ما زالت فلسطين، نظرياً، قضية العرب المركزية. إنها كذلك في نظر الفلسطينيين والعروبيين في شتى أرجاء الوطن الكبير. لكنّ مركزيتها انحسرت في الواقع بعد اتفاق أوسلو 1993 وامتناع «إسرائيل» عن تنفيذ بنوده، وتفريغ المشروع الوطني الفلسطيني تالياً من مضمونه الكفاحي التحريري، وإلهاء أصحابه بمفاوضات متطاولة لامجدية مع عدوّ صهيوني رافضٍ قيام دولة غير «إسرائيل» بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وانهيار النظام العربي الإقليمي بعد اندلاع انتفاضات «الربيع العربي» المزعوم، ونجاح الإرهاب التكفيري، بدعمٍ من دول كبرى وأخرى إقليمية، في السيطرة على مناطق كثيفة السكان وغنيّة الموارد في العراق وسورية وليبيا واليمن ما أدّى الى إغراق هذه الأقطار في دوامة أزماتها الداخلية.
في غمرة هذه الأزمات والاضطرابات المتناسلة، نشأ تحدٍّ جديد بالغ الخطورة. إنه قيام الولايات المتحدة، بدعوى مواجهة الإرهاب، بتطوير تدخّلها العسكري في سورية والعراق من عمليات قصف وتدمير بطائرات «التحالف الدولي» إلى إنزال قوات بريّة ومدرّعة في مواقع متعدّدة داخل سورية والعراق. ففي شمال شرق سورية اليوم نحو 20 قاعدة برية ومهابط جوية لأميركا، ناهيك عن قاعدتها وقواتها في منطقة التنف في جنوب شرق سورية على مقربة من حدودها الشرقية مع العراق وغير بعيدة من حدودها الجنوبية مع الأردن.
مسؤولون سياسيون وعسكريون أميركيون كبار أعلنوا مرات عدّة أنّ أميركا لن تسحب قواتها من سورية والعراق إلاّ بعد القضاء نهائياً على تنظيمات الإرهاب. والحال أنّ «الدولة الإسلامية» الداعشية سقطت في الموصل، كما في عاصمتها الرقة، ولم يبقَ لها في العراق وسورية سوى بضعة جيوب محدودة ومطوّقة ولا فعالية لها. مع ذلك يلمّح المسؤولون إياهم الى أنّ انسحاب القوات الأميركية قد يستغرق سنوات. لماذا؟
لأنّ مهامَ أخرى، على ما يبدو، ستُسند اليها في الحاضر والمستقبل المنظور. فالرئيس الأميركي ترامب ما زال مصمّماً على تعديل بعض بنود الاتفاق النووي مع إيران، ونائبه بنس أعلن في مؤتمر اللوبي اليهودي الأميركي «ايباك» الأخير أنّ واشنطن ستنسحب خلال أشهر من الاتفاق النووي إذا لم يتمّ تعديله. إلى ذلك، يؤكد نتنياهو أنه اتفق مع ترامب، خلال اجتماعهما الأخير، على منع إيران من تصنيع أسلحة نووية أو إقامة قواعد عسكرية في سورية.
تصعيد لهجة المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين ضدّ إيران وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية رافقتها مناورات واسعة أجراها الجيشان الأميركي والإسرائيلي وستستمرّ أسابيع لمحاكاة تعرّض الكيان الصهيوني لهجوم صاروخي شامل على أكثر من جبهة، بينها الحدود الشمالية مع لبنان والحدود الجنوبية مع قطاع غزة.
