يعاني لبنان أزمةً مزمنة وخانقة انتقل معها اخيراً، أو كاد، من حال اللادولة الى حال تداعي النظام الطوائفي الفاسد و… الفوضى. يبدو اللبنانيون، بفعل الشبكة السياسية المتحكمة، عاجزين عن حكم أنفسهم. ليس أدلّ على ذلك من انفجار الأزمات الاجتماعية والمعيشية واشتباك أهل السلطة في مساجلات ومناحرات حول مشروع قانون الموازنة للعام 2019. كلّ ذلك مردّه إلى ثلاثة أسباب: أوّلها، انقسام الشبكة المتحكمة على نفسها وخروج بعض أركانها على أحكام الدستور ووثيقة الوفاق الوطني الطائف وإذعان بعضهم الآخر لتدخلات قوى خارجية. ثانيها، تشتّت القوى الوطنية والتقدّمية المفترض ان تشكّل معارضةً فاعلة للنظام الفاسد. ثالثها، احتدام الصراع في المنطقة بعد انهيار النظام العربي الإقليمي، واعتزام الولايات المتحدة و»إسرائيل» تصفية قضية فلسطين من خلال ما يسمّى «صفقة القرن».
ليس في وسع أهل النظام سدّ فجوات هيكله المتداعي كما في الماضي. فالشبكة المتحكمة ترهّلت وفقدت مسوّغات شرعيتها وتدنّت فعاليتها وباتت عالة على البلاد. ومن أسف انّ القوى الوطنية والتقدّمية فقدت أيضاً جدّيتها وحيويتها وبدت عاجزة عن إعادة توحيد نفسها في وقتٍ عاد الصراع الى الاحتدام بين المحور الصهيوأميركي من جهة ومحور المقاومة العربية المدعوم من إيران وروسيا من جهةٍ أخرى.
في غمرة هذه التحديات، يحاول بعض أهل السلطة استدراك مفاعيل تداعي النظام الطوائفي الفاسد بطرحٍ مبكر لمسألة قانون الإنتخاب بما هو الوسيلة الأفعل لإعادة إنتاج النظام المترهّل ومراعاة مصالح وحساسيات وطموحات أركانه النافذين. في السياق، طرح رئيس مجلس النواب نبيه بري وكتلته النيابية مشروع قانونٍ جديد للانتخاب يتميّز بأمور ثلاثة: اعتماد النسبية، والدائرة الوطنية الواحدة، وآلية مغايرة لتوزيع المقاعد النيابية مع مراعاة التنوّع الطائفي والمذهبي.
لئن كان مشروع الرئيس بري باكورة المبادرات في هذا السبيل، فقد سبقه ثم واكبه مشروع آخر معدّل كان طرحه الخبير الانتخابي البارز عبدو سعد في العام 1997، كما أعقبه تعليق من الكاتب السياسي إميل خوري. سعد ثابر على مراعاة التوزيع الطائفي والمذهبي للمقاعد النيابية. خوري دعا إلى تطبيق المادة 22 من الدستور التي تقضي باستحداث مجلس شيوخ لتمثيل الطوائف بالتزامن مع انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي.
ليست قوانين الانتخابات المتعاقبة نتاج الشبكة السياسية المتحكمة وحدها بل هي أيضاً نتاج موازين القوى السياسية السائدة في زمان إقرارها. من هنا تستبين الحاجة الماسة إلى الاستجابة لتحديين جوهريين: تغيير البيئة السياسية والاجتماعية الراهنة التي تتيح إعادة إنتاج النظام الطوائفي، وإقامة هيئة وطنية بديلة من الشبكة السياسية المتحكمة بغية إنتاج قانون انتخابي ديمقراطي يضمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
في هذا السبيل، أرى أنّ أسس التغيير النهضوية يمكن ان تكون الآتية:
أولاً، عدم التورّط مع الشبكة السياسية المتحكمة في أيّ صيغةٍ تسووية يُراد منها إعادة إنتاج النظام او تجديد مؤسساته وآلياته، بل يقتضي دعوة القوى الوطنية الحيّة الى إعمال الفكر وتفعيل الحوار بغية إنتاج برنامج وطني سياسي واقتصادي واجتماعي متكامل لمعالجة حال لبنان المستعصية والانتقال به، من خلال جبهة وطنية عريضة، الى حال الحرية والوحدة والنهضة وحكم القانون والعدالة والتنمية والإبداع.
ثانياً، الضغط على أهل القرار في جميع المؤسسات والمستويات للتسليم بأنّ البلاد تمرّ في ظروفٍ صعبة واستثنائية، وانّ الظروف الإستثنائية تستوجبُ بالضرورة تدابير استثنائية للخروج من الأزمة المستعصية، وانّ ذلك يستوجب في حالتنا الحاضرة اتخاذ القرارات الآتية:
أ تأليف حكومة وطنية جامعة لمعالجة القضايا والمشكلات الأكثر إلحاحاً وأهمية، واتخاذ القرارات والتدابير الاستثنائية اللازمة بشأنها.
