تشرين الاول/ أكتوبر هو شهر الحرائق والأعاصير في لبنان. يوم الثلاثاء الخامس عشر منه اندلع إعصار ناري أحرق الأخضر واليابس على امتداد مساحة البلاد من الشمال إلى الجنوب.
الخميس السابع عشر منه تفجّر إعصار وطني غير مسبوق، يضجّ بفرحة غضبٍ عارم، ملأت جماهيره الشوارع والساحات، عابرةً المناطق والطوائف والمدائن بصورة عفوية وبلا قائد.
الجمعة الخامس والعشرون منه فجّر قائد المقاومة السيد حسن نصرالله إعصاراً سياسياً مترعاً بحقائق ووقائع صادمة مفادها انّ الحراك الوطني الهادر غير المسبوق… مخروق، وأنه بات غير عفوي، وانّ الوضع اللبناني دخل دائرة الاستهداف الإقليمي والدولي، وانّ لديه معطيات وشكوك حول وجود مساعٍ لجرّه إلى حرب أهلية، داعياً جمهور المقاومة الى مغادرة ساحات الحراك تفادياً لإحتكاكاتٍ واشتباكات تصبّ زيتاً على النار وتخدم مآرب الأعداء.
قائد المقاومة لم يضع المشاركين بالحراك في سلة واحدة كون غالبيتهم وطنية، صادقة ومعانية من ظلمٍ وفقر وبطالة وضيق عيشٍ واستغلال، لذلك شدّد بقوّةٍ على وجوب امتلاكها قيادة موحدة أو، في الأقلّ، قيادات في كلٍّ من مناطق وجودها ونشاطها وذلك لتصويب حركتها والتنسيق في ما بينها، والمبادرة الى مفاوضة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي كان دعاها للحوار بغية التفاهم على مخرج آمن من المحنة العاتية. نصرالله ناشد المتظاهرين أن فاوضوا تحت ضغط الشعب، فلا أحد يطرح التفاوض لدفع الناس إلى مغادرة الشارع.
كيف كان حال الحراك الشعبي عشية تفجّر إعصار نصرالله؟
ليس من قبيل التبسيط القول إنّ تيارين رئيسيين يتقاسمان الحراك والتظاهرات التي قدّرت رويترز عديدها بما يناهز المليون والنصف مليون. التيار الأول، الأعرض، قوامه جماهير أحزاب ونقابات وتشكيلات مجتمع مدني ترفع شعارات سياسية راديكالية شتى أبرزها ثلاثة: الشعب يريد إسقاط النظام ، الشعب يريد إسقاط الحكومة ، استردّوا الأموال العامة المنهوبة وحاكموا سارقيها .
التيار الثاني، الأقلّ حراكاً والأكثر نفوذاً، يرفض إسقاط رئيسيّ الجمهورية والحكومة، ويدعو إلى التركيز على ضرورة تفادي الانهيار المالي والاقتصادي بتنفيذ إصلاحات وإجراءات مالية واقتصادية وإدارية جدّية جرى التوافق عليها وأعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري بصيغة ورقة اقتصادية إصلاحية وحدّد لتحقيقها مهلاً زمنية.
التيار الأول راديكالي، متعدّد الألوان والمشارب والمطالب، يُرسي منطقه على حجج سياسية مستمَدّة من الواقع والتجارب. يقول ناشطوه إنّ النظام السياسي الطائفي ترهّل وتداعى بفعل سوء تدبير أهل السلطة الفاسدين ما أدّى إلى تراكم أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة، وتصاعد خيالي للدين العام، ودفع البلد إلى حافة الانهيار، وانه لا يعقل ان يقوم حكام فاسدون بمحاربة الفساد أو بمقاضاة الفاسدين، وانّ الخروج من الأزمة المزمنة يتطلب المبادرة الى إقصاء هذه الطبقة الطائفية الفاسدة سلمياً بقانون للإنتخابات يكون لبنان بموجبه دائرة وطنية واحدة على أساس النسبية، وتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلسين تشريعيّين: الأول مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي، والآخر مجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف يختصّ بالقضايا المصيرية.
التيار الثاني مترصّن، يرى انّ الظروف الداخلية والإقليمية لا تسمح بإقصاء رئيسيّ الجمهورية والحكومة مخافةَ الوقوع في فراغ قد يستغرق تجاوزه سنوات، وقد يؤدّي الى انهيار مالي واقتصادي وفوضى سياسية عارمة، وانّ النهج الأفضل هو الإسراع في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية لتفادي الانهيار، ووضع الأسس وإقامة الهيئات والمؤسسات اللازمة لإسترداد الأموال العامة المنهوبة، ومحاسبة المسؤولين عن النهب والسرقة برفع السرّية المصرفية والحصانة القضائية عن الرؤساء والوزراء والنواب والمدراء والمسؤولين الذين يتعاطون ولهم صلة بالمال العام.
الى ذلك، يشير بارتياب قياديون وطنيون وتقدّميون من خارج التيارين إلى تشكيلات في المجتمع المدني مرتبطة بمؤسّسات أميركية معروفة تقوم بتمويلها كي تتولى هي بدورها، وبالتعاون مع أحزاب لبنانية يمينية، بتمويل بعض الجماعات المشاركة في الحراك والساعية إلى توجيه أنشطته وجهةً معادية لحزب الله وسلاح المقاومة، كما تقوم بقطع الطرقات والاشتباك بقوات الجيش والأمن الداخلي في محاولةٍ مريبة لجرّ البلاد إلى الفوضى والحرب الأهلية. ولا يستبعد القياديون هؤلاء ان تكون هذه التشكيلات جزءاً من مخطط مريب تبدّت ملامحه أخيراً في تقارير وتعليقات صحف عبرية عدّة، عنوانه الأبرز السعي إلى مشاغلة لبنان وقوى المقاومة وحلفائها داخلياً باشتباكات متمادية بقصد إضعافه وكسر وحدته وشلّ مجابهته لـ اسرائيل .
اذ يشتدّ الصراع بين التيارين المتصارعين في غمرة تدخلات خارجية بدأ تأثيرها يتزايد، يأمل اللبنانيون الوطنيون ان يتعظّ أهل السلطة من دروس التاريخ المستقاة من تجارب دول أخرى في الشرق والغرب، وان يكفوا عن الإصرار على إعادة انتاج أنفسهم بنظام المحاصصة الطائفية، وان ينفتحوا على العصر وعلى أجيال الشباب الحالمين بالتغيير الديمقراطي والنهضة. كما يأمل اللبنانيون الوطنيون ان يتعقل الثائرون من أهل التيار الراديكالي المناضلون من أجل الإصلاح والعدالة فيتوحدوا بمختلف أجنحتهم ويختاروا لأنفسهم قيادة وبرنامجاً تغييرياً متكاملاً ونهجاً عملياً يقود، بالصبر والكفاح والمثابرة، إلى تحقيق أهدافهم العليا في الحرية والدولة المدنية الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية.
… وتبقى أولى الأولويات وأكثرها إلحاحاً وأهمية في هذه الظروف العصيبة ألاّ تتحوّل فرحة غضب جماهير الحراك الى غضبٍ بلا فرح ينعكس فوضى وخراباً وحرباً أهلية تستنزف البلاد والعباد.
|