجغرافيا والإخلال بموازين الديموغرافيا في بعض الأقطار ومناطق البلاد. كلّ ذلك زاد نسيج المجتمع تمزيقاً وأفراده وجماعاته تشظّياً.
التحدي الرابع محوره شحّ في الموارد وأسباب العيش ناجم عن تخلّف في رعايتها وتنميتها، وتفاوتات واختلالات في تملّكها، وتحكّم في احتكارها، وسوء في توزيعها، ودور مؤذٍ للقوى الخارجية في استغلال اختلالاتها واحتكاراتها، وبالتالي ترسيخ سلوكية التبعية للأجنبي وشرعنة مشاركته في قضايا الشأن العام الداخلي وتوسيعها.
التحدي الخامس محوره اهتزاز النظام الدولي الناظم للعلاقات السياسية بين الدول، الأمر الذي تسبّب بتداعي الدولة مفهوماً ومؤسسات – وهي الأساس في بنيته كما باختلال التعددية المجتمعية، وتزايد التدخلات الخارجية ما أدّى تالياً الى نشوء كيانات قَبَلية ومذهبية وإثنية متمايزة داخل إطار الدولة التقليدية الهشة والمتداعية، والى نزوع القائمين على تلك الكيانات للاستعانة بقوى خارجية بغية توطيد سلطتهم مقابل أجور وبدلات وعمولات تُقتطع من موارد البلاد.
ذلك كله أرهق النظام الإقليمي المتمثل في جامعة الدول العربية وصدّعه وأورث حروباً أهلية مستعرة ومستمرة. وفي سياق حال الحبوط والقنوط والانحطاط الراهنة، تتبدّى باطراد إرهاصات وبوادر ولادة منظومة إقليمية مغايرة ومتراخية قوامها كيانات سياسية وأثنية وعسكرية متمايزة ذات هوّيات متعددة ومتصادمة.
هل من آفاق للمستقبل في بلاد العرب؟
تبدو الآفاق في بلادنا ضيقة وحالكة نتيجةَ التحديات والاختلالات سابقة الذكر. فلا أهداف ولا صبوات مشتركة ذات شعبية وازنة بل ثمّة ضمور لافت لقضية الوحدة، وانحسار متواصل لقضية فلسطين بما هي قضية العرب المركزية وذلك في غمرة تصعيدٍ منهجي للاستعمار الاستيطاني الصهيوني وتحالف ضمني بين أميركا ووكلائها المحليين لإحلال إيران محل «اسرائيل» كعدو قومي للعرب. في ضوء ذلك كله، لا غلوّ في القول إنه بات لكل قطر عربي، عقب ما يسمّى «الربيع العربي» وفي غمرة اضطراباته الداخلية وحروبه الأهلية ودعم الولايات المتحدة مباشرةً أو مداورةً لتنظيمات الإرهاب التكفيري، قضيته المركزية الخاصة به.
غير أنّ ضيق الآفاق وحلكتها لا يحجبان ظاهرةً بازغة. إنها نجاح القوى الحية في معظم أنحاء بلادنا العربية في استيلاد مقاومة متنامية، ميدانية وثقافية، ولا سيما في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن، ناشطة ضدّ أميركا و»إسرائيل» وحلفائهما المحليين والأطلسيين.
المقاومة الميدانية تبدو مصمّمة ومثابرة على ترسيخ سلوكية الصمود والتصدي والمواجهة، وعلى بناء القدرة والفعالية اللازمتين لإلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني، بدليل ما حدث في الحرب ضد لبنان والمقاومة سنة 2006، ولإلحاق الهزيمة بالإرهاب التكفيري وحليفيه الأميركي والصهيوني، بدليل ما حدث ويحدث في سورية والعراق واليمن خلال السنتين الأخيرتين وفي الوقت الحاضر.
المقاومة الثقافية ما زالت مقصّرة في التصدّي لخصومها التقليديين الماضويين المدعومين من الجماعات العنصرية، وبعضها حاكم ونافذ في أميركا وأوروبا. صحيح أنّ روّادها نجحوا في تجاوز سياسة التبعية للغرب الإمبريالي ولمعظم وكلائه المحليين، لكنهم ما زالوا أسرى تفكير ماضوي راسخ بمفاهيم وقيم وتقاليد شائخة. من هنا تستبين الحاجة التاريخية إلى انتزاع دورٍ فاعل للثقافة الحرة الناقدة في مسار بناء نهضة عربية شاملة. ذلك لا يتحقق إلاّ بثورةٍ في فهم الإسلام ومفاهيمه تكفل إقصاء فقهاء السلاطين وفقههم، وتجاوز أشياخ الجاهلية المعاصرة، واعتماد أرقى مناهج العلم والفن والتكنولوجيا، والإفادة من منجزاتها المضيئة بغية بناء الدولة المدنية الديمقراطية على أسس الحرية، وحقوق الإنسان، وحكم القانون، والعدالة، والتنمية.
من مجمل ما تقدّم بيانه يتضح أنّ بلاد العرب تعيش مخاضاً عميقاً وطويلاً، تعتمل في مختلف جوانبه تحديات وعوامل سلبية كابحة ومترافقة مع صراعات محمومة بين ثلاث قوى إقليمية نافذة، إيران وتركيا و»إسرائيل»، تُقابلها وتواجهها مبادراتٌ وحركاتُ مقاومةٍ مدنية وميدانية وثقافية صاعدة، ترنو الى المشاركة في صناعة نهضة شاملة، وتؤشر الى نجاحات واعدة.
|