قائد سلاح الدفاع الجوي الإسرائيلي الجنرال تسفي حايموفيتش أعلن أمراً بالغ الخطورة: بحسب ما يجري في المناورات، فإنه عند إصدار الأوامر ستنتشر القوات الأميركية في الكيان إلى جانب القوات الإسرائيلية سعياً لحمايته من إطلاق الصواريخ والقذائف. وبالتوازي مع هذه المناورات، ستُجري قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية يوم غد الثلاثاء مناورة لاختبار جهوزية الكيان والردّ على قصف صاروخي مكثف يستهدف المناطق الحيوية فيه. اللافت أنّ إعلان الجنرال حايموفيتش هذا اقترن للتوّ بتأكيدٍ من قائد القوات الأميركية في المناورات الجنرال ريتشارد كلارك مفاده «أنّ كبار قادتنا سيلتزمون طلب الحكومة الإسرائيلية وسنكون جاهزين للتنفيذ». ومَن تراهم يكونون «كبار قادتنا» غير ترامب ووزير دفاعه الجنرال ماتيس وسائر جنرالات هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية؟
بات واضحاً أنّ ثمة مخططاً لأميركا ذا أبعاد متعدّدة يوجّه سياستها وتحركاتها في غرب آسيا ولا سيما في سوراقيا سورية والعراق وأنه ينطوي على الآتي:
تثبيت القواعد العسكرية الأميركية في كلا القطرين ورفدهما بقوات بريّة ومدرّعات وطائرات وصواريخ بالستية بعيدة المدى.
قطع جسر التواصل البري بين سورية والعراق الذي تحقق بعد تحرير البلدتين الحدوديتين: البوكمال السورية والقائم العراقية غير البعيدتين من منطقة التنف السورية حيث تنتشر القوات الأميركية.
قيام أميركا باستعمال قوات سورية الديمقراطية «قسد» الكردية التي سلّحتها في شمال شرق سورية في تنفيذ مهمات يتطلبها مخطط تقسيم سورية والعراق أو إضعافهما، في الأقلّ، وذلك بترسيخ مناطق حكم ذاتي للكرد المتعاونين معها وتوظيفهم في وضع يدها على منابع النفط والغاز في محافظات دير الزور والرقة والحسكة.
نحن في بلاد الشام وبلاد الرافدين أضحينا أمام تحدٍّ بازغ وخطر داهم: انعقاد شراكة استراتيجية بين «إسرائيل الكبرى» التي اسمها أميركا و»إسرائيل الصغرى» التي اسمها الكيان الصهيوني. موضوعها إرساء حضور عسكري فاعل للأولى في سوراقيا يكون منطلقاً لتحقيق ثلاثة أغراض استراتيجية:
تفكيك سوراقيا، شعباً ومؤسسات، والحؤول دون نهوضها بالوسائل الممكنة كلّها.
تحويل سوراقيا، في ظلّ الهيمنة الصهيوأميركية، جداراً فاصلاً وقاصماً ظهر الوجود العربي الممتدّ بين الهلال الخصيب الكئيب من جهة ووادي النيل والجزيرة العربية من جهة أخرى.
اعتماد سوراقيا المكبّلة بقيود الهيمنة الصهيوأميركية قاعدةً لمواجهة إيران وعزلها عن بيئتها الإقليمية، سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً، وصولاً إلى محاولة ضربها وتقزيمها.
أجل، لا غلوّ في توصيف الولايات المتحدة بأنها «إسرائيل الكبرى». فقد باتت، أو كادت، في قبضة شبكة من الساسة وأهل القرار والتفكير والتدبير تعتنق أفكارَ وأوهام المسيحية الصهيونية العنصرية المعادية للعرب والمسلمين وللإسلام الذي تسمّيه «الإسلام الإرهابي». هذه الشبكة شديدة التعصّب والعصبية ولن تتورع عن اللجوء إلى أعلى درجات العنف والتدمير لتنفيذ أغراضها وحماية مصالحها.
في ضوء هذا التّحدي والخطر الداهم يرتقي هدف تحرير سوراقيا من هيمنة «إسرائيل الكبرى»، كما «إسرائيل الصغرى»، إلى مرتبة القضية المركزية الأولى في حاضر الوجود العربي ومستقبله المنظور الأمر الذي يجعل أية مقاربة أو معالجة للقضايا والأزمات التي تعصف بسائر الأقطار العربية، ولا سيما المشرقية منها، محكومةً ومتوافقة interdependent على واقع الصراع ومستقبله من أجل تحرير سوراقيا وتوحيدها وإعادة إعمارها وتنميتها.
الصراع معقّد ومتوقّد وطويل.
|