أزمة لبنان المزمنة تزداد احتداماً. فصولها المتعددة والمتراكمة ازدادت فصلاً. رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وجّه رسالة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري طالباً دعوة المجلس الى تفسير إحدى فقرات المادة 95 من الدستور المتعلقة بمراعاة مقتضيات الوفاق الوطني في وظائف الفئة الأولى. الرئيس بري استجاب دعوة الرئيس عون بتعيين جلسة للمجلس للنظر في الموضوع بتاريخ 2019/10/17.
رسالة الرئيس عون أثارت جدلاً حامياً حول حق مجلس النواب بتفسير الدستور والإجراءات الواجب اتباعها في هذا المجال. البعض قال إنّ تفسير الدستور، وفقاً لفتوى العلامة الدستوري الراحل ادمون رباط، تنطوي دائماً على تعديل له الأمر الذي يستوجب مراعاة الآلية التي وضعها الدستور نفسه لتعديله في المادة 76 باقتراحٍ من رئيس الجمهورية او في المادة 77 بناءً على طلب مجلس النواب وحدّد له نصابَين موصوفين متتاليين: الثلثان في مجلس النواب ومجلس الوزراء، ثم الثلاثة ارباع 4/3 في مجلس النواب. البعض الآخر شدّد على مرجعية مجلس النواب المطلقة في مسألة تفسير الدستور، وانّ التفسير المطلوب للمادة 95 لا يستوجب تعديل الدستور بل مجرد بيان رأي المجلس في معنى بعض فقرات المادة المُشار إليها، وهو رأي سياسي توجيهي بإمكان الحكومة اعتماده او تجاهله.
غير أنّ فريقاً ثالثاً أدلى برأي لافت: إنّ تفسير الدستور، وهو رأس الهرم القانوني في الدولة، له من الأهمية والخطورة بحيث لا يجوز الاكتفاء بأكثرية بسيطة لإقراره من النواب الحاضرين جلسة المجلس الأمر الذي يستوجب، في رأي هذا الفريق، ان تكون جميع المسائل المتعلقة بتعديل الدستور وتفسيره من صلاحية محكمة عليا يكون منصوصاً عليها في الدستور نفسه.
لئن كنتُ من قدامى أنصار هذا الرأي ومن القائلين بأن يكون من حق المواطنين جميعاً كما النائب العام لدى المحكمة العليا الطعن في دستورية القوانين، إلاّ أنني لا أرى موجباً ولا جدوى في الوقت الحاضر من المطالبة بتفسير المادة 95 من الدستور او غيرها. لماذا؟
لأنّ جميع العهود والحكومات منذ إقرار الدستور سنة 1926 وإعلان الاستقلال سنة 1943، وتعديل الدستور سنة 1990 لتضمينه الإصلاحات الأساسية في اتفاق الوفاق الوطني الطائف امتنعوا او تهاونوا في تطبيق أحكام الدستور، لا سيما المواد الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات والتمثيل الشعبي الصحيح.
ثمة أمثلة صارخة في هذا المجال:
ـ المادة 7 من الدستور تنصّ على انّ «كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون». كيف يتساوى اللبنانيون لدى القانون عندما تنصّ قوانين الإنتخاب المتعاقبة المخالفة للدستور على أنّ من حق الناخبين في إحدى الدوائر الإنتخابية صيدا انتخاب نائبين، وفي جبيل ثلاثة، وفي الشوف ثمانية، وفي البقاع الشمالي بعلبك الهرمل عشرة؟!
ـ المادة 27 من الدستور تنصّ على انّ «عضو مجلس النواب يمثّل الأمة جمعاء». كيف يمثّل النائب الأمة جمعاء عندما تنصّ قوانين الانتخاب على ان يجري انتخابه في دائرة صغيرة تتضمّن قسماً محدوداً من الشعب؟!
ـ المادة 22 من الدستور تنصّ على أنه «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية الطوائف وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية». هذه المادة جرى تعديلها بغية النصّ على مجلسين، واحد للنواب لاطائفي وآخر للشيوخ طائفي، منذ سنة 1990 ومع ذلك امتنعت العهود والحكومات المتعاقبة عن تنفيذ نصّ هذه المادة الأساسية التي أُقرّت منذ نحو ثلاثين سنة!
إذا كانت العهود والحكومات المتعاقبة لا تنفذ أحكام الدستور، فلماذا ينبري اليوم بعض المسؤولين والسياسيين للمطالبة بتفسير بعض أحكامه؟
الجواب: يفعلون ذلك لاعتبارات سياسية مصلحية يظنّون أنها تساعدهم في حمأة الصراع والمناكفة مع خصومهم، وقد تحمل هؤلاء على الرضوخ لمتطلبات اتفاق جديد للمحصاصة السياسية توفّر لأطرافه مصالح ومغانم جديدة وتتيح لهم تجميد الأزمة وتأجيل إنفجارها الى أجل غير محدّد.
المطلوب، منطقياً وشعبياً، ليس تفسير الدستور بل تنفيذ أحكامه. وهذا لن يتحقق إلاّ بإقرار قانون للانتخاب ديمقراطي يؤمّن صحة التمثيل وعدالته، على أن يجري إقراره في استفتاء عام بفعلِ ضغطٍ شعبي عارم يُلزم الشبكة السياسية المتحكمة بالرضوخ الى مطلب الشعب الأساسي المتمثل ليس بإسقاط النظام بقدر ما هو متمثل بتنفيذ أحكام الدستور…
|