يكاد لا يخلو سجن، أو مخفر، أو معتقل في لبنان والشام إلا وكان من نزلائه قوميون اجتماعيون. وإذا كنا كتبنا، وكتب أمناء ورفقاء، فإننا ندعو كل رفيق يملك ما يفيد به من معلومات عن تعرضه، أو غيره من الرفقاء، للإعتقال، والسجون، والملاحقات، أن يكتب ويدوِّن. فتلك المعلومات ليست شخصية، إنما هي ملك الحزب، لتاريخه الكبير الذي يجب أن يبقى لكل أجيال الحزب وللأمة.
من أبرز تلك المعتقلات التي سمع بها معظم القوميين الاجتماعيين، إنما نرجح أن قليلين منهم يعرفون عنه، هو معتقل المية ومية.
هنا بعض من كثير، نضعه بتصرّف جميع رفقائنا، آملين أن نستلم من كل رفيق لديه معلومات مفيدة عن معتقل "المية ومية"، أن يساهم معنا في إغناء المعلومات عن هذا المعتقل وصولاً إلى إعداد ملف كامل عن المعتقل، الشاهد على نضال مميز قام به القوميون الاجتماعيون في السنوات الأولى من أربعينات القرن الماضي.
*
الأمين ابراهيم يموت هو من أكثر الذين كتبوا عن معتقل "المية ومية"، فمؤلفه "الحصاد المر" غني بالمعلومات، التي نوجز هنا أبرز ما جاء فيها:
" كان المعتقل مدرسة تابعة لإحدى الإرساليات الأجنبية، ويقع على تلّة تُشرف على صيدا من الشرق، وتُشرف على البحر من على بُعد خمسة كيلومترات. التلة مكشوفة من الجهات الأربع، وتمتد حواليها التلال والجبال والأودية. إلى الجنوب تلّة أخرى تقع عليها بلدة مغدوشة. منظر صيدا الرابضة على البحر رائع.
يتألف المعتقل من بناء رئيسي يشتمل على عدّة طوابق يجلّله سقف القرميد الأحمر، وهو مبني من الحجر الأبيض. صورة البناء المشرف على الشاطئ ظلّت في مخيلتي زمناً طويلاً، وانطبعت، على ما يظهر، في اللاوعي عندي، ممّا حداني في مطلع السبعينات إلى تشييد بناءٍ كبير من الحجر يظلّله القرميد الأحمر لسكني الخاص على تلّة من تلال بيت مري المشرفة على بيروت، تشبه إلى حدٍّ بعيد تلّة المعتقل.
حول بناء المعتقل ملاعبُ لكرة السلة، والكرة الطائرة، وملعب كبير لكرة القدم، وأراضي مزروعة بالزيتون وأشجار السرو والشربين. عند مدخل المعتقل بيوت كانت في الأصل لسكن الأساتذة، فأصبحت مخصصة لعائلات الضباط المشرفين على المعتقل. وبجوار البناء الكبير أبنية صغيرة خُصِّصَت واحدةٌ منها للمعتقلين المتزوجين وعائلاتهم، وبناية أخرى للنساء المعتقلات العازبات. أُلحِق بالمعتقل، وعلى عجل، مبنى من الأترنيت وكذلك مخزن كبير وبيوت من التنك ليستعملها المعتقلون للغسيل والاستحمام.
في كل بناء من أبنية المعتقل مطبخٌ ومستودع للمونة. وقد قُطِعت الصالونات الكبيرة بحواجز خشبية لتكون غرفاً صغيرة للمعتقلين. لا حواجزَ بين البناء المخصص للرجال، والبناء المخصص للعائلات. أما المعتقلات من النساء، وأكثرهن من الفنانات الأجنبيات اللواتي كنَّ يعملن في الملاهي الليلية في بيروت، فبناؤهن يقع ضمن الأسلاك الشائكة، ولا يُسمح لهنّ بالمجيء إلى البناء الكبير إلا حين توزيع المواد الأولية، أو حين يأتون لزيارة المستشفى.
