لم يخطر لي يوماً مجرد الظنّ بأنّ خلافاً حقيقياً محتمل الوقوع بين تركيا وقيادة الحلف الأطلسي المعقود لواؤها للإدارة الأميركية، وربما سخرت في كثير من المقالات المنشورة من مثل هذه الفرضية يتبناها أو يبني عليها قادة أو ساسة عرب أو مشرقيون، لكن الغرب يعرف استحالتها بشكل أكيد لما للموقع التركي من أهمية في خطط وسياسات الحلف.
بالأمس كان برنامج الكلمة الحرة على الميادين حول الموضوع التركي، سياسة وسلوكاً وعلاقات، وكان معدّ البرنامج النائب البريطاني جورج غالاوي أقرب إلى تفكيري وموقفه لا يحتمل التأويل لكنه ترك الاجتهاد للحضور، وكان بينهم إعلامي من أصل يوناني ماركوس بابادوبوليس وهو رئيس تحرير مجلة معروفة، قال: من يصدّق أنّ أميركا وتركيا مختلفتان أو أنّ خلافهما الشكلي يصل حدود الصدام هو إما غبي لا يعرف معنى العلاقات الاستراتيجية أو أنه يحلم، أميركا تدعم من تعتبرهم تركيا أعداءها استثماراً لهؤلاء الأدوات، وربما لدفع التركي إلى ورطة يحتاج بعدها الالتفات ثانية للاستنجاد بالناتو والحليف الأميركي أيّ العودة إلى بيت الطاعة.
نظرية المؤامرة تشكل قاعدة تفكيري وتحليلاتي، ومن هنا اليقين بأنّ كلّ ما يجري على ساحة المنطقة والصراعات المتناقضة بحيث هنا مع، وهناك ضدّ إنما هي لعبة كبرى الغاية منها دفع قيادات المنطقة المستهدفة إلى إضاعة بوصلتها، وعدم التركيز على سلوك متّزن أو مخطط موضوع مسبقاً، وهذه عملية خلط للأوراق لم يخطئ الروسي ولا السوري في تفسيرها، بل محاولة استثمارها بما يحقق الهدف النهائي لكليهما.
ورد في الفقرة الخامسة من البيان الكردي المؤرّخ في 24/1/2018: استغراب الكرد وعدم فهمهم انسحاب المراقبين الروس من محيط عفرين؟ مع أنّ الأمر عادي جاء متناسباً مع نتيجة حصاد الفشل في إقناع الوحدات الكردية بدخول الجيش السوري وإشرافه على الأمن لمنع الدخول التركي بمبرّراته الحالية، وبما أنّ الروسي يعلم حساسية الإدارة الأميركية من التقارب التركي مع كلّ من روسيا وإيران، وطموح الإدارة الأميركية لاستعادة تركيا صاغرة فقد انسحب تاركاً تركيا تتورّط وكأنه يعطي لها الضوء الأخضر مع ضمانة عدم التعرّض لطيرانها، وبديهي أنّ العملية التركية ستلحق الأذى بشريحة من السكان السوريين مع الكثير من البنية التحتية التي أقامتها الدولة السورية، بالمقابل لم يكن بدّ من ذلك ليتعلّم الكرد أنّ خروجهم من تحت الجناح السوري الوطني الذي لم يخذلهم في الأوقات العصيبة له ثمن كبير ولن يتوضح لهم ذلك إلا بعد تخلي الأميركي عنهم وانتهاء عملية توظيفهم في تحقيق مصلحة واستعادة ترابط الحلف مع جناحه التركي الأكثر أهمية بمواجهة من يعتبره المنافس الأكبر روسيا.
لن أدّعي أبداً أنّ الادارة الأميركية في حالة من الرضى على القيادة التركية الحالية، أيّ مع أردوغان وحزبه، لهذا فإنّ هذه الإدارة ستفعل الكثير باتجاه دفعه إلى موقف مذلّ، الحاجة إلى الدعم الأميركي دعم الناتو وهو موقف لا يمكن استجداؤه ولا طلبه من الروسي الذي لن يقدّم للتركي عوناً في حربه على الكردي مع أنّ الكردي القيادات الحالية بما فيها الراديكالية والماركسية والشيوعية تعمل في خدمة الأميركي وبتنسيق معه – كما أفاد أكثر من مختص في هذا الشأن – ودون تفكير أو حتى حصول الثقة الكافية من جهة الطرف الأميركي، هذا انقياد دافعه التقاء في مرحلة تكتيكية هي رغبة الكرد في دولة مستقلة أو حكم ذاتي فيدرالي بطريقة فرضه كخيار على الدولة السورية بعيداً عن الحوار والتباحث العقلاني… وهذا التلاقي سهّل للجانب الأميركي تمرير مخططه واستثمار القوة الكردية لحماية وجوده في الشمال حماية لجنوده بمجرد التلويح بوعد، لكن الأمر لن يستمرّ في حال اكتشاف القيادات المحلية، الكردية ومن معها حالياً من عشائر متنوّعة بأنّ الأميركي ملتزم بموقف استراتيجي داعم لحليفه التركي شرط استعادة هذا الحليف لسلوكه والابتعاد عن الروسي والإيراني والحلف الداعم للموقف السوري.
