كان أكثر ما يذكرني فيه علاقته المميزة بصديقه الدائم الشهيد هنيبعل عطية .
في الأيام الصعبة من ستينات القرن الماضي عرفت الرفيق فايز كرم ناشطاً في الصحافة ومتحركاً حزبياً معرضاً نفسه للملاحقات والسجن. كان جريئاً لا يهاب احداً، واضحاً في اعلان هويته الحزبية.
كنت معجباً كثيراً بحركته الدائمة، بتسديده ما يفيد الحزب في الصحف التي عمل فيها اذكر منها "الشمس"، "صدى لبنان" وغيرهما.
لم أكن اعرف كثيرا عن عائلته سوى انه من بلدة فيع اقترن من السيدة انعام حنين قطيني .
كان كلما حضر الى بيروت يتصل بي ونلتقي، هاجسنا الحزب وكل ما يواجهه على صعيد الملاحقات والسجون.
لم اعرفه مرة واحدة متراجعاً عن عمله الحزبي، لا تعوزه الثقافة القومية الاجتماعية ولا الحنكة في التعاطي مع مختلف الأطراف، دائماً ملبياً وكان يتمتع بصداقات مع لفيف من الصحافيين.
لم اكن على بيّنة من وضعه العائلي الى ان توليت مسؤولية عميد شؤون عبر الحدود، فتعرفت الى ابنه الرفيق الدكتور سرجون في المانيا، فلفتني بثقافته، ثم تعرفت الى ابنه الآخر الرفيق الدكتور هنيبعل وقد استمعت إليه اكثر من مرة في خطب كثيرة تجلى فيها بإلقائه الرائع ولغته العربية اللافتة.
انقطعنا عن التواصل بسبب الحرب الداخلية التي عصفت بلبنان، مع ذلك بقي الرفيق فايز يحتل الكثير من مشاعر الصداقة والاخوة أسأل عنه ويسأل عني الى ان تمكنت بعد مضي سنوات ان ازوره في بيته فلفتني ثقافة وحضور الفاضلة زوجته فكانت جلسة ولا احلى.
بوفاة الرفيق فايز نخسر رفيقاً مناضلاً حفر جذوره في بلدته فيع وفي كل مكان تواجد فيه.
انضم الى عائلته بنعيه وأشاركها الحزن العميق على سنديانة من بستان النهضة ونعيد تعميم "مرويات من تاريخنا كانت وردت من الرفيق فايز كرم، وعممناها بتاريخ 17/08/2016
*
مرويات من تاريخنا
" في ذلك الزمان، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة الخاسرة... جئت بيروت أتسكّعُ في شوارعها، أعملُ في بعض صُحفها ومجلّاتها ووكالات الأنباء الصادرة في حينه... أكتبُ أخبار الآخرين والحزنُ يعصرني، وألم الانكسار يؤرقني، على أمّتي سورية التي راح الأعداء يمزّقون شرائع العدالة في قصورِ بيروت ومخافرِ أمنِها. ومن الخارج، في أصقاع الدّنيا، يهود يتوافدون إلى فلسطين.
أضحى شارع الحمراء ملتقى المشرّدين من حزب سعادة العظيم. مقهى "النيغريسكو" الذي يشرف عليه الامين داوود باز، ابن إغميد- الشوف، احتَضَنَنا. وتحت شجرة "الغاردينيا" جلسنا نقرأ تاريخنا...، هنا التقيت الرفيق عادل الأعور(2). رفع يمناه بالتّحيّة، أدركت أنّه من الرفقاء الرجال، المشرّدين من وحداتهم الحزبية بسبب موجة الاعتقالات. خاطَبنا هَمْسًا... فحيّاهُ الرفيق جبران دياب(3) شقيق الشهيد عقل وصديق الرفيق الشهيد حنا عيد اللذين استشهدا سنة (1958) في عدبل- عكار دفاعاً عن خط الحزب. جبران من عائلة دياب القوميّة قضى في بيروت إبّان الحرب الدامية التي اندلعت سنة 1975. قال الرفيق عادل: إرفع يمينك بالتحيّة عالياً. ضحك الرفيق أنطوان الغريب(4) والرفيق سمير أبي ناصيف(5) الذي كان يناديني ب"ديموزي"، والرفيق ميشال تركي(6) الذي قدّم لحضرة الزعيم قطعة قماش من مصنعه في بيت شباب كهديّة.