يشعر المعتقلون في الواقع، بأنهم محتجزون في مكان بعيد عن الناس، وضمن حدود يتمتعون فيها بحُرية التنقل، وممارسة الألعاب الرياضية، وإقامة السهرات والحفلات والمباريات الرياضية. فالإعتقال لم يكن بقصد التأديب أو الزجر، وإنما بقصد حجز الحرية ومنع الضالعين في الأعمال السياسية، أو التخريبية من القيام بأعمال تُضرّ بأمن الدولة المنتدبة والحلفاء، ولا همّ أن يكون بينهم الكثيرون ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب ولا في السياسة. تكفي مجرد الشبهة لسوق الناس إلى الإعتقال، وإبعادهم عن مجرى الحياة.
لا وقت محدد للنوم ولا للنهوض. يُدعى المعتقلون مرّة كل صباح ليتفقدهم آمر المعتقل في الساحة العامة، ويُنادى على كل معتقل باسمه. كان الآمر ضابطاً فرنسياً يعاونه مساعدون فرنسيون، ورجال أمن لبنانيون.
الأكل متوفر، ومن نوعية جيدة، وكميته كافية. ينقسم المعتقلون إلى وحدات، تهتم كل وحدة بتنظيم مطبخ خاص لها. هناك الحِلل الكبيرة والطناجر، والوقود متوفر من مازوت وحطب. تُعطى المواد الأولية بنسب معينة. لكل مُعتَقَل حصّتُه اليومية أو الأسبوعية، ويُشرف على مستودع الإعاشة والمستشفى معتقلون يعينون بالتراضي من بين الإداريين وأصحاب الإختصاص. يحصل القوميون على إعاشتهم كمجموع ولهم مطبخهم الخاص، ويتبرع القادرون منهم بمبالغ شهرية تساعد على تحسين نوعيّة الطعام، وكنتُ مولجاً بتسلُّم الإعاشات وإدارة المطبخ.
يُسمح للمعتقلين بشراء مواد غذائية إضافية من دكّان ملاصق للمعتقل، كما يشترون من الدكان أغراضاً وأدوات يحتاجون إليها. يأتي المتعهّد يومياً فيسجل للمعتقلين طلباتهم فيلبيها في اليوم التالي، وتُعرض الجرائد والمجلات يومياً للبيع. خَصّص المعتقلون مكاناً للحلاقة وآخر للخياطة والكوي، ويتمتع المعتقلون بحريّة اقتناء الراديو وآلات الموسيقى. المشرفون على المعتقل يمثلون أمة عريقة في فهم الحريات ولو في حالة الحرب.
كان يتراوح عدد المعتقلين في البناء المخصص للرجال بين الماية والخمسين والمايتين بما فيهم القوميون الذين كان عددُهم بين الأربعين والستين. العدد يتغير من يوم ليوم بفعل حركة القادمين والخارجين. كل يوم أو يومين نزلاء جدد، ومعتقلون محظوظون يُخلى سبيلُهم. مرَّ على المعتقل، في تلك الفترة رجالٌ معروفون أمثال عارف النكدي، وعبدالله المشنوق، والدكتور فريد زين الدين، والدكتور حمدي الخوجة، والدكتور يوسف بوجي، وزهير عسيران، وسعيد سربيه، وعبدالله دبّوس، وشارل شاوول، والأمير نهاد أرسلان، ومعروف سعد، واسكندر حريق، وعلي ناصر الدين، وناظم القادري، وجورج يونان، والدكتور يوسف سمارة، وغيرهم.. وكانت حصة الحلبيين كبيرة، إذ كان بيننا رشاد برمدا (وزير سوري) وأحمد قنبر (وزير سوري) والدكتور عاطف الغوري، والشيخ مصطفى السباعي (رئيس تكتّل ديني في الشام)، وأفراد عائلة من عائلات بلدي وأرسان والأميري والترمانيني والرفاعي وملص وغيرهم.
نظّم المعتقلون فرقاً لكرة القدم والكرة الطائرة، وكانت هذه الأخيرة هي اللعبة المفضلة، وتُقام لها المباريات الدورية، وتحظى بأكثر قسط من التشجيع والحماس. لم ينعزل القوميون عن غيرهم في الحياة الاجتماعية أو الرياضية. كانت فرقهم الرياضية مفتوحة للغير، وكذلك المطبخ الخاص بهم يشترك فيه من يشاء، وكان يُفرض رسم مالي على المقتدرين من القوميين وغيرهم، لا يتعدى العشر ليرات شهرياً، يُصرَف على شراء المواد الإضافية، ويُدفع منه تعويضات رمزية للطباخين.