يدرك الأوروبيون خطأ موقفهم، وربما يعيبون صمتهم على السلوك التركي المدعوم أميركياً في بدايات الحرب على سورية من حيث فتح الحدود وتمرير المقاتلين والسلاح وكلّ ما يلزم، من تسهيلات، كما يدرك هؤلاء أنّ تركيا شاركت داعش والنصرة في نهب النفط وثروات أخرى من كلا البلدين، العراق والشام، لكن حكومات هذه الدول التزمت الصمت جراء الابتزاز التركي في موضوع اللاجئين، وهؤلاء بدورهم تعرّضوا لخديعة دولية كبرى فقد تولّت منظمات سرية التشجيع على الهجرة إلى تركيا وأنّ أبواب اوروبا ستكون مفتوحة أمامهم، وأغلب الذي وصلوا أوروبا لم يكونوا من المهدّدة حياتهم بل من الباحثين عن فرصة من قبل للهجرة، الذين كانوا تحت الخطر نزحوا إلى المناطق الآمنة في الداخل، وبعضهم إلى البادية ومنها إلى الأردن… وسيعودون بمجرّد انتهاء سيطرة داعش والنصرة على جزء من المنطقة الجنوبية بدعم من الكيان الصهيوني، أما النازحون باتجاه لبنان فقد كان أغلبهم يطمح بالهجرة إلى الغرب، كندا، أستراليا، بعضهم نجحوا وبعضهم ما زالوا في لبنان وهم من غير المحتاجين، أما من تمّ تسجيلهم على قوائم اللجوء فأغلبهم من عمال سابقين كانوا في لبنان، استقدموا عائلاتهم وأقاربهم، وتمّت المتاجرة بهم من قبل بعض الأطراف وما زالوا.
العملية التركية في الشمال ليست بريئة، ولن تكون مقتصرة على محاربة الوحدات العسكرية الكردية التي لن تكون عثرة بوجه الجيش السوري بعد القضاء على تنظيم النصرة الذي تدعمه تركيا، عند ذلك لن يحارب هذا الجيش سوى الوجود التركي ومعه الأميركي، ويلزم لذلك حصول الوعي الوطني في تلك المناطق ومعرفة أنهم مجرد أدوات يستثمرها الأميركي مرة، وغيره مرات وسيتذكر هؤلاء أنّ جمهورية مهاباد ما زالت ماثلة يحاولون تناسي مأساتها.
لا يمكن افتراض سوء نية كلّ القيادات الكردية، فالبعض منها يمتلك ما يكفي من الوعي وهؤلاء يستطيعون استشراف المستقبل وأنّ الوصول إلى المشاركة في الحكم أمر واقع، والإدارة الذاتية الحالية أحد وجوهه القابلة للتطوير مع الحفاظ على كينونة الدولة غير القابلة للتجزئة وغير القابلة لعلاقات مستحيلة مع العدو على نمط علاقات آل برزاني بالصهاينة ومحاولتهم تجزئة العراق خدمة لهذا العدو.
الصمت الروسي، والحراك الإيراني الخجول غير كافيين لردع التركي أو إيقافه، ويبقى أنّ الدعم السوري السري وبكلّ الطرق للوحدات الكردية بالمقاتلين بمختلف الطرق وإمدادهم بالأسلحة المضادة للدروع والجوّ بما يكفل صمودهم وحده السبيل لإفشال مخطط أردوغان وحكومته وحماية مصير الشمال من مصير مماثل للواء السليب، وما يذكرنا ويعود بنا إلى التاريخ سلسلة التصريحات التي تزعم أن لا أطماع للتركي بالأرض السورية.
أمس تسلل التركي إلى مواقع شرق الطريق الدولية حماة حلب، إلى تلة العيس شرق منطقة الايكاردا هي في المجال الحيوي لمطار أبو الضهور ! لماذا؟ لحماية وحدات النصرة بالتأكيد وقيادتها بمواجهة الجيش السوري، الصدام وشيك… فالجيش السوري لا بدّ أن يسيطر على الطريق الدولي وكلّ نقطة يرى حاجة للسيطرة عليها ولا حصانة لغريب.
|