انتظرتُ بقلقٍ وشوق، كما ملايين غيري، مقابلةً مرتقبة للسيد حسن نصرالله مع «قناة الميادين»، بعد طول صمت. مبعثُ القلق حملة تقوّلات وتكهنّات وإشاعات حول صحة سيد المقاومة شوّشت الأذهان. لكن، ما أن ظهر السيد على شاشات التلفزة بوجهٍ صبوح ونبرة قوية وكلام وازن موزون حتى تبدّدت الشكوك وعادت الثقة تملأ النفوس المتعطشة للحقيقة والأمل.
ما سرّ هذا الشوق الى استماع السيد؟
إنه الجوع المزمن للصدق ومعرفة الحقيقة، افتقدهما العرب مع غياب جمال عبد الناصر، وأحسوا بأنهم استعادوهما مع بزوغ حسن نصرالله. أليس لافتاً، بشهادة وسائل إعلام عدّة، ان الجمهور في كيان العدو الصهيوني يصدّق نصرالله اكثر مما يصدق زعماءه؟ وان أقنية تلفزيونية اسرائيلية عدة كانت تنقل المقابلة مباشرةً بعد دقائق من بدء بثّها في بيروت؟
في نحو ثلاث ساعات كشف سيد المقاومة للناس حقائق كثيرة، وبعث للحكام والمسؤولين برسائل رادعة، واستشرف أحداثاً وتطورات مرجّحة في عالم العرب والعالم الأكبر.
لعل اهم مفاصل ما كشفه نصرالله ويستوجب الانتباه والتعليق هي الآتية:
على صعيد الصراع مع «اسرائيل» سخر سيد المقاومة من ادعاء بنيامين نتنياهو ورئيس اركان حربه السابق الجنرال غادي ايزنكوت انه أمكن كشف وتعطيل كل الأنفاق على الحدود مع لبنان. قال نصرالله إن أحد الأنفاق قديم، عمره نحو 13 عاماً، وربما يكون هناك أنفاق أخرى كثيرة مثله. أكّد ان ثمة طرائق اخرى لاجتياح الجليل غير الأنفاق متوافرة على طول الحدود الممتدة بمسافةٍ تصل الى 100 كيلومتر.
الى ذلك اكد نصرالله ان غزة لن تموت جوعاً. مؤدّى ذلك ان انفجاراً في وجه «اسرائيل» ينتظرها هناك إذا ما تمادت في خطة الحصار والتجويع والتعطيش، وأوحى بأن المقاومة في لبنان لن تكون مكتوفة الأيدي في حال حصول الانفجار.
سخر سيد المقاومة من ادعاء نتنياهو بأن سلاحه الجوي يضرب في سورية لمنع قوافل الصواريخ من الوصول الى لبنان. ذكّر العدو بأنه سبق له ان أعلن في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر الماضي ان «انتهى الأمر، تمّ الأمر، اُنجز الأمر». معنى ذلك أن المقاومة أصبح لديها ما تحتاجه من الصواريخ الدقيقة، أو بات في مقدورها تصنيعها محلياً، وأن مداها يصل إلى أي موقع للعدو في فلسطين المحتلة، ولا سيما تل أبيب. العدو يدرك ذلك، وما يدّعيه نتنياهو من ذرائع ردعية يقوم بها في الساحة السورية هو من قبيل الترويج لشخصه في الانتخابات.
الأهم من ذلك، أن المقاومة تمتلك من الصواريخ الدقيقة عدداً كافياً للمواجهة في أي حرب مقبلة.
على صعيد الصراع في سورية وعليها، يجزم نصرالله بأن سورية انتصرت وأنها في سبيلها الى استكمال الانتصار في شرق الفرات وفي إدلب. ليس أدل على ذلك من تراجع رجب طيب أردوغان عن تهديداته الهجومية ودعوته الى تطبيق اتفاق أضنه سنة 1998. هذا الاتفاق ينص على تعاون البلدين لضبط أمن الحدود بينهما ما يستدعي عودة الجيش السوري الى الانتشار على طول حدود سورية الشمالية ليصبح تطبيق الاتفاق ممكناً.
الأهم من ذلك كله ولعله أهم ما ركّز عليه نصر الله في المقابلة ان الولايات المتحدة ستنسحب بالتأكيد من سورية، وأن دونالد ترامب صادق في ما يقوله بهذا الصدد. مردّ التأخير في الانسحاب ان واشنطن حاولت، عبر موسكو، إقناع دمشق وطهران بأن يكون انسحاب قواتها من سورية مقروناً بانسحاب قوات إيران. لا دمشق وافقت على هذه الصفقة الملغومة ولا طهران. لدى نصرالله اقتناع راسخ بأن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من مجمل الشرق الاوسط بدليل إعلان طالبان انها توصلت الى اتفاق معها على الانسحاب من أفغانستان في مهلة اقصاها 18 شهراً لقاء فك طالبان تعاونها مع سائر التنظيمات الإرهابية ولا سيما «القاعدة».
انسحاب أميركا الأكيد من مختلف أنحاء الشرق الاوسط هو التطور الابرز والأهم في نظر نصرالله، وان دول الخليج التي تدركه وتتحسّب لتداعياته السياسية والامنية هي الآن في صدد إعادة نظر واسعة بسياساتها وحتى بتحالفاتها الإقليمية.
أكثر من ذلك، أوحى نصرالله بل أشّر في المقابلة الى ان هزيمة أميركا في الشرق الاوسط هي الحدث الأهم والأبرز. هي الجائزة الكبرى التي استحقها محور المقاومة بمختلف أطرافه، وأنه سيكون للهزيمة المدوّية انعكاسات سلبية على «إسرائيل».
إلى ذلك كله، أرى ان المقابلة – الحدث قدّمت إلى شعوب المنطقة الرازحة في قاع اليأس والضياع جائزة أخرى أكبر وأثمن. إنّها جرعة وافرة من الأمل والرجاء، الأمل في القدرة على النهوض والفعل باعتماد خيار المقاومة ونهجها، والرجاء المستجاب بضرورة التغيّر والتغيير.
|