لا مشاركة في غرف المنامة بين القوميين وغيرهم إلا في بعض الحالات، فالغرف صغيرة، ومتوفرة، ومساحاتها متفاوتة في الاتساع تستطيع استيعاب الاعداد الصغيرة والكبيرة التي تنسجم كل مجموعة منها مع بعضها الآخر.
الحياة اليومية للقوميين منظّمة. كان على رأسهم مسؤول إداري هو مرجعهم في كل شيء. قبل مطلع عام 1942 كان وليم سابا(1) هو المسؤول، ثم تعاقب على المسؤولية كل من أنيس فاخوري، ومأمون إياس، وفؤاد أبو عجرم. ويصير تعيين هؤلاء من قِبل الرئيس نعمة ثابت، أكان خارج المعتقل أم داخله، ويطيع القوميون هؤلاء المسؤولين إطاعة مبصرة.
في جوانب المعتقل مساحة من الأراضي محدودة تصلح لزراعة الخضار، وقد نشط بعض المعتقلين في زراعة الخس والفجل والبصل وغيرها. كان من هؤلاء، ولعلّه أنشطهم، معروف سعد، النائب الذي اغتيل مطلع عام 1975، فكان مقتله بداية الحرب اللبنانية الهوجاء خلال السبعينات والثمانينات. قلّما كنتَ ترى معروف إلّا وهو يتعهّد قطعة من الأرض خصّصها لنفسه. يلبس الشورت فقط من دون أيّة قطعة ثياب أخرى. معرّضاً جسده الرياضي للشمس والهواء. كان لا يقيم اعتبارات للمظاهر الاجتماعية، وكنتَ تشعر بمحبته للأرض والتصاقه بها، وهو يُطل على مدينته، صيدا، على بُعد بضعة كيلومترات، ويرمق، بشوق ووله، بساتينها وبياراتها التي كانت ملعب طفولته وشبابه.
معروف كان من أنشط المناضلين الجنوبيين ضد الصهيونية في الثلاثينات. كان يمنع سيارات الشحن المحمّلة بالخضار والفاكهة، والمتجهة إلى القرى اليهودية في فلسطين. انتسب فيما بعد، ولفترة قصيرة، إلى الحزب السوري القومي، وكانت له مواقف قومية مشهودة، ثم انكفأ واعتنق المبادئ الاشتراكية، وأصبح من الداعين إلى التنسيق مع الدول الشيوعية والاشتراكية. أثناء اعتقاله، ورغم معرفته للمسؤولين القوميين أمثال نعمة ثابت ومأمون إياس، كان يتجنّب الاحتكاك الفكري معهم، ويكتفي بالحد الأدنى من العلاقة.
كان الفرنسيون يُؤمِّنون للمعتقلين الثياب الداخلية، ونوعاً من الصبابيط الخشبية تُسمّى "سابو" بالإضافة إلى الأغطية الصوفية والأسرّة الحديدية. "السابو" ضروري للتنقل في المطبخ وأماكن الغسيل.
*
• كان أنيس فاخوري هو المسؤول الحزبي الذي يدير شؤون القوميين يوم دخولي إلى المعتقل، وكان سبقه في المسؤولية وليم سابا.
كنتُ أكنّ لوليم، ولا أزال، التقدير والاحترام، فهو مشبع بالنظام والأخلاقية، وقد أنهى دروسه الهندسية في جامعات ألمانيا، ورافق الزعيم أثناء مكوثه هناك بطريقه إلى الارجنتين. لا يتساهل بأي انحراف، ويؤمن بأن التصرفات الشخصية يجب أن تخضع للأخلاقية الحزبية بشكلٍ صارم.
• لعبة الشطرنج كانت من الألعاب الرائجة، وكان لها أنصارها. عبد الله المشنوق من فرسانها، وكان يتبارى فيها مع رفقاء أمثال الياس سمعان(2)، وابراهيم الشامي، وجبران جريج، ومعي. إنها لعبة تناسب جو المعتقل، وجو الحرب، وتساعد على تقطيع الوقت وتمرين العقل.
