ليس دونالد ترامب، المقاول العقاري المرموق، أول من اعتبر السياسة في عالمنا المعاصر بازاراً للمساومة والمقايضة والبيع والشراء. رجب طيب أردوغان سبقه إلى ذلك مذّ كان رئيساً لبلدية اسطنبول ومن ثم سياسياً طموحاً مترعاً بأمجاد بني عثمان، ومدجّجاً بشراكةٍ سياسية وعسكرية مع أميركا الأطلسية الناتو . فلاديمير بوتين أدرك مزايا الرجلين وظنّ أنّ بإمكانه منافستهما في البازار الشرق أوسطي المفتوح، لا سيما في ساحته السورية.
مطامح أردوغان هي نفسها مطامعه متنكّرة بأزياء ديبلوماسية. مطمحه الأول بناء زعامة طاغية في الداخل تحاكي زعامة مصطفى كمال أتاتورك. مطمحه في الخارج استعادة تراث السلطنة العثمانية ونفوذها، سياسياً و عقارياً انْ صحّ التعبير. وسيلته الى تحقيق مطامحه ومطامعه مزاوجة غير مسبوقة بين القومية الطورانية والإسلام. تركيا بلد تعدّدي لا يشكّل الأتراك فيه أكثرية وازنة. من هنا تنبع رؤية أردوغان العملانية بما هي مزيج قومي ــ إسلامي معدّ ومغرٍ لتتذوّقه مختلف شرائح المجتمع التركي.
تركةُ بني عثمان الأوروبية توزعت على أطراف عدّة، ليس بينهم من يمتلك أكثرية مسلمة تمكّن السلطان التركي المعاصر من اكتسابها، في حين انّ تركة بني يعرب تبدو أقرب منالاً. فالعرب شتات، ليس فيهم دولة متماسكة سوى مصر التي تهافتت بعد غياب جمال عبد الناصر وفقدت نفوذها الإقليمي. السلطان أردوغان حاول بادئ الأمر اجتذاب سورية مترسملاً على مزاياً ثلاث: سمعة عاطرة اكتسبها بتصدّيه اللافت لشمعون بيريز في عكاظ دافوس السويسرية، وتضامن إعلامي مبكر مع حركة حماس الإسلامية في غزة، واعتماد ضمني على اخوة السلاح مع الاخوان المسلمين الذين لهم وجود غابر في سورية يمكن تفعيله.
سِحرُ أردوغان لم ينطلِ طويلاً على بشار الأسد الذي وجد نفسه، بعد اندلاع اضطرابات الربيع العربي ، في حرب مستعرة مع تنظيمات إرهابية ترفع لواء الإسلام، جرى حشدها وتمريرها عبر تركيا ونشرها في مناطق سورية عدّة.
شراكة أردوغان المتوترة مع التنظيمات الإرهابية الآسيوية لم تعمّر طويلاً. فقد نافسته عليها أميركا وأغرقتها بالمال والسلاح لغاية ان تأمّنت لها مطواعيتها. وفي السياق، لاحظ أردوغان انّ ترامب مدّ يده الى بعض الكرد السوريين وأغراهم بإطّراد دعمه لغاية ان يقيموا في شرق الفرات كياناً بحكم ذاتي الأمر الذي يتيح لهم تواصلاً وتكاملاً مع الكرد في جنوب شرق تركيا.
في هذه الأثناء كانت روسيا بوتين قد تنبّهت الى مخاطر ما يبتغيه الأميركيون، ومن ورائهم الإسرائيليون، في سورية: تفكيكها وتحويلها إلى مجموعة من جمهوريات الموز المتناحرة ما يؤدّي في نهاية المطاف الى وقوع كارثتين: تكريس إسرائيل قوةً مركزية إقليمية تمكّنها من تصفية قضية فلسطين، وإنهاء الوجود الروسي في البحر الأبيض المتوسط المتمثّل بقاعدتهم البحرية في طرطوس السورية.
