انهارت «دولة الخلافة»، بل «دولة الخرافة» كما يسمّيها مناهضو «داعش» الكثر في العراق وعالم العرب. لكن «داعش» كتنظيم لم ينهَرْ… بعد. إنه ما زال ناشطاً في تلعفر وصحراءي نينوى والأنبار وقضاء الحويجة، جنوب غرب كركوك، والشريط العمراني الممتدّ بين حديثة والقائم على الحدود العراقية السورية.
انهارت دولة «داعش» التي كانت احتلت نحو ثلث مساحة العراق قبل أن تتهاوى وتتحوّل مجموعات مسلحة وذئاباً منفردة منتشرة في بعض المناطق والبلدات والأحياء، تقاتل يائسة عمّا تبقّى لها من أراضٍ وأتباع، فكيف تراها تتدبّر أمورها في زمن الانحسار والاندحار؟
لن يتخلى «داعش» عن عقيدته القتالية. إنها «إدارة التوحّش» بلا رحمة ضدّ كلّ أعدائه ومَن لا يواليه. مراقبون متابعون لتجربته القاسية في العراق يرجّحون أن تنقل قيادة التنظيم «عاصمته» الى الحويجة، مستغلةً الصراع المحتدم بين الحكومة المركزية في بغداد وسلطة البرزاني في كردستان العراق على محافظة كركوك التي وضع البرزانيون يدهم عليها في حمأة مواجهة «داعش». مقاتلةُ الدواعش في ما تبقّى لهم من حضور لن تتطلب وقتاً طويلاً إلاّ اذا انفجر صراع من نوع آخر بين ثلاثة أطراف لها حضورها في العراق: أميركا وتركيا وإيران.
أميركا لها حضور عسكري يعود الى زمن احتلالها العراق العام 2003. صحيح أنه تقلّص كثيراً منذ العام 2008، لكنه ما زال ناشطاً من خلال ما يزيد عن 5000 ضابط وجندي مزوّدين بأسلحة ثقيلة ومتطورة.
نفوذ أميركا السياسي قوي كحضورها العسكري إنْ لم يكن أقوى. مردُّ ذلك الى تأثيرها على فريق من السياسيين المتنفذين كانوا عادوا الى العراق على ظهور دباباتها الزاحفة لاحتلاله. الى ذلك، تستغلّ واشنطن الصراع المحتدم بين حكومتي بغداد واربيل، كما مواجهة «داعش» من خلال ما يُسمّى «التحالف الدولي». في هذه المجالات، قامت بتدريب وتسليح مجموعات من عشائر محافظة الأنبار السنيّة بدعوى تمكينها من حماية نفسها من تنظيمات موسومة بأنها شيعية البنية وإيرانية التوجّه.
تركيا لها حضور سياسي وعسكري في العراق. حضورها السياسي يتعزّز بتأييد جمهور التركمان عموماً، ولا سيما في تلعفر وكركوك. حضورها العسكري يتجلّى في احتلالها منطقة بعشيقة المحاذية لحدودها مع العراق. ولتركيا مطامع قديمة في مدينة الموصل التي تدّعي أنّ بريطانيا وفرنسا سلختاها عنها في أعقاب انهيار السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وقيامهما بتقاسم بلاد الشام وبلاد الرافدين بموجب ما عُرف باتفاقية سايكس بيكو. الى ذلك، تقوم تركيا بتعزيز حضورها العسكري في شمال سورية لإحباط محاولات بعض الكرد السوريين، بدعمٍ ملحوظ من أميركا، إقامة دويلة كردية، أو أقلّه، منطقة حكم ذاتي.
إيران لها أيضاً حضور سياسي وعسكري في العراق. حضورها السياسي يتعزّز بتعاطف فريق من أهل الشيعة معها نتيجةَ دعمها معارضي الرئيس الراحل صدام حسين قبل الاحتلال الأميركي وبعده. حضورها العسكري تمثّل، بادئ الأمر، بدعمها تنظيمات شعبية، طابعها الغالب شيعي، معادية لـِ «داعش» كما لأميركا. غير أنّ تطورات الحرب في سورية وعليها، ولا سيما بعد سيطرة «داعش» على مساحات شاسعة من محافظاتها الشرقية المحاذية للحدود العراقية السورية، وتفاقم مناهضة أميركا لسورية ولرئيسها بشار الأسد وتعاونها مداورةً مع «داعش» ضدّ الجيش السوري، حمل إيران على تكثيف حضورها العسكري في العراق، وصولاً إلى تحريك وحدات من الحرس الثوري الإيراني ومقاتلين في صفوف «فيلق القدس» بقيادة اللواء قاسم سليماني ودفعها نحو الحدود العراقية – السورية. في هذا السياق، لا تُخفي طهران أهدافها: إبعاد قوات أميركا وحلفائها عن الحدود بين البلدين لضمان إقامة جسر بري يمتدّ من إيران عبر العراق وصولاً إلى سورية ولبنان، وتوفير دعم لوجيستي للجيش السوري وحلفائه تكفل التغلّب على فلول «داعش» و«النصرة» واستعادة وحدة البلاد وسيادتها. أكثر من ذلك، ترمي إيران وسائر أطراف محور المقاومة إلى بناء وجود عسكري شرق الجولان السوري المحتلّ ليكون منطلقاً لمقاومة تتكامل مع المقاومة المتربّصة بـ «إسرائيل» في شمال غرب فلسطين المحتلة.