• في الخامس عشر من كانون الثاني 1942 احتفلنا بعيد ميلاد بشير فاخوري(3) وهو من المسؤولين القدامى، صيدلي يملك مع أخيه الرفيق محي الدين صيدلية فاخوري في محلة باب ادريس في بيروت. أقمنا حفلاً خاصاً تخلّله الغناء والإنشاد، اشترك فيه رفقاء جدد وفدوا على المعتقل ذلك اليوم هم: خليل الطفيلي، وعيسى حمادة، ونجيب حريق، وبشير الهنا، وتيسير شيخ الأرض، وإدوار توتنجي. انتشى البعض، وأُلقيَت بعض الخطب التي تناسب الحال، ومنها ما أشاد بأريحية بشير و"كَرَمه" الحاتمي، لعلّ نوبة من الكرم تنتاب بشير، فيبسط المزيد من الحلويات والسكاير. بشير عُرف بإقباله على المسؤوليات الحزبية، وبدقّته المالية إلا أنه يحب القبض ويستصعب الدفع. إنه شقيق الرفيقة المناضلة نِعَم، زوجة الرفيق الأستاذ مصطفى اللاذقي. رافق سعاده قبل سفره وبعد رجوعه من المهجر، وكان بيته مفتوحاً للمناسبات الحزبية الكبيرة. وفي المعتقل أشرف على المستشفى وكان يؤدي خدمات إنسانية كبيرة لعامة المعتقلين. توفي بشير خلال عام 1978.
• كان يُسمح للمعتقلين، وفي حالات خاصة، بالنزول إلى صيدا أو بيروت لقضاء أمر هام، أو حضور مناسبة تتوجّب الحضور، كحضور جلسة محكمة، أو تقديم فحص، أو حضور مأتم لقريب. وكان يصاحب المعتقل موظفون من الأمن العام، فيذهبون على حساب الرجل في التنقل، والطعام، ويحصلون، فوق ذلك على بعض الهدايا، على سبيل التشجيع. بعض تلك الزيارات كانت تحصل بحجة الأسباب الخاصة، إلا أنها لم تكن كذلك، وتجري بغض النظر من رجال الأمن.
في الأوقات المتوفرة انكبّ البعض منا على دراسة اللغة الألمانية، إذ كان أكثرنا يتقن إحدى اللغتين، الانكليزية أو الفرنسية، وكان من أساتذتنا وليم سابا الذي أتقن اللغة أثناء دراسته للهندسة في ألمانيا. وبفضل اتساع الوقت استطاع بعضنا إتقان اللغة كتابة وقواعدَ خلال شهور، خصوصاً وقد توفّر جو المراجعة والتمرين بوجودنا مع أجانب يتقنون تلك اللغة.
وبالإضافة إلى دراسة اللغة الألمانية أُتيحت الفرصة للبعض منّا لمطالعة عدد كبير من كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع، وتوسيع الآفاق الثقافية، مما لا يُتاح خلال الحياة العامة خارج المعتقل.
• لازم الكثيرين الوضعُ المالي السيء. الموارد قليلة والمعيشة صعبة أثناء الحرب. المتطلبات المالية في المعتقل محدودة، خصوصاً للذي لا يدخن ولا يشرب، إلا أن هناك حاجيات لا بد من شرائها بالمال. كان يأتي بين الفينة والأخرى نعمة ثابت، أو مأمون إياس، أو أنيس فاخوري، أو فؤاد أبو عجرم، ويعرضون على بعض الرفقاء مساعدتهم المالية. وبإيعاز منهم كان الياس سمعان وإسبر حداد، وهما خيّاطان معروفان، يخيطان بعض الثياب للرفقاء، مما كان يساعد على تحسين المظاهر، والمحافظة على الحد الأدنى من الشياكة. وبالطبع كان الياس واسبر يرفضان تقاضي أي أجر.