في مقهى "النيغريسكو" كان يتحلّق حول طاولتنا يوميا رفقاء يأتون من مختلف أنحاء لبنان، يشربون القهوة وتتكدّس الفواتير تحت المنفضة الملأى برماد السجائر.
جاء الرفيق عادل الأعور يوماً، يتأبط جريدة "النهار"، كانت تصدر بثماني صفحات، ثمنها ربع ليرة لبنانية، مكاتبُها في أول شارع الحمراء بعد أن انتقلت من سوق الطويلة.
من عناوين الجريدة وأخبارها... ينطلق الحوار بيننا فنعيد نقاشاتنا اليوميّة عن السجناء والمحاكمات، والرفقاء، والاعتقالات والشهداء... عن الحزب، عن الانكسار. كان الرفيق عادل ينتفض غاضبا ويلعن المقصّرين، فيجيبه أحد الرفقاء: "هل نسيت ما يفعله الجلاد أبو أحمد بالقوميّين؟"
"أبو أحمد"(7) جلّاد مسيحيّ أرداه مسلّحٌ بعدّة رصاصات في محلّة "المسلخ" بعد انتخاب الرئيس سليمان فرنجية سنة 1970.
في مقهى "النيغريسكو" اجتمعت كلّ الديانات السماويّة، جمعَها القوميّون الاجتماعيّون وهم من مختلف الطّوائف: أنطوان الغريب، جبران دياب، سمير أبي ناصيف، محمد حسن(8)، محمود غزالة (الامين المقيم في مشغرة)، جمال فاخوري، هنري حاماتي، داوود باز، لوقا زودو(9) الّذي كان من آشوريّي العراق... والعشرات العشرات بل المئات، فلا تتسع الصفحات لذكر أسماء الرفقاء في هذه العجالة.
الأحاديث كانت تتمحور وتدور كلّ يوم دورتها عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، إنّه الشغل الشاغل، ومن مفاهيم مبادئه تعَقدنَ الرجال.
الرفيق لوقا زودو كتب مقالة تناول فيها أصل الشّاه البهلوي، ملك الملوك وربّ الأرباب، فادّعت عليه السفارة الايرانيّة أمام محكمة المطبوعات في بيروت، وحكمته، "فسَوْكَر" ليرة لبنانية حمراء وأرسلها إلى الشّاه قبل خلعه.
الرفيق عادل الأعور أصدر كتاباً بعنوان "هذا جسدي فكلوه"، "فهاش" عليه مدّعو الألوهة وحرّاس النبوّة، كفّروه، اعتقلوه، ضربوه، لكنّه لم يمت. حكموه بستّ سنوات سجن، قضى منها ستّة أشهر وخرج من السّجن مريضا، معطوبا، منهارَ الأعصاب، موصوفا بالجنون، لم يستطع أحد في هذا العالم أن يردّ له المكافأة... ظلّ يهتف: تحيا سورية ويحيا سعاده، ذنبه الوحيد أنه درزي وعنوان كتابه كلامٌ للسيّد المسيح.
في أحد أيّام أسرِه جاءت إلى جريدة "الشمس" الصحفيّة ناديا فاعور. رجَوتُها أن تزور عادل وتنقلُ إليه تحيّاتي. ناديا لها مع الظالمين باعٌ طويلة، فوعدتني وقالت لاحقاً بأنّها نفذّت الوعد.
مشينا مرّة نتسكّع في شارع الحمراء، التقينا بعادل ينزل من مبنى جريدة "النهار" ويحمل عددًا من الصحيفة كُتب فيه تحقيق عن الغجر، تناقشنا في هذا الموضوع لأيّام وجلسات طوال... كان يضحك عندما لا يعجبه الرأي الآخر.
أطلعته على قصّة قصيرة عن الغجر، قلت له: إنّ الخوري "موسى الخوري"، الذي كان كاهن بلدة فيع، أستحصل لزمرةٍ من الغجر على هويّات (جنّسَهم) فقالوا له: لقد أصبح لنا إرث في مشاع فيع - الكورة. كبرت الزّمرة الغجريّة وانتخبت عام 1953 مرشّح الحزب السّوري القومي الاجتماعي الدكتور عبدالله سعادة، وهتفوا باسمه مردّدين "سعاده سعاده يا قهّار الأعادي". ولكنّهم أصبحوا اليوم تجّار سياسةٍ يعتمدون أسلوب البيع والشراء، فمَن يدفع لهم أكثر ينتخبونه، ولا علمَ لنا في أيّ أرضٍ يضربون خيامَهم!