في حمأة الصراع في سورية وعليها، ظنّ بوتين انّ في وسعه الإفادة من صِدام المصالح بين تركيا وأميركا نتيجةَ الحراك الكردي، فراودته فكرة جريئة: ان يجتذب تركيا بعيداً عن حلف شمال الأطلسي بتزويدها أسلحةً متطورة كانت اميركا تتردّد بتزويدها إياها.
لم يتأخر أردوغان في إدراك اللعبة الروسية والمشاركة فيها أملاً في إثارة غيرة أميركا ودفعها إلى مقايضته أموراً عدّة لعلّ أهمّها ردع الأكراد عن الإمعان في الارتهان لها بحثاً عن حكم ذاتي وذلك مقابل تكريس حصة لأميركا في استثمار نفط وغاز منطقة شرق الفرات وبادية الشام. في مقابل هذه الهدية الثمينة، قدّم بوتين لأردوغان رشوةً أقلّ قيمة: منظومة الدفاع الجوي المعروفة بإسم أس 400 .
ما ان عزّز أردوغان مركزه التفاوضي بتسلّمه منظومة أس 400 حتى بدأ بمساومة أميركا على أمور أربعة: وقف او أقلّه تقليص دعمها للأكراد السوريين تكريس حصتها في نفط سورية وغازها الوفيرين دعم التنظيمات الإرهابية في محافظة إدلب ضدّ الحكومة المركزية في دمشق لإضعافها في سياق العمل لتفكيك سورية كرمى لعينيّ اسرائيل وتمكين أنقرة من اقامة منطقة آمنة على طول الحدود التركية – السورية كي تصدّر إليها غير المرغوب فيهم من اللاجئين السوريين، وتعمل تالياً على تتريكها تمهيداً لضمّها الى دولة السلطان العثماني المعاصر.
أميركا تظاهرت، بادئ الأمر، بأنها منزعجة وبالتالي عازمة على حرمان أردوغان طائرات أف ـ 35 التي كان أوصى عليها ودفع ثمنها، غير أنها سرعان ما كشفت قناعها بالموافقة على تمكين أردوغان من إقامة المنطقة الآمنة الموعودة.
ليتفادى أية ردة فعل روسية سلبية على الخديعة التركية الأميركية، قام أردوغان بهندسة تهديدين لروسيا: عسكري وسياسي. العسكري تمثّل بدفع التنظيمات الإرهابية الموالية له في إدلب الى إمطار القاعدة الروسية في مطار حميميم بوابل من القذائف الممكن تطويرها لاحقاً الى هجوم يستهدف قاعدتها البحرية في طرطوس. التهديد السياسي تمثّل بإعلان أردوغان في حضرة الرئيس الأوكراني ان تركيا لم ولن تعترف بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم !
كيف سيتخلّص الروس والسوريون والكرد من خوازيق أردوغان؟
أرى انّ الأطراف المتضررة الثلاثة، بالإضافة إلى العراقيين، مضطرة عاجلاً او آجلاً، الى التعاون الوثيق في ما بينها لمواجهة التحديات الأميركية التركية ــ الإسرائيلية بالسرعة الممكنة. ولعلّ جدول أعمال أول اجتماع على مستوى عالٍ بين الأطراف الثلاثة سيتضمّن بالضرورة ثلاث قضايا رئيسة:
1 ـ تحرير محافظة إدلب من الإرهابيين جميعاً ومن… الأتراك أيضاً.
2 ـ تحرير منطقتي التنف وشرق الفرات السوريتين من القوات الأميركية المحتلة.
3 ـ تحرير الأكراد السوريين المخدوعين بالدعم العسكري الأميركي من أوهام مساندة الولايات المتحدة لسعي بعضهم إلى إقامة حكم ذاتي في شمال شرق سورية ودفعهم الى مفاوضة حكومة دمشق المركزية.
… باختصار، الحرب في سورية وعليها مستمرة.
|