قراء جريدة "النهار" في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان يلفتهم تعليقان، مرجعان لكل مهتم:
-الاول في السياسة، للصحافي ميشال ابو جودة.
-الثاني في الاقتصاد للصحافي انطون خليل الغريّب.
واذا كانت الصحف آنذاك تهتم بالعرض السياسي، وبعضها راح يقلّد "النهار" فينشر عموداً في الصفحة الاولى، تعليقاً على أهم الاحداث الجارية، إلا ان "النهار" انفردت بالزاوية الاقتصادية، وبتعليق شبه يومي للمسؤول عن الزاوية الاقتصادية – المالية.
إنما قليلون كانوا يعلمون في تلك الحقبة ان الصحافي غريّب كان قومياً اجتماعياً.
*
في منتصف الستينات انضم شاب مثقف هو رؤوف ابو زكي(1)، الى "النهار" مساهماً بتحرير الصفحة الاقتصادية، ومتولياً تغطية اخبار النقابات والاتحادات العمالية. حتى اذا رحل الرفيق غريّب بشكل مفاجئ، في 14 اذار 1964 لم تجد "النهار" افضل من ابو زكي لتولّي القسم الاقتصادي. كان ذلك جسر عبور لصحافي نشيط وعصامي، ليرتفع درجات تلو درجات وصولاً الى ترؤس اهم مجموعة اعلامية- اقتصادية هي مجموعة "الاقتصاد والاعمال".
في كتابه "الدامور: منارة إعلامية وهّاجة" يعرض الصحافي المعروف كمال اسبر الغريّب(2)، لعدد من ابناء الدامور الذين كانوا اصحاب صحف، او رؤساء تحرير او صحافيين مرموقين، في لبنان او في المهاجر. من بينهم الشهيد سعيد عقل، (احد الذين تمّ شنقهم من قبل السلطات التركية عام 1916) اسبر الغريّب، اسعد عقل، نسيب المتني الذي اغتيل ليل الثامن من ايار عام 1958 فكان من الشرارات التي سببت اندلاع الحرب الاهلية صيف ذلك العام، ومن بين هؤلاء الاعلاميين، يورد المؤلف كمال اسبر الغريّب، اسم الاقتصادي الرفيق انطون خليل الغريّب. فيقول:
" تلقى علومه الابتدائية في مدرسة المخلص في الاشرفية، ثم تابع دروسه الثانوية على نفسه، هو نجل المصور اليدوي الشهير ابن الدامور، خليل منصور شاهين الغريّب.
تولى تحرير القسم الاقتصادي والمالي في مجلة "الكومرس دو ليبان" الفرنسية، ثم في جريدتي "اللوجور" و"النهار"، وكان أول صحافي أدخل المقال الاقتصادي إلى الجريدة، وتبعتها في ما بعد معظم الصحف المحلية.
له مؤلفات باللغة العربية: الاول "الكورة تقطر ذهباً"، والثاني بعنوان "مداميك في الاقتصاد"، وهذا الكتاب اعتبر من أهم المراجع في الشؤون الاقتصادية في لبنان، اعتمدته وزارة الاقتصاد في حينه كمرجع اقتصادي علمي دقيق.
قالوا في الصحافي انطون الغريّب:
•" كان هادئاً على اتقاد الذهن، طيب المعدن، قليلاً ما كتب إلا مقنعاً، وكثيراً ما أوجع وهو يثبت رأيه. كان آلة حسابية، يضرب، ويجمع، ويطرح، ليستخلص من النتائج دروساً".
•انطون الغريّب، صحافي جريء، قضى في مهنة المتاعب ما يقرب من ربع قرن، وما تردد يوماً في كشف الحقائق في دنيا المال والاقتصاد.
توفي عن 41 عاماً في 14 آذار من عام 1964(3)، حمل نعشه في بيروت على أكتاف زملائه الصحافيين في دار جريدة "النهار" وفي مقدمهم الزميل الكبير غسان تويني(4)، الى عربة الموتى التي نقلت جثمانه الى الدامور حيث دفن في مدافن عائلته الخاصة.
متزوج من رجاء القطريب وله منها: زياد وعماد (الطبيب)".
*
يفيد الرفيق الفرد خليل غريّب انه سبق شقيقيه انطون وسامي في الانتماء الى الحزب، فهو كان تأثر بسعاده منذ العام 1947 عندما كان يستمع الى بائعي الصحف ينادون، يومياً تقريباً، على عناوين الصحف وهي تتحدث عن سعاده، قبل عودته الى الوطن، ثم عند عودته في 2 آذار 1947، وما تبع ذلك من صدور مذكرة توقيف، وانتقاله الى الغرب، الشوف، فالمتن الشمالي.
تعرف واترابه في منطقة السيوفي على الحزب عبر المدير الرفيق ابراهيم ابو حيدر. قرأ، حضر المحاضرات العشر. استشهاد سعاده هزّ وجدانه فقرر وعدد من اترابه في السيوفي ان ينتموا.