*
"شمّي يديك يا سوريا"
إنه عنوان مقالة كتبها الأمين محمد البعلبكي منذ 58 سنة، ونشرت الكلمة في جريدة "البناء" التي صدرت بصفحتين تنعي الشهيد غسان جديد، المقدم البطل الذي اغتاله عميل مخابرات عبد الحميد السراج بشارع السادات برأس بيروت، وقد تزيّا بزيّ "بيّاع مكانس"، لكنّ الرفيق جورج خوري طارده وقتله(10).
أقيم للشهيد غسّان مأتم حاشد لم تشهد له بيروت مثيلا. امتدت صفوف القوميين من مستشفى الجامعة الاميركية إلى جبّانة الباشورة في البسطة التحتا. وألقى رئيس الحزب الأمين أسد الأشقر كلمة الحزب، التي كان مطلعها الآية الكريمة: " لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
تميّز الحشد المشارك في التشييع بالانضباط وكتبت عنه الصحف، وذكرت جريدة "الناس"(11) أن "70 ألفًا يشيّعون غسان جديد". وكان لافتًا الصّفوف النسائيّة، وفي مقدّمها الرفيقة وجيهة الأيوبي(12) من بلدة عفصديق ـــــــ الكورة، والرفيقة سعاد وهبة(13) من بلدة قلحات ــــــ الكورة، يحملنَ إكليلا من الزهر تقدمة منفذية الكورة.
جريمة الاغتيال نفّذت بتاريخ التاسع عشر من شباط عام 1957، ومراسم الجنازة أقيمت في بحر الأسبوع، ونحن في المدرسة، فكان لا بدّ لنا من التغيّب...
شاركنا، وكنّا حفنة من الرفقاء، طلابا في معهد نادر في دده الكورة، وعلى رأسنا الرفيق الأستاذ هنيبعل عطية(14). أمّا الطلاب فهم: رجا عبّود، ورجا صقر من بلدة بطرام، فايز سعد وخليل البشواتي من بلدة دده، ضحى نصر من قلحات، وأنا من فيع.
عدنا الى المدرسة يوم الاثنين، فوجدنا مذكرة تقضي بطردنا لمدة ثلاثة أيام بحجة أننا تغيّبنا الأسبوع الذي مضى بدون عذر شرعي.
الرفيق الاستاذ هنيبعل عطية، لم يتحمّل المساءلة، فغادر معهد نادر ولم يعد. أمّا نحن، الطلاب، فكنا مجبرين على متابعة الدراسة، وهنا اكتشفنا لماذا لم يجدد بعض الاساتذة من السنة الماضية تعاقدهم مع ادارة المعهد... كانوا قوميين: نذير عظمة، ميشال طحان(15)، عفيف خوري(16)، عيسى بندقي(17). وكان الطلاب قد حفظوا معظم قصائد ديوان "جرّحوا حتى القمر" لنذير عظمة.
لم يتمكّن جميع الطلاب القوميين في الكورة من المشاركة بمأتم الشهيد غسان جديد، على الرّغم من محاولاتهم الجديّة. أذكر أن الرفيق لويس حيدر، كاهن بلدة فيع اليوم، أُجبر على الذهاب إلى مدرسته في أميون، فقام بافتعال مشكلة مع الطالب الشيوعي "إميل شاهين". فاتى إليه وطلب نزاله، لكنّ شاهين رفض ذلك، فما كان من الرفيق لويس إلا أن نفخ في كفّ يده وصفعه على وجهه. كلّ ذلك من أجل أن يُطرد إلى البيت فيذهب للمشاركة بمأتم الشّهيد غسّان. إلا أن مدير المدرسة عاقب الاثنين فأوقفهما إلى الحائط طيلة النّهار ليحفظا مئة بيت من الشعر بالفرنسية.
واليوم، وبعد سنين، وبعد أن سيّمَ الرفيق لويس حيدر كاهناً على بلدة فيع باسم "أبونا سمعان"، أُرسلُ كلّ سنة، في الثامن من تمّوز، القرابين إلى الكنيسة، عن راحة نفس الزعيم الخالد، وشهداء الحزب الأبرار، فيصلّي لأجلهم "أبونا سمعان" بفرح وسرور كبيرين.