• للمعتقل ساعاته الحلوة، ومن أحلى الساعات مباريات كرة القدم والكرة الطائرة. أُقيمت في أول شباط 1942 مباراة في كرة القدم على الملعب الكبير ذي المواصفات الدولية حضرها، بالإضافة إلى جمهور المعتقلين، "الادجدان" قائد السجن. وفي مباريات كتلك كان يُسمح للعائلات المعتقلة وللنساء العازبات أن يأتين. كان نجم المباراة توفيق البربير، لاعب الكرة المعروف في لبنان آنذاك، وتوفيق قومي سابق كما أورد ذلك جبران جريج في جعبته. وقد اعتُقِلَ مع شقيقيه حُسني وأنور من غير ذنب سوى أنّ أخاهم الأكبر، رشاد، كان مراسلاً صحفياً في ألمانيا، وكان مطلوباً من الفرنسيين.
• بالإضافة إلى حوالي الثلاثين من القوميين الذين اعتُقلوا في أواخر عام 1941، دخل في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1942 حوالي ثلاثين آخرين، ولم يخرج سوى واحد، بعد ذلك خفّت حركة الدخول والخروج. الاستقبال والاهتمام الذي كان يلقاه الوافدون كان يُنسيهم الكثير من هموم الاعتقال ورهبة الاغتراب. يدخل القومي، فيُفرد له مكان للنوم مع زملاء ينسجم معهم، أو يختارهم هو، وتُعطى له اللوازم المخصصة، ويثقف في قانون المعتقل، وأوقات الطعام، وأنواع التسهيلات، ووسائل الترفيه، فلا يلبث أن يندمج في المجموع، ويغيب في الزحام.
• الأرض التي أُقيم عليها المعتقل أرض كلسية تحتوي على حجارة بيضاء وطرية، ظهر أنها تصلح للنحت. وما إن حصل ذلك الاكتشاف حتى تحوّلت صخور المعتقل إلى منجم، وهرع الكثيرون إلى تقطيع الحجارة وتحويلها إلى منافض للسكاير وشمعدانات للزينة، وآنية للزهور وغير ذلك. وكنت أنا من الذين انصرفوا إلى تلك الهواية الجديدة. البعض، ومنهم الأجانب، طوّروا الهواية إلى حرفة، واستجلب الدهانات المختلفة، وأخذ يلوّن تلك المصوغات ويبيعها للمعتقلين ويصدّرها إلى أهله في الخارج للبيع. ومنهم من جعل منها حرفة مجزية يتعيّش منها بعد خروجه من المعتقل. بين الرفقاء كان أكرم صوفي(4) من طرابلس، وكان خطّاطاً موهوباً ساهم في إضفاء مسحة جمالية على بعض الأعمال.
وبالإضافة إلى الأحجار البيضاء، استعمل البعض أخشاب الزيتون المتوفرة في نطاق المعتقل، لحفر الشعارات وصنع الأدوات المكتبية. فالزيتون يتميّز بمتانة الخشب، ووجود العروق الخشبية المختلفة الألوان التي ما إن تُطلى بالزيت وتتلمّع حتى تبرز روعة الخشب وجمال التلافيف. كادت الزيتونات القليلة الموجودة أن تختفي من المعتقل. حملنا الكثير من التذكارات الحجريّة والخشبية المنحوتة، ومنها ما لا يقلّ روعةً عن المصنوعات التي يُتقنها المهنيّون.
افتتح المعتقلون في أوائل عام 1942 دكّانين داخل المعتقل، تُؤمّن بواسطتهما البضائع من الخارج. صاحباهما الرفيقان الياس قدسيّة(5)، وصلاح الشيشكلي. وصلاح هو شقيق أديب رئيس جمهورية الشام في الخمسينات. كما تألفت شركة لغسيل الثياب وكيّها، وللاستحمام بالماء الساخن صاحباها عبد الرحمن بشناتي(6)، وعيسى حماده(7). الخدمات لقاء رسم محدّد.
أخذت حياة المعتقل، مع الوقت، طابع حياة قرية صغيرة تتأمن فيها أكثر الحاجيات. فيها حلّاقون وخياطون وأصحاب متاجر، وأخيراً شركة لغسيل الثياب والاستحمام، إلى جانب زراعة الخضار وصناعة المنحوتات الحجرية والخشبية، والاستشفاء والطبابة، ودروس اللغات والمطالعة، والمباريات الرياضيّة وفرق الموسيقى والإنشاد. حياة يتمناها الكثيرون لولا الهموم الأخرى المختلفة التي يسببها الاحتجاز، وقد تكون هموماً بسيطة عند البعض تتجاوزها حسنات المعتقل الأخرى أو إمكانات العمل المربح.
