الصراع على أشدّه في غرب آسيا. الولايات المتحدة تشنّ هجوماً سياسياً مقروناً بعقوبات اقتصادية ومناوشات عسكرية على امتداد المنطقة من شواطئ البحر المتوسط غرباً إلى شواطئ الخليج شرقاً. روسيا تتصدّى للهجوم الأميركي بالسياسة كما بالمناورات العسكرية المحسوبة على مدى جغرافي واسع يمتدّ من شعاب الشرق الأوسط الى أصقاع الشرق الأقصى. إلى الدولتين العظميين، ثمة لاعبون إقليميون أقوياء يتبارون في ملاعب بلاد الشام وبلاد الرافدين ويحاول كلٌّ منهم التحكّم بكرة المصالح لصالحه.
العنوان العريض للصراع تجميعُ أوراق القوة لاستخدامها من قبل أطراف الصراع في المكان والزمان المناسبين. أبرز أوراق القوة قضيةُ اللاجئين السوريين. تركيا أردوغان تمسك بهذه الورقة وتهدّد بها أوروبا وتبتز سورية وإيران وروسيا. تقول لأوروبا إنّ هجوم الجيش السوري على إدلب سيؤدّي إلى تهجير مئات الآف المدنيين ولجوئهم إلى تركيا وتالياً إلى دول القارة العجوز. تقول لسورية وإيران وروسيا إنها بحاجة لمزيد من الوقت لفصل تنظيمات المعارضة السورية المعتدلة عن الفصائل الإرهابية «النصرة» وغيرها لتسهيل القضاء على هذه الأخيرة.
الواقع يؤشّر الى أغراض أخرى مريبة. ذلك أنّ تركيا حشدت قوات برية ومدرعة على طول الحدود مع سورية، ولا سيما بين محافظة إدلب وولاية اسكندرون المتجاورتين، بل هي عززت قواتها في نقاط المراقبة حول منطقة «خفض التصعيد»، أيّ داخل المحافظة نفسها. فوق ذلك، تتحسّب دمشق لقيام حكومة أنقرة بإخضاع محافظة إدلب لترتيبات إدارية وأمنية مشابهة لما فعلته في منطقة عفرين السورية المحتلة حيث فرضت التداول بالعملة التركية، واعتماد المناهج التركية في التدريس والتعليم، وإقامة بنى تحتية خاصة بها. باختصار، ثمة دلائل ناطقة بوجود مخطط متكامل لوضع مناطق واسعة في شمال سورية وشمالها الغربي كما الشرقي تحت سيطرة تركيا بدعوى تفعيل مكافحة الفصائل الإرهابية ومنع الكرد السوريين الانفصاليين من إقامة كيان مستقلّ لهم في تلك الأصقاع.
أميركا تبدو مرتاحة إلى ما تقوم به تركيا. سرّها تصريح أردوغان بأنّ الهجوم السوري على إدلب معناه الاقتراب من حدود تركيا التي هي «حدود أطلسية». أليست تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي «الناتو» ؟ إلى ذلك، يثابر ترامب على التهديد بأنّ استخدام الجيش السوري للسلاح الكيميائي سيحمل الولايات المتحدة على الردّ عليه بعنف، بل هو يذهب الى أبعد بقيام قواته المتمركزة في منطقة التنف السورية على الحدود مع العراق بتدريب فصائل إرهابية ودعمها لمهاجمة المواقع والقوات السورية في بادية الشام الجنوبية الشرقية. باختصار، ترامب يتعاطى مع سورية في إطار حملةٍ صهيو-أميركية متصاعدة ترمي إلى إبعاد الوجود الإيراني عن سورية بشتى الذرائع والوسائل.
روسيا، كما إيران، تدركان أبعاد التحركات التركية والأميركية و»الإسرائيلية» في غرب آسيا. تضعان في الحسبان الظروف الحساسة لدى بعض الدول والقيادات، ولا سيما بالنسبة لترامب في موسم الانتخابات النصفية الأميركية التي ستجري مطلعَ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. تحرصان تالياً على تفادي ممارسة ضغوط ميدانية شديدة لئلا تحمل الرئيس الأميركي على اتخاذ مواقف متطرفة لحفظ ماء الوجه والظهور بمظهر الرئيس القوي بغية التأثير في الانتخابات الماثلة والبالغة الحساسية في بلاده.
غير أنّ «مراعاة» ترامب تكتيكياً لا تتطلب من روسيا بالضرورة تعريض مصالحها وأمن قواتها في سورية للخطر. فالتنظيمات الإرهابية في إدلب المرتبطة بالولايات المتحدة تمويلاً وتسليحاً تقوم بمهاجمة القوات الروسية في قاعدة حميميم بالقرب من اللاذقية بالطائرات المسيّرة. كما تهدّد بفتح جبهة في غرب حماة وحلب في سياقٍ يؤدّي، وفق تقديرات موسكو ومخاوفها المتصاعدة إلى محاولة العودة إليهما. لذلك تتجه روسيا الى تبنّي موقف دمشق المتبصّر والرامي إلى تجزئة معركة إدلب بحصر الاشتباك، بادئ الأمر، بمناطق جسر الشغور وسهل الغاب وأعالي جبال اللاذقية المحاذية لجنوب محافظة إدلب حيث تستطيع روسيا تبرير مساندتها المنتظرة للجيش السوري المهاجم بأنه تدبير تقتضيه حماية أمن قاعدتيها القريبتين في حميميم وطرطوس.
اعتماد تكتيك التجزئة في مقاربة معركة إدلب لا يعني البتة انّ سورية، كما روسيا، بصدد التهاون في القضية الأساس وهي استعادة وحدة سورية وسيادتها على كامل ترابها الوطني بكلّ الوسائل المتاحة، عاجلاً او آجلاً.
في هذه الأثناء، تضاعف روسيا جهودها لحمل تركيا ودول أوروبا على التسليم بأنّ حلّ قضية اللاجئين حاليّاً، كما المدنيين المحتمل نزوحهم من محافظة إدلب جرّاء ضراوة القتال، يكمن في اتفاق جميع الأطراف المعنيين بهذه المشكلة على إنهاء وجود الفصائل الإرهابية في إدلب بقطع الدعم اللوجيستي عنها ومحاصرتها وضربها لضمان سيطرة كاملة للجيش السوري، واغتنام مناخ التوافقٍ بين أطراف مؤتمر أستانة من أجل تمكين السوريين «المهاجرين» الى إدلب وغير الراغبين في العودة الى مناطقهم الأصلية لدواعٍ أمنية من البقاء حيث هم ومساعدتهم اجتماعياً.
ظاهر الحال يؤشر الى ان لا تطوّر حاسماً سيجري في إدلب قبل انتهاء الانتخابات النصفية الأميركية مطلعَ تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
|