كم هو صعب ومحيّر فهم هذا الرجل. هل نقرأه من اقواله ام من افعاله؟ ايّاً ما كانت الطريقة فإن النتيجة تبقى من طراز: صدّق أو لا تصدّق!
إن ايّ محاولة لفهم دونالد ترامب هي تمرين في التخمين. لعل للرجل في باطنه مجموعة هواجس تتزاحم، وفي ظاهره شريحة تقلبات تتبدّى ثم تتبدّد. إنه شخص لغز لا يمكن توقع ما سيقول او يفعل في اي زمان ومكان. قبل ايام، في خلال مناسبة مخصصة لملف البنى التحتية في الولايات المتحدة، أطلق تصريحاً اخذ المسؤولين في بلاده كما في العالم على حين غرّة. قال: «سنغادر سورية قريباً ونترك للأطراف الأخرى أن تهتم بالأمر، وسوف نسيطر مئة في المئة على ارض الخلافة بشكل سريع ونعود الى ارضنا، إلى حيث ننتمي ونتمنى أن نكون».
ما الذي دفع ترامب الى التفوّه بهذا الكلام؟
تعدّدت الآراء والاجتهادات. بعضها مال الى ترجيح دافعٍ اقتصادي واشار الى عبارة لافتة وردت في تصريحه: «الولايات المتحدة انفقت 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط ولم تجنِ منها شيئاً».
الدافع الاقتصادي ممكن ومعقول. فقد سبق لترامب، كما لغيره من مرؤوسيه، أن شكا من ضخامة ما تتكبده الولايات المتحدة من نفقات على التزامات أمنية وإغاثية في الخارج، وأن واشنطن تعتزم خفض دعمها المالي لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، وانها طالبت دولاً عدّة في أوروبا بزيادة حصتها من نفقات حلف شمال الأطلسي. ثم أنها طلبت، واستوفت، خلال زيارة ترامب الاخيرة للسعودية، ما لا يقل عن 480 مليار دولار كأجور عن «خدماتها» الامنية للمملكة خلال ما يزيد عن عشرة عقود.
فئة أخرى من اصحاب الرأي رجّحت ان لتصريح ترامب دافعاً سياسياً وأمنياً ناشئاً عن اقتناع واشنطن بأنها خسرت معركة توظيف «داعش» و«النصرة» وغيرهما في مخطط تقسيم سورية، دولةً وشعباً، وانها اضحت في صدد الانتقال الى مقاربة اخرى يتطلبها مخطط مواجهة ايران، ولا سيما بعد الإلغاء المرجّح للاتفاق النووي في شهر ايار/مايو المقبل، وما يمكن أن يترتّب على واشنطن في ضوء ذلك من ضرورة لإعادة النظر بوجودها العسكري في سورية والعراق وربما في أفغانستان ايضاً.
اللافت ان وزارة الخارجية أُخذت فعلاً على حين غرة بتصريح ترامب حول مغادرة سورية. الناطقة باسمها كادت تُقسم لمندوبي وسائل الإعلام بأن مسؤولي الوزارة لا علم لهم بمضمون التصريح أو بتوقيته. قالت إنها تفضّل مراجعة البيت الابيض قبل تقديم أي تفسير مجزٍ للإعلام، لكنها لم تتوانَ عن القول إن لا وجود لخطة لدى الخارجية حول سحب القوات الاميركية من سورية. لاحقاً، ادلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بدلوه في مجلة «تايم» مطالباً أميركا بإبقاء قواتها في سورية.
اذا كان تصريح ترامب مفاجِئاً فإن عدم جدوى بقاء قوات عسكرية لأميركا في سورية لم يكن كذلك لمعظم أعضاء الكونغرس. فالسفير الاميركي السابق في سورية، روبرت فورد، سبق أن كشف خلال جلسة استماع امام إحدى لجان الكونغرس أن مجابهة ايران عبر الوجود العسكري والمدني الأميركي في سورية لن يكون مجدياّ، وأن الافراد العسكريين والمدنيين الاميركيين «سيكونون عرضة للاستهداف بعمليات غير مباشرة من قبل شبكات الاستخبارات السورية الناشطة هناك».
الى ذلك، فإن واشنطن مضطرة الى الأخذ في الحسبان، عند إعادة النظر بوجودها العسكري في سورية، مسائلَ عدّة عالقة وشائكة:
– علاقتها السياسية والعسكرية مع الكُرد السوريين الذين تعاونوا معها في مواجهة «داعش»، كما في مراعاة علاقتها الحساسة مع تركيا.
– تركيا التي تعتبر «قوات سورية الديمقراطية ـ قسد» التي وظّفتها واشنطن لحسابها في سورية تنظيماً كردياً إرهابياً ومجرد فرع لحزب العمال الكردستاني التركي المنخرطة معه في حرب متطاولة منذ سنوات.
– «إسرائيل» التي توظّف لمصلحتها ولأغراضها بعض التنظيمات الإرهابية الناشطة في جوار الجولان السوري المحتل، وتريد معرفة هوية القوات التي ستحل محلها اذا ما استوجبت التسوية السياسية المقبلة انسحابها من مناطق انتشارها.
– الترتيبات السياسية والأمنية التي ستعتمدها اميركا في سياق مخططها الرامي الى منع إيران من الانتشار عسكرياً في سورية، ولا سيما في جنوبها. ذلك ان هذا الأمر يهم «اسرائيل» مباشرةً والسعودية مداورةً.
– الترتيبات التي ترغب اميركا في اعتمادها لضمان مشاركة «اسرائيل» والسعودية، كما روسيا وايران وتركيا بطبيعة الحال، في المفاوضات الرامية الى ايجاد تسوية سياسية للحرب الدائرة في سورية وعليها.
فوق ذلك، لا يمكن فصل تصريحات ترامب وممارساته عن الحرب الباردة التي اندلعت مؤخراً بين دول الغرب الأطلسي من جهة وروسيا الاتحادية من جهة أخرى، واقترنت بطرد عشرات الدبلوماسيين بين اطراف الصراع. فهل يُعقل أن يبقى الصراع مضبوط الإيقاع ومحدود الأثر اذا ما تأكدت صحة الخبر الذي اوردته صحيفة أميركية عن ان ترامب قال لبوتين في آخر اتصال هاتفي بينهما: «إذا كنتَ تريد سباق تسلّحٍ، فليكن؟».
كم هو صعب ومقلق وخطير أن يتصارع الكبار -وأحدهم نَزِق ومتهوّر على حافة الهاوية.
|