الى سوق الفرنج (مجاور لباب ادريس) توجهوا وفي مكتب لاحد الرفقاء ادوا القسم. يذكر من الرفقاء انطون عرايس، جورج بشعلاني، ميشال جقليس، نقولا سلوم(5).
تولى مسؤولية ناموس، نشط حزبياً، فانتمى شقيقه الرفيق انطون، ثم شقيقه الرفيق سامي(6) اما شقيقه الدكتور ميشال فلم ينتم "حاول شقيقي انطون اقناعي بالانضمام، ولكنني، رغم تأييدي لمبادئه النظامية والانضباطية واللاطائفية لم أقتنع بوجود امة سورية"، كما يورد في الصفحة 127من مؤلفه "مذكرات ماروني".
*
اصدر الدكتور ميشال الغريّب(7) مؤلفه مذكرات ماروني عام 1984، وفيه سيرته الغنية، منذ الطفولة.
يشير الدكتور ميشال الغرّيب، أن آل الغريّب يعودون بالنسب الى قبيلة العزيزات بالاردن، وان عائلته قطنت اولاً " في حي اسلامي من احياء بيروت الغربية، كان يقع بين شارع سوريا في البسطة التحتا، وتجاهه مسجد ذو مئذنة رفيعة (ص: 11) ثم انتقلت الى السيوفي في الاشرفية.
وفي كتابه يخصص فصلاً للحديث عن والديه، عن اعمامه، وعن اشقائه الرفقاء انطون، سامي والفرد، وشقيقته السيدة تريز.
عن الرفيق انطون (ص: 26) يفيد "إنه اخي الكبير ويكبرني بعشر سنوات. ميله الطبيعي كان نحو الفن، رسام كوالدي، ويهوى الموسيقى وليالي الطرب، ولكن والدي أرغمه على دخول مدرسة الصنائع الحكومية، كي يتعلم مهنة صبّ المعادن، غصباً عنه، وكم عنّفه وضربه من أجل ذلك.
واليوم كلما دخلت كلية الحقوق محاضراً، في المبنى نفسه الذي تعلّم فيه أخي الكبير صنعة الحدادة، أتذكر ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه إليه، منذ أربعين عاماً. وكنت وقتها في الثالثة عشرة.
ولما تخرّج صناعياً، عمل في محطة سكة الحديد، في محلة "مار مخايل"، وهي تبعد ساعة سيراً على الاقدام، من منزلنا الكائن في محلة "السيوفي"، فاضطُر، ظهر كل يوم، وتحت وطأة شمس الصيف، لنقل طعامه بالمطبقية، والطريق طويل وشاق، لا سيما في العودة لأنه صاعد وحاد.
الامر لم يطل به، لابساً ثوب الحدادة الازرق، وسرعان ما ترك سكة الحديد، وانتقل الى ميدان الصحافة، التي لم يتعلمها في مدرسة. ولكنه كان مطبوعاً عليها فطرياً، شأنه شأن معظم أعمامي وآل الغريّب عامة.
فعمل في عدة صحف، وانتسب لنقابة المحررين، الى ان استقر في جريدة "النهار"، فكلّف بتحرير الصفحة الاقتصادية، فكانت له فيها أبحاث علمية هامة، قرّبت منه أرباب التجارة والصناعة، وكانت له نقدات لاذعة بوجه النظام الاحتكاري الفاجر، الذي يسمونه نظاماً حراً في لبنان.
ثم تزوج من سيدة فاضلة من قرية بترومين في الكورة اسمها رجاء قطريب، رزق منها ولدان: زياد وعماد. ووضع كرّاساً اقتصادياً عن بساتين الكورة المهملة من الدولة. أسماه "الكورة تقطر زيتاً ذهباً".
وفي مؤلفه المشار إليه آنفاً يشير الدكتور ميشال الغريّب، ان جده منصور شاهين الغريّب كان شاعراً شعبياً ذائع الصيت، له قصائد فلسفية واجتماعية بكل فنون المعنى والزجل والقراءة جمعها وطبعها عمي اسبر الغريّب الصحفي صاحب جريدة "الشمس" في ديوان اتت على نسخه النار التي احرق بها بيتي في الدامور (ص: 14) يضيف: أما عمي الكبير امين، صاحب مجلة "الحارس" فقد اعاد طبع الديوان في مهجره في البرازيل.
عن والده يفيد انه كان فناناً في "التصوير اليدوي" وله كتاب في هذا الفن.
اما والدته، ماري مراد طعمة، فهي من بلدة "المختارة" التي لجأ إليها ذات فترة اثناء الحرب المجنونة، ووجد اهتماماً جيداً من اقربائه من آل طعمة.