ب في موازاة المبادرة الآنفة الذكر، يدعو رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري مجتمعين ومستلهمين مُرتجى المادة 95 من الدستور، أيّ إلغاء نظام الطائفية السياسية، الى عقد مؤتمر وطني تأسيسي مؤلّف من مئة شخصية وطنية تكون عضويته على النحو الآتي:
ج أربعون عضواً من الكتل البرلمانية التي يضمّ كلٌ منها أربعة أعضاء على الأقلّ، يمثلون واقعياً وافتراضياً نسبة الـ 49 في المئة من اللبنانيين الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة بحسب بيان وزارة الداخلية.
د خمسون عضواً من الأحزاب والنقابات وتشكيلات المجتمع المدني يمثلون نسبة الـ 51 في المئة من اللبنانيين الذين قاطعوا الانتخابات النيابية.
إلى مجلس النواب، تسمّي قيادات الأحزاب والهيئات المنوّه بها آنفاً ممثليها بالتوافق في ما بينها، وإذا تعذّر عليها التوافق ترفعُ اقتراحات بأسماء أعضائها الجديرين بتمثيلها كي يقوم الرؤساء الثلاثة باختيار العدد اللازم من بينهم.
هـ عشرة أعضاء يتوافق الرؤساء الثلاثة على تسميتهم ويراعون في اختيارهم تمثيل المناطق والقطاعات التي تعذّر تمثيلها في الفئتين المار ذكرهما.
و تتمّ عملية تكوين الهيئة العامة للمؤتمر الوطني التأسيسي في مهلة شهر واحد من تاريخ انطلاقها، على أن يدعو الرؤساء الثلاثة فور انتهائها الى عقد المؤتمر بالأعضاء الذين تمّت تسميتهم شرط ألاّ يقلّ عددهم عن خمسين من مجموع أعضائه المئة.
ز يعقد المؤتمر الوطني التأسيسي جلسات متواصلة لإنجاز مهامه في مهلة لا تتجاوز الشهر الواحد.
ثالثاً، يهدف المجلس الوطني التأسيسي في عمله الى تحقيق المبادىء والإصلاحات التغييرية الآتية:
أ الخروج من النظام الطوائفي الفاسد ببناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ب اعتبار قوانين الانتخاب المتعاقبة منذ الاستقلال غير دستورية، وانّ اعتماد قانون انتخابي يضمن صحة التمثيل الشعبي وعدالته شرطٌ ومدخلٌ لبناء الدولة المدنية الديمقراطية ومنطلقٌ لإقرار سائر القوانين والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.
جـ إقرار قانون للانتخاب وفق أحكام الدستور، لا سيما المادتين 22 و 27 منه، على الأسس الآتية:
1 ـ اعتماد النسبية في دائرة انتخابية وطنية واحدة.
2 ـ يكون مجلس النواب مؤلفاً من 130 نائباً، مئة 100 منهم يُنتخبون بموجب لوائح مرشحين مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين من دون التوزيع المذهبي للمقاعد، ويُنتخب الثلاثون 30 الباقون وفق التوزيع المذهبي على أن يكون لكلّ ناخبٍ صوت واحد.
3 ـ يجتمع كلّ النواب المنتخبين في هيئة مشترعة واحدة ويقومون بتشريع قانونين:
الأول يقضي باعتبار النواب المئة المنتخبين على أساس المناصفة بلا توزيع مذهبي للمقاعد قوام مجلس النواب المنصوص عليه في المادة 22 من الدستور، واعتبار الثلاثين نائباً المنتخبين على أساس التوزيع المذهبي قوام مجلس الشيوخ وفق المادة عينها.
الثاني يقضي بتحديد صلاحيات مجلس الشيوخ باعتماد معظم المواضيع المعتبرة أساسية في الفقرة 5 من المادة 65 دستور.
رابعاً، يُعرض مشروع قانون الإنتخاب الديمقراطي الجديد على استفتاء شعبي عام، ويُعتبر قانوناً شرعياً مستوجباً التنفيذ ومجلس النواب القائم منحلاً بموجبه. وذلك إذا نال موافقة لا أقلّ من خمسين 50 في المئة من أصوات المشاركين.
خامساً، يتوافق الرؤساء الثلاثة بعد استشارة أعضاء المجلس الوطني التأسيسي على تأليف حكومة وطنية جامعة لإجراء الإنتخابات وفق أحكام قانون الإنتخاب الجديد وإنتاج مفاعيله الدستورية والقانونية.
ماذا لو تعذّر، لسبب او لآخر، سلوك هذا المسار التغييري النهضوي الديمقراطي؟
ارى انّ القوى الحيّة عموماً والقوى الوطنية والتقدّمية خصوصاُ المؤتلفة في جبهة وطنية عريضة مدعوّة الى اعتماد خيار العصيان المدني ومباشرة تنفيذ متطلباته ضدّ مؤسسات النظام الطائفي الفاسد والقائمين بإدارته، وتصعيد الضغط الشعبي لغاية تسليم المسؤولين ذوي الصلة بتنفيذ برنامج التغيير الديمقراطي بمبادئه وأسسه وإجراءاته المنوّه بها آنفاً.
البقاء في حال الطائفية والفساد والحروب الأهلية موتٌ بطيء ومحتّم، فيما الإنطلاق الى التغيّر والتغيير الديمقراطي النهضوي ارتقاء الى حياة حضارية جديدة وإبداعية، وقد آن الأوان.
|