إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

نحن الخالقون

أدونيس

نسخة للطباعة 2012-05-31

إقرأ ايضاً


لن ادخل هنا، في نطاق الفلسفة، فأناقش نظرة السوريين الى الوجود، وكيف تطورت هذه النظرة في سورية تطوراً لم يتناول الاساس، بل الشكل، فمسّه مسّاً رفيقاً. ثمّ كيف نقل العالم هذه النظرة، على اختلاف الامم في فهمها ونقلها. اقول، لن اتطرق الى مثل هذا البحث، بل سأتركه لمن يعنون في الدراسات الفلسفية، مكتفياً بأن اضع امام القارىء نصوصاً تبيّن ذلك بوضوح.

الاساس الذي بنى السوريون عليه فكرهم هو هذا: الوجود حركة، والحركة بناء. وحركيّة الوجود، ليست في ما وراءه، بل هي فيه، ومظاهر الوجود على تنوّعها، وحدةٌ لا تتجزأ. وما يسمّى اليوم "حيّاً" و"جماداً" هو كل –مادة تتفجر منها الحياة او هو حيوية. المجتمع، الارض، هما قطبا الوجود، فهما الوجود.

لم يعرف الفكر السوري عالماً وراء هذا العالم المعاين. ذلك لانّه كان فكر انسان مجّد الارض، فمجّد نفسه، فأخضع لمجده كل شيء.

ولم تدخل الرهبة، قلب الانسان عندنا، ولذلك لم يعرف كيف يتصوّر الغيب. ولم يؤمن الانسان عندنا الاّ بنفسه، وبالتراب الذي يحيا فوقه، ولذلك لم يعرف كيف يؤمن بغيرهما.

"الغيب"، "ما وراء الوجود"، "العالم الآخر".. هذه كلمات ابى الفكر عندنا ان يمرّ عليها، لأنّه ابى ان يهرب من الوجود، وانف ان يخلقها، لانّه انف ان يفنى.

ولم يعرف الفكر السوري كيف يتجزّأ الوجود. كيف ينشطر الى شطرين، تارةً يلتصقان، وتارةً يتباعدان، وطوراً يكون احدهما كلّ شيء، ويتلاشى الآخر فيصبح لا شيء.. وطوراً تنعكس الآية.

الفكر السوري لم يفهم الوجود جسداً ينتظر الروح تحلّ فيه، فيتحرك. ولم يفهمه روحاً تنتظر جسداً يحضنهاً، فيحيا.

الفكر السوري فهم الوجود وحده، فهمه حياة، فهمه حركة، فهمه قوة متحركة بذاتها، لا آلة تنتظر من يحركها.

والادب عندنا لون من الوان هذا الفكر، فهو لم يعرف تلك الحدود المصطنعة بين "الجماد" والحيّ".

ولم يعرف الفوارق التي تفصل بين عناصر الوجود. ولا كيف تصبح الحركة اجزاء، فتبطل ان تكون هي، او يصبح الوجود قطعاً، فينخلع من ذاته.

لكل ذلك، لم يكن في الادب عندنا معنى ومبنى، شكل وروح، بل كان عمل فنّي، كان كلّ كامل.

الادب عندنا، لم يفصل بين الزهرة ورائحتها، او بين الينبوع ومجراه، او بين الشمس واشعتها.

والفنان ايّ فنان عاجز ان يقول عندي فكرة جميلة، بدون ان يعبّر عنها، بدون ان تقولها الكلمة او الريشة او اي شيء آخر.

كأن الفنان عندنا، نغمة جميلة من موسيقى الوجود، او لفتة بارعة في حركته الدائمة. والفنان ليس الاّ ذلك.

لقد بدأ الانسان يفقد وجوده، منذ بدأ يتخيّل ان هناك من هو اعظم منه. لقد بطل الانسان ان يكون هو، منذ حوّل عينيه عن الارض.

فلم تعد الحياة في نظره حقيقة، بل اصبحت خرافة.

ولم يعد الوجود حقّاً، بل اصبح باطلاً، ولم يعد الكون حركة، بل اصبح آلة.

لا اعرف كيف يرى الانسان يجري، ثم يقول ان وراء الماء قوة، هي التي تجعله يجري.

ولا اعرف كيف يرى الانسان الشمس تشرق وتسكب اشعتها في كل صوب، ثم يقول ان وراء ذلك قوة هي التي تقول للشمس ان تشرق، وهي التي تأمرها كي تسكب اشعتها.

ولا اعرف كيف ان الزهر يتفتّح، ومظاهر الطبيعة كلّها تتبدّل وتتغيّر وتموت وتتجددّ، ثم يقول ان وراء كل ذلك شيء، هو الذي يفعل كل ذلك.

كأن الوجود لا شيء. وكأن اللاشيء وجود.

وكأن الحقيقة المعاينة الملموسة وهم باطل، وما لا يعاين ولا يلمس ولا يدرك، حقيقة نهائية.

يا لمأساة الفكر يوم يقوده انسان لا يعرف نفسه، ويحميه انسان يخاف من كلّ شيء.

قد يقول لك ذلك الفكر: اقبض بكلتا يديك على هذه الفأس، ثم اضرب بها رأس هذا التنين، وقد تتعطّل احدى يديك، او تصاب بأذى، وانت تقوم بعملك، ولكنه سيقول لك بعد ان تقتل التنين: لم تفعل شيئاً يا بنيّ... ان القوة التي وراء ذراعيك هي التي قتلت التنين... تباركت! فيا لمأساة الفكر عندما يقوده انسان يحيا في كهف بنته الاشباح.

ان الخرافة تموت.

والفكر يرجع الى محوره: الوجود حركة، الوجود وحدة تتعدد في اثنين: الانسان والارض.

وادبنا اليوم هو ادب هذه الحركة، هذه القوة، هذه الوحدة.

انّه ادب حياة. انّه ادب انسان يختلج التراب في كل عرق من عروقه، وادب ارض يختلج الانسان في كل حبّة تراب فيها.

تبارك الوجود.

تبارك الانسان والتراب.

الجيل الجديد - 31 كانون الثاني 1952


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024