تسلّم بشير فاخوري إدارة المستشفى في العشرين من شباط. وبخبرته كصيدلي متمرس استطاع أن يؤدي خدمات كثيرة لسائر المعتقلين، يحدوه إلى ذلك حب خاص للناس وللخدمة العامة. المستشفى عبارة عن "كامب" طويل من التنك، مقطّع من الداخل بحواجز الخشب المقوّى. هناك غرف للاستشفاء، وغرفة للطوارئ، وغرفة للأدوية، وغرف للاستقبال والإدارة. وكان يعاون بشير (الأمين لاحقاً) بعض المعتقلين أصحاب الخبرة. الأدوية متوفرة بشكل مقبول. كان في المستشفى طبيب أسنان، وأطباء عامون.
• كان يوم الثالث والعشرين من شباط 1942 يوماً مشهوداً في حياة المعتقل. فقد جاء من سجن القلعة العسكري نعمة ثابت، ومأمون اياس، وجبران جريج، وزكريا اللبابيدي، وفارس معلولي، وعجاج المهتار. استقبلنا الرئيس ثابت وصحبه عند الباب استقبالاً رسمياً، وأُدّيت لهم التحية، ثمّ أُفرغت لهم أمكنة خاصة، وأُدمجوا في التنظيم العام. أصبح مأمون اياس المسؤول الإداري، وظلّ أنيس فاخوري مسؤولاً عن إدارة الإعاشة والمطبخ.
أقمنا احتفالاً ليلة أول آذار 1942 في ذكرى مولد سعاده، دُعيَ إليه الاصدقاء من المعتقلين. كان عريف الاحتفال مأمون اياس. ألقى الرئيس ثابت خطبة ارتجالية عن تاريخ الحزب، وأنشدت فرقة الانشاد بعض الأناشيد. وُزّع الشاي والحلوى، ثم قام البعض إلى رقص الدبكة.
• بوجود المسؤولين الحزبيين الرئيسيين معنا ازدادت الندوات الجدلية مع بعض كبار المعتقلين. كانت فرصة ليتفهّم هؤلاء مبادىء الحزب ومراميه. الدكتور كريم عزقول(8) الذي وفد علينا لاحقاً، وهو شقيق الرفيق المحامي نظمي، اعتنق العقيدة القومية أثناء الإعتقال، وأصبح فيما بعد، وحين خروجه من المعتقل، مسؤولاً فاعلاً لعدّة سنوات تسلّم خلالهاعمدة الإذاعة.
• مع تسلّمه المسؤولية الإدارية الحزبية، نشط مأمون اياس في رعاية القوميين من النواحي النفسية والمادية والمسلكية. أخذ يعقد الاجتماعات المتتالية في الغرف. يجمع ساكني غرفتين أو ثلاث في كل مرّة، ويتكلم فيهم عن وجوب التحلّي بالسلوكية الجيدة، وأن يكونوا قدوة في تصرفاتهم وفي تحمّلهم لآلام الاعتقال. كان يطلب من كل واحد منهم أن يُطلِعه شخصياً على مشاكله ليساعد على حلّها. مثل تلك الأحاديث كانت تساعد على التماسك والانتظام.
بوجود صلاح الشيشكلي ومنير الملاذي، وهما ضابطان سابقان في الجيش الشامي، بدأ القوميون، خلال شهر نيسان من عام 1942 بالقيام بتمارين رياضية قاسية كتلك التي يقوم بها الجنود. ابتدأت التمارين بشكل جماعي، ثم انقسم المجموع إلى ثلاث فرق على رأس كل منها مسؤول. تسلّم جبران جريج ووليم سابا وأنا رئاسة الفرق الثلاث، وظلّ صلاح المشرف العام، يساعده منير. بدأ التنظيم العسكري يتناول حياتنا كلّها، فجرى نظام للحراسة على غرف القوميين. ولم يكن في الواقع من مُوجب للحراسة سوى التمرين التطبيقي للقواعد العسكرية وإدخالها على الحياة اليومية. وكذلك دخل نظام الجنديّة إلى الأمور العامة، فانتظمت أوقاتُ النوم والاستيقاظ والطعام والغسيل والاستحمام. أصبح حلّ المشاكل اليومية يخضع لنظام الفرق، وبطريقة التسلسل، وكذلك أخذ القرارات وتطبيقها. ساعد ذلك كثيراً على ضبط الأمور، وتحجيم الانفلات، وبالتالي على تدارك الضعف النفسي عند البعض، والمتوقع في مثل تلك الأحوال. توفي صلاح شيشكلي في حادث سيارة أوائل شهر تشرين ثاني عام 1979.