*
تريز خليل الغريب
يشير الدكتور ميشال في مؤلفه (ص 32) ان اخاه الكبير انطون شجّع شقيقته تريز للعمل معه في صحيفة "النهار"، في الميدان الاجتماعي فنجحت بذلك نجاحاً باهراً، وسرعان ما اشتهرت وراحت توقع تحقيقاتها وتعليقاتها باسمها الشخصي وتجري المقالات مع رؤساء الجمعيات والوزراء والنواب".
عنها، يخصص الصحفي كمال اسبر الغريّب فصلاً خاصاً في كتابه " الدامور منارة اعلامية وهّاجة"، نقتطع منه التالي:
"كتبت تريز الغريب في معظم الصحف اللبنانية، النهار، الجريدة، لسان الحال، الصفاء، الشمس، فكانت مقالاتها التي تطارح عمق التفكير وصراحة القول بروية، وشجاعة، ونزاهة. عاصرت كبار الصحفيين والمفكرين، وكانوا يعطون أهمية لكتاباتها، انتهت أخيراً في جريدة "النهار" الى جانب شقيقها انطون.
ألفت عدة كتب علمية، وروايات ظهرت فيها هواجسها المؤلمة، في زمن الحرب العبثية القذرة التي اجتاحت لبنان.
توفيت تريز خليل الغريّب في 4 آب 1991 ولما كانت بلدتها الدامور في ذلك الحين، في حال يرثى لها من الخراب، والدمار، والتهجير، فلم يكن بالامكان دفنها في مقبرتها العائلية، كغيرها من ابناء الدامور الذين توفوا خارج بلداتهم، فدفنت في مقابر بلدة "بكفيا" بسبب وفاتها في مستشفى بحنس.
اقترنت من الدكتور توفيق بيضون ولهما ولدان هادي وسلام".
*
اذ نتكلم عن الدامور وعن الرفيق الصحافي انطون خليل الغريب لا يسعنا الا ان نستذكر بكثير من الوفاء، ومن الحزن على رحيله الباكر، الامين انطون غريب، رئيس مجلس العمد، عميد الاذاعة، عميد الثقافة، مدير عام مجلة "البناء – صباح الخير" الصحافي القدير الذي عرفته الصحف اللبنانية سنوات طوالاً، كان آخرها جريدة "الشرق" .
وشخصياً اتذكر بحنين رفيقاً كان مجليّاً في عمله الحزبي، وفي تفانيه، متولياً مسؤولية مدير مديرية الناعمة فترة طويلة وقد اضطر للنزوح عن بلدته الدامور، ثم ابعدته الظروف القاسية الى مدينة بيرث في استراليا، هو الرفيق انطون ابو مرعي، ومثله شقيقه الرفيق نزيه الذي غادر الى احدى جزر الكاريبي، فاستقراراً في فرنسا.
هوامش:
(1)كان انتمى الى الحزب ونشط في ستينات، واوائل سبعينات القرن الماضي، ثم توقف.
(2)كان انتمى في فترة سابقة، نشرت النشرة الرسمية عام 1948 كلمة بمناسبة اول مارس، بقلم الرفيق كمال اسبر الغريّب بعنوان "الاعياد القومية وآثرها في وحدة القلوب".
(3)يصحح شقيقه الرفيق الفرد فيقول: ان الوفاة حصلت في 13 آذار 1966 فيما التشييع تمّ في اليوم التالي، اي في 14 آذار، وان الرفيق انطون الغريّب رحل عن 42 عاماً، فهو من مواليد العام 1922.
(4)كذلك يوضح شقيقه الرفيق الفرد ان القوميين الاجتماعيين في منطقة السيوفي، حيث كان يقطن الرفيق انطون، هم الذين حملوا النعش، وكان في مقدمتهم مدير المديرية الرفيق ابرهيم ابو حيدر.
اما بالنسبة للصحافي غسان تويني فقد يكون شارك بحمل النعش في الدامور، يضيف ان الصحافي تويني القى كلمة مؤثرة جداً بعد انتهاء القداس، وتكلم بدوره الصحافي ملحم كرم.
(5)استشهد اغتيالاً في صيف العام 1958 .
(6)كان رجل أعمال معروفاً، وكيلاً لعدة أصناف شهيرة، منها المولينكس، والبيركس.
(7)اعتنق الدين المحمدي وبات يعرف بالدكتور محمد ميشال الغريّب. مجاز بالحقوق في جامعة ليون (فرنسا) حصل على شهادة دكتوراة دولية بالعلوم السياسية.
مارس المحاماة منذ عام 1957.
استاذ في كليتي الحقوق والاعلام في الجامعة اللبنانية، استاذ سابق في المدرسة الحربية.
من مؤلفاته: العدالة المنقوحة. الطائفية والاقطاعية في لبنان.
أسس مع آخرين الحركة العلمانية الديمقراطية عام 1963، ثم منظمة المسيحيين الديمقراطيين، عام 1978.
استقر في منطقة مكسة – البقاع في سنواته الاخيرة التي اصيب خلالها بمرض الزهايمر.
|