أميركا و«إسرائيل» والسعودية، كما روسيا وتركيا، تُدرك مفاعيل الصراع المحتدم في سورية والعراق وانعكاساته الإقليمية والدولية، ما يفرض على جميع اللاعبين التعامل مع التطورات الجارية والمتفاقمة في منظور الصراع الشامل والمتعدّد الأطراف والأغراض والمصالح في البرزخ الممتدّ من الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وصولاً الى الشواطئ الجنوبية لبحر قزوين.
في العراق، تقوم أميركا بتعزيز الأطراف السنّية المتخوّفة من إيران بغية توليف طبقة حاكمة تحول دون التحاق البلاد بمحور المقاومة، وتحول تالياً دون قيام العراق، بالتعاون مع إيران وروسيا، باستثمار ثروته الغازية في صحراء الأنبار التي تقدّر بما لا يقلّ عن 57 مليار متر مكعّب.
في سورية، تتقصّد أميركا و«إسرائيل» إطالة أمد الحرب بتسعير القتال في منطقة القنيطرة وفي منطقة درعا، وبتوظيف فريق من الكرد السوريين في مقاتلة «داعش» في محافظة الرقة بأمل أن يتمكّن هؤلاء، بالتعاون مع مجموعات سورية محلية درّبتها أميركا وسلّحتها لتقوم بإدارة هذه المناطق بعد طرد «داعش» منها، ودعمها مع مجموعات مماثلة في محافظة إدلب وأطراف غوطة دمشق الشرقية للحصول على تمثيل وازن في محادثات جنيف المقبلة بشأن مستقبل سورية السياسي.
دعمت واشنطن مواقفها وترتيباتها آنفة الذكر بعمليات عسكرية لافتة:
ـ أقامت موقعاً عسكرياً في منطقة التنف بجنوب شرق سورية وقصفت وحدات نظامية سورية في جوارها.
ـ أسقطت طائرة حربية سورية جنوب الرقة.
ـ قصفت مطار الشعيرات بالصواريخ بدعوى الاقتصاص من سورية، بعد اتهامها باستعمال أسلحة كيميائية في منطقة خان شيخون.
ـ بعد تهاوي اتهام سورية باستعمال أسلحة كيميائية عقب تحقيقٍ موضوعي نشره الصحافي الأميركي المعروف سيمور هيرش، هدّد البيت الأبيض سورية مجدّداً بضربها بدعوى أنها تستعدّ لاستعمال الأسلحة الكيميائية مرة أخرى.
ـ عرضت عضلاتها البحرية بإرسال حاملة الطائرات «جورج بوش» إلى ميناء حيفا.
التهديدات الأميركية وتّرت الأجواء ليس بين واشنطن ودمشق فحسب، بل بينها وبين موسكو أيضاً التي سارعت الى إعلان دعمها لسورية بإرسال رئيس أركان جيشها الى قاعدة حميميم ليكون في استقبال الرئيس الأسد أثناء تفقده عشرات المقاتلات الروسية الرابضة فيه، ونشرت كتيبة مغاوير روسية في الطرف الشرقي لمحافظة السويداء المحاذي للحدود مع الأردن، أيّ في منطقة غير بعيدة عن موقع التنف حيث تحتشد قوات أميركية وحليفة معدّة لمحاولة التدخل ضدّ الجيش السوري.
برودة أعصاب المسؤولين السوريين ومسارعة المسؤولين الروس والمسؤولين الإيرانيين إلى تأكيد دعمهم السياسي والعسكري لسورية، حملتا واشنطن على تنفيس حملتها المفتعلة بادّعاء وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بأنّ سورية «تراجعت» عن استعمال أسلحة كيميائية!
ماذا بعد؟
ستستمرّ واشنطن في ممارسة مناورات سياسية وألعاب نارية للتهويل على سورية من أجل عرقلة استعادة جيشها أراضي سورية ما زالت تحت سيطرة «داعش» و«النصرة».
ومع ذلك يمكن إعطاء تقدير موقف أوّلي لما جرى ويجري في العراق وسورية من اشتباكات سياسية وعسكرية بين مختلف أطراف الصراع في آخر حزيران/ يونيو المنصرم: صمود وتقدّم محسوس سياسي وعسكري لمحور المقاومة، وارتباك وتعثر ملحوظان للولايات المتحدة وحلفائها.
… والصراع مستمرّ.
|