الرفيق الدكتور ضحى نصر، عاد هذا الصيف إلى بلدته قلحات وزارني في منزلي في فيع، فتذكرنا الماضي، وقال إنّه دعا الأمين الدكتور نذير عظمة عندما كان في أميركا لالقاء محاضرة في الجامعة التي يدرّس فيها، فلبّى الدعوة. وبعد المحاضرة فتحت السلطات تحقيقاً... وتبيّن أنّ "الواشي" كورانيّ، وقد أخطأ باعطاء الاسم للسلطات فقال إنّه: جلال العظم. وهكذا خاب ظنّه وبدا كاذبا. والغريب أن هذا الواشي قد ترشّح للمقعد الانتخابي في دورة سابقة... وجاء يستجدي القوميين ويزور بعض منازلهم في جولاته الانتخابيّة... فيا عجبا لكلّ هذا الغدر!
هوامش
(1) فايز كرم: صحافي وكاتب، مقيم في فيع وله عدة مؤلفات .
(2) عادل الاعور: عممنا نبذة عنه بتاريخ 13/01/2015. للاطلاع الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info .
(3) جبران دياب: محام، من عدبل. استشهد اغتيالاً في بيروت بتاريخ 08/12/1981.
(4) انطون الغريب: الامين، عميد الاذاعة، رئيس مجلس العمد. الى مسؤوليات اخرى. من الدامور. وافته المنيّة بتاريخ 27/08/2013.
(5) سمير ابو ناصيف: من "قبّ الياس". نشط حزبياً، متولياً المسؤوليات. اقترن من الامينة اليسار سعاده. خسرناه باكراً وفي اوجّ عطائه.
(6) ميشال تركي: من "بيت شباب". عرف بأخلاقيته وثباته على ايمانه القومي الاجتماعي.
(7) هو انطون عازوري، عرف عنه تعاطيه الوحشي مع القوميين الاجتماعيين الاسرى في "المير بشير"
(8) محمد حسن: من النبي عثمان. مدرّس، وكان موظفاً في وزارة التربية.
(9) لوقا زودو: عممنا عنه نبذة بتاريخ 26/02/2015، مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(10) الصحيح ان المقدم غسان جديد كان يحمل اسماً مستعاراً هو جورج خوري. أما قاتله فهو عزت مصطفى شعث من جنوب سورية ومقيم في الشام.
(11) "الناس": كانت تصدر بعيد الظهر لصاحبها ورئيس تحريرها الرفيق جبران حايك.
(12) وجيهة الايوبي: كانت ناشطة، حزبياً. موظفة في وزارة الزراعة. بقيت عزباء. ابنة عم الرفيق المناضل صبحي الايوبي (والد الرفيق محبوب الايوبي).
(13) سعاد وهبة: نشطت حزبياً في منفذية الطلبة في بيروت، ثم في الكورة عندما انتقلت إليها. شقيقة الرفيق زاهي وهبة، وزوجة الصيدلاني المواطن عفيف يزبك (اميون).
(14) هنيبعل عطية: من شهداء الحزب. كان اديباً وشاعراً وفناناً ومذيعاً متفوقاً وخطيباً.
(15) ميشال طحان: من "حدث الجبة" عمل في مصلحة الليطاني مع الامين عاصم الداعوق، والرفقاء شفيق صدقة عبد الخالق (مجدلبعنا)، عباس شدياق (عشقوت-كسروان)، عباس خليفة، وهيام الديك وغيرهم من رفقاء ورفيقات عملوا في مصلحة الليطاني: في مركزها في بيروت وفي مكاتبها في البقاع.
(16) عفيف خوري: من كفرحزير. مربي معروف. اوردنا عنه في النبذة المنشورة عن مدرسة "النظام الجديد" في بلدة "السودا" (طرطوس)، ونشرنا كلمة فيه عند رحيله. للاطلاع الدخول الى قسم "من تاريخنا" على الموقع المذكور آنفاً.
(17) عيسى بندقي: من مدينة حمص. نشط حزبياً فيها، في لبنان، في الاردن عندما انتقل إليه، ثم في البرازيل مستقراً في برازيليا الى ان وافته المنية. للاطلاع على ما كتبت عنه الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.
|