الانضباط في تلك الحالة، بالإضافة إلى تأثيره الحسن على حلحلة الأمور الحياتية الفردية، كان له نفس التأثير على الروحية العامة. كان الذين اصاب نفوسهم بعض الضعف والارهاق يشعرون بأن بينهم عيوناً تسهر على راحتهم وتتعهد نفوسهم مثلما تتعهّد أمورهم المادية.
• جاءنا في العاشر من أيار 1942 دفعة من المعتقلين القوميين من جل الديب والزلقا في ضواحي بيروت الشمالية، بلغت ثلاثة عشر أكثرهم من آل أبو جودة، وبينهم مسعد حجل (الأمين ورئيس الحزب لاحقاً) أقمنا لهم في الأسبوع التالي حفلة عشاء تكلّم فيها الرئيس ثابت وأنيس الفاخوري، وألقى عجاج المهتار (الأمين، الشاعر)، من فرقتي، قصيدة زجلية كانت فرصة للمحافظة على المعنويات ومساعدة الوافدين الجدد على تقبّل حياة الاعتقال الجديدة عليهم. مسعد أصبح نجماً رياضياً في قذف الكرة الحديدية، وكان نجماً اجتماعياً في دماثة الخُلُق وشفافية الروح وحُسن التصرف. مسعد لم يمكث طويلاً، فقد أُخلي سبيله في الواحد والثلاثين من تموز من ذلك العام مع عيسى حماده ونجيب حريق. ولحفظ التوازن وفَدَ علينا من الكورة ألفرد خوري، وأنيس خوري، وجورج نادر.
• كان يوم السابع عشر من تموز يوماً مشهوداً في حياة المعتقل، فقد أقيمت فيه حفلة رياضية للألعاب بكثير من العناية والتنظيم. تبارى فريقان، هما فريق السهم ورئيسه توفيق البربير، وفريق الصاعقة وأنا رئيسه. خطّطنا جيداً لإقامة الحفلة، فرتبنا صفوف الكراسي، وقدّمنا بعضها ليجلس عليها "الادجدان"، مدير المعتقل وكذلك الفونس بشير الذي عُيِّن مديراً داخلياً، وأفردنا أمكنة مناسبة للرئيس ثابت وكبار المعتقلين. حضر ذلك الحفل أيضاً جميع المعتقلين من رجال ونساء وأولاد، وأُفردَت لهم أمكنة ضمن الامكانات الموجودة، والكثيرون افترشوا الأرض.
استمر الاحتفال الرياضي يومين، في الأول منهما جرت مباريات القفز العالي والعريض والثلاث قفزات، وقذف الكرة الحديدية. وكالأعور بين العميان جئت مجلّياً في المباريات الثلاث الأولى منها وجلّى مسعد حجل في قذف الكرة الحديدية. وفي اليوم التالي جرت مباريات الركض السريع وسباق الأكياس والركض الطويل والحواجز. ويوم الأحد في السادس والعشرين جرت مباراة لكرة القدم بين الفريقين المذكورين.
• في السادس من أيلول 1942، وفد علينا علينا فؤاد أبو عجرم والدكتور محمد أمين تلحوق والدكتور كريم عزقول (دكتوراه فلسفة من ألمانيا) وكانوا في سجن راشيا، وفي اليوم التالي جاءنا أديب قدورة.
تركت مكاني في تلك الليلة لكريم عزقول ريثما يتدبّر مكاناً دائماً للإقامة بيننا، فهو صديق لنا وشقيق للرفيق المحامي نظمي. عامله المسؤولون معاملة خاصة، وكانوا يكنّون له الاحترام والمحبة، وكان هو يبادلهم ذلك.
فؤاد أبو عجرم، وهو صيدلي وخرّيج الجامعة الاميركية في بيروت، كان ذا شخصية صارمة إلا أنها محبّبة. وجوده أعطى دماً جديداً، وساعد على بث الانضباط والألفة. عاون مأمون إياس وأنيس فاخوري في إدارة شؤون القوميين، فكان محبباً للجميع، وصارماً مع الجميع. تلمح صفاء نفسه وهو يقطب حاجبيه، وتتراءى لك ابتسامته المكبوتة من وراء ملامحه المتجهّمة. يغضب كالأسد، ويرضى كالطفل. كانت تُسنَد إليه المسؤوليات الحزبية الكبيرة، وكان أكثر ما يُكلّف بالاتصالات السياسية. رافق سعاده قبل توجهه إلى المهجر، ورافقه بعد عودته. توفي فؤاد في حادث سيارة غير متوقع خلال عام 1957.
• في الحادي عشر من أيلول خرجت دفعةٌ من القوميين بلغت الأربعة عشر، بينهم حسين منصور، وعجاج المهتار، وعبد الرحمن بشنّاتي، فساورنا أملٌ جديد بقرب الإفراج عنا. إلا أن ذلك الأمل ما لبث أن غادر، إذ وردت على المعتقل دفعةٌ من القوميين في الثاني من تشرين أول بينهم عبدالله سعاده، وكان تلميذ طب في الجامعة الأميركية، ونهاد حنّا(9). عبدالله اندمج في الحياة الرياضية للمعتقل، ودخل فريق الكرة الطائرة، وكان يوقظني باكراً في بعض الأحيان للنزول إلى الملعب. كتب مسوّدة طلب إخلاء سبيل للجنرال كاترو، وطلب إليّ إعادة كتابتها، وبعد مرور بضعة أسابيع سألت عبدالله عن مصير ذلك الطلب، فأخبرني أنه أحيل للحفظ.
لم يلبث عبدالله طويلاً في المعتقل، فقد نجحت محاولةٌ أخرى لإخلاء سبيله، فخرج من المعتقل في التاسع عشر من كانون الأول من ذلك العام ليتابع دراسته الطبيّة. ترافقتُ وعبدالله في المسؤوليات الحزبية حتى عام 1957، فكنت معه في المجلس الأعلى للحزب ومجلس الأمناء ثم افترقنا دون ضغينة، على اجتهادات مختلفة وهامّة، ممّا سيأتي تفصيله في حينه.
• في الثاني من تشرين ثاني وفد علينا اسد الأشقر، وفي اليوم التالي جاء عبدالله قبرصي. أسد استسلم بعد طول مطاردة، وبعد أن احتلّ الفرنسيون بيته وسكنوا فيه. وعبدالله قدّم نفسه للاعتقال بعد أن سُدَّت في وجهه سُبُل التحرّك، وبعد أن شدّدت قوى الاحتلال الفرنسي الضغط على قريته في الكورة، وعلى أهله هناك. مع كل وافدٍ جديد يزداد التشاؤم من الوضع، وتغيب بعض الآمال في الإفراج عنّا. ملاحقة القوميين، والإصرار على اعتقال المسؤولين منهم لا تفسير له سوى أنّ قضيتنا معقدة، وأن السلطة تخاف من حرية العمل الحزبي، وليس أضمن لها من وضع القوميين ضمن جدران المعتقل، فيرتاح بالُها، وتُقفل باباً تأتيها منه الرياح.
• جاءنا في الرابع من كانون الأول 1942 نبأ أنّ بنيّة الفرنسيين إبعاد المسؤولين الحزبيين الرئيسيين إلى قلعة راشيا، فأضاف النبأ إلى معاناة القوميين بُعداً جديداً، وأوصد أمامهم أبواب الأمل بانفراج قريب، وظلّلت القوميين غيمةٌ من الأسى العميق. أُبعِدَ إلى راشيا كل من نعمة ثابت ومأمون إياس وأنيس فاخوري وجبران جريج وزكريا اللبابيدي، وأصبