مع نهاية الحرب الكونية الثانية سجلت الولايات المتحدة سقوطا مريعا من عالم الانسانية والأخلاق بعد ضرب مدينتين يابانيتين بالقنابل الذرية ما أدى لمصرع مئات آلاف الضحايا كما أدى تأثير القنبلتين على المدى البعيد لولادة جيل مشوه في أغلب المناطق القريبة من هيروشيما وناغازاكي اضافة للكارثة البيئية التي أصابت اليابان بشكل عام في محيط كلتا المدينتين .
المؤكد أن الشعور بهول الجريمة عم العالم كله ، ومن هذا العالم الشعب الأمريكي ، وهذا ما دفع لاحقا - كما قيل - بالطيارين الذين ألقوا القنبلتين إلى الانتحار ، ولا شك ، أيضا بأن الشعور بالذنب شمل قطاعات كثيرة من السياسيين والعسكريين وضمن حدود متفاوتة ، لكن مصالح الولايات المتحدة شكلت الغطاء لتبرير الجريمة وبعدها فرضت أمريكا وجودها في جزيرة أوكيناوا وأجواء وبحار اليابان والكثير من مناطق جنوب شرق آسيا ودول أوروبا ، قبل عقدين حصل الانتشار في باقي دول العالم لتشمل القواعد الكثير من الدول العربية والاوروبية الشرقية في أحدث توسع بعد انفراط عقد حلف وارسو ، وتحيط هذه القواعد بالدولة الروسية ومن مهامها الأساسية حماية المصالح الأمريكية والتلويح بضرب من تعتبره الإدارات الأمريكية المتعاقبة مصدر تهديد لمصالحها في أية منطقة على مساحة الكرة الأرضية ، وجعلت من المشروع الصهيوني واحدا من أهم هذه المصالح .
بدا أن القوة العسكرية الأمريكية ترسخت عبر العالم ، وفرضت وجودها تحت مقولة حماية العالم الليبرالي " الحر " من العدو الأول " الماركسية الشيوعية " والعدو الحديث " التنظيمات الاسلامية الأصولية " والحقيقة أن استمرار الانتشار الأمريكي لا يمكنه العيش دون وجود عدو ، ومن السهولة بمكان على مراكز الدراسات والتخطيط ايجاد عدو واستثماره عبر ادارته والتحكم بسلوكه في المكان المستهدف ، هي من أوجدت القاعدة ومتفرعاتها ، ومن جديد أوجدت عدوا لعالم العرب والأعراب " ايران " وأقنعت الجميع بخطورة التطور العلمي والعسكري لهذه الدولة على مستقبلهم ووجودهم رغم اعلان القيادة الايرانية عن توجهاتها وأهدافها بكل صراحة ووضوح .
نجحت الولايات المتحدة في فرض الحصار على عديد من دول العالم ، ليس لوحدها وإنما بمشاركة الحلفاء رغم تضرر مصالحهم ، ورغم انخفاض المؤشر الاقتصادي الأمريكي ولجوء الادارة إلى فرض مشاركة الدول الحليفة لزيادة مساهماتها في عمليات الولايات المتحدة العسكرية عبر العالم ، والأهم فرض بدل حماية على العديد من الأنظمة العربية ومنها أجور تحرير الكويت ، وحماية الخليج من العدو الايراني ، والتلويح بالبعبع الاسلاموي ، إلا أن ذلك لا يمنع من التساؤل حول استمرار هذه القدرة مستقبلا بعد ظهور بوادر تمرد في صفوف قادة من حلف الناتو التي بدأت تبحث عن مصالح بلدانها في حال التقيد بالقرارات الأمريكية التي تفرض مقاطعة النظام الايراني ومحاصرته اقتصاديا وسياسيا لا لأنه يهدد الخليج فعلا ، ولا لأنه سيحصل على قنبلته النووية بل لأنه يهدد المشروع الصهيوني بشكل جدي رغم تشكيك البعض بجدية هذا التهديد وربما اتهام ايران بمحاولة التوسع والدعوة إلى " تشييع " قطاعات من شعوب المنطقة وهي عملية دعائية وهمية فالأنظمة الأعرابية الخليجية تعمل من تحت الطاولة على حماية المشروع الصهيوني واستمرارية وجوده ، بل والتعاقد معه سرا على تهويد الأراضي المحتلة وانجاز صفقة غير مسبوقة في تعديل حدود المنطقة وعمليات تبادل سكاني ... الخ ، على طريق إنهاء القضية الفلسطينية .
السلوك الايراني وتدخله عن طريق دعم الفصائل الفلسطينية المسلحة ، ودعم الدول المحيطة التي تتبنى ثقافة المقاومة ، ودفاعه عن شرائح في المجتمعات الأعرابية في كل من السعودية والبحرين ، واتهامه بالتدخل في الصراع الداخلي اليمني ، يشكل جرائم موصوفه بنظر الادارة الأمريكية ، بل بنظر قادة المشروع الاستيطاني الصهيوني والذي بدأت أصوات عديدة في قيادات الأعراب تقول بشرعية وجوده ، الشرعية التي يطعن فيها علماء وقادة يهود وغربيين ومنهم علماء في التاريخ والآثار وهم أعلنوا نتائج أبحاثهم .. لا أساس بالمطلق لما يدعيه قادة الصهاينة ومن يدعمهم في عالم الغرب ، بل تشير دراسات عديدة ، نشر أغلبها إلى اقتراب نهاية المشروع مترافقة بانهيار العملة الورقية الكاذبة ولا رصيد لها " الدولار " ومعه ينفرط عقد الولايات المتحدة وتعلن أغلب الولايات استقلالها وخروجها من نفوذ الصهيونية العالمية عدا ولاية نيويورك التي تعتبر ركيزة يهودية ومركز الثقل اليهودي في أمريكا .
التلويح الاوروبي بالخروج على القيادة الأمريكية والامتناع عن تطبيق العقوبات واستمرار التعامل مع الدولة الايرانية ، والاستثمار في مشاريعها ، يعتبر جرس الانذار الواجب الانتباه له ، ويمكن النظر اليه على أنه اللبنة الأولى التي تنسحب من أساس جدار كبير يمكن أن يتداعى بعدها ، ليس ذلك فحسب بل لأن العقوبات الأمريكية ليست صادرة عن مجلس الأمن وضمن شبه اجماع ، الأهم أن الدول الكبرى الصين وروسيا ومعهما بعض دول أمريكا الجنوبية ، وربما بعض دول اوروبا الغربية " فرنسا وألمانيا " سبق وأعلنت أن العقوبات غير شرعية ولن تلتزم بها ، فما الذي يمكن للادارة الأمريكية أن تفعله إزاء إجماع شبه دولي وما سيكون تأثير العقوبات الأمريكية حيث لا تشكل صادرات الولايات المتحدة أية أهمية بالنسبة للنظام الايراني وحتى السوري ، طالما تتوفر البدائل على تنوعها ، اوروبية وروسية وصينية .
القواعد العسكرية الأمريكية وانتشارها الواسع وحجمها يدفع بالإدارة الأمريكية إلى الشعور بالغطرسة والفوقية ، وهو شعور خادع يقود الادارة إلى متاهة قاتلة بين هذا الشعور وممارسة الأخلاق والإنسانية التي تحملها راية وتمارس عكسها تماما ، للمثال : اعتقال عميل أمريكي في مصر حالة خرق لحقوق الانسان من الحجم الكبير ، في الوقت الذي يتم اعتقال الآلاف ومنهم أحداث ونساء في فلسطين حالة دفاع عن النفس ، أكثر من ذلك ما يحصل في البحرين أمر لا تسمع به ولا تراه الرقابة على حقوق الانسان الأمريكية في دهاليز الخارجية أو المنظمات الأهلية ، ولا المجازر في اليمن ، ولا ما فعلته القاذفات الامريكية في مدينة الرقة وآلاف الضحايا المدنيين عدا عن تدمير البنية التحتية بمليارات الدولارات ، من أبنية وجسور ومحطات كهرباء ومياه اضافة الى المطارات ، الانسانية في الفهم الأمريكي هي كل سلوك يخدم المصالح الأمريكية والصهيونية بضمنها ، وغير الانسانية هي المواقف التي لا توافق هذا المفهوم ، بالأحرى المواقف التي تأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب والدول الصغيرة هي خرق لحقوق " الإنسان " بالأحرى خروج على المصالح الأمريكية وشق عصا الطاعة على السيد الذي اعتاد على سماع كلمة ... سمعا وطاعة .
أن تنجح الادارة الأمريكية الحالية بقيادة سمسار المال والعقارات في فرض رأيها وسلوكها على دول العالم أمر في غاية الغرابة ، بل يشكل موقفا في غاية الاذلال ، وانسياقا أعمى للموقف الأمريكي الذي لا يمكنه أن يكون إنسانيا أو أخلاقيا ، لأن دولة قامت على القتل والاستيطان وارتكاب جرائم الابادة الجماعية لا يمكنها أن تكون أو تنسجم مع عالم الأخلاق والإنسانية ، والمأثور الثابت أن الطبع يغلب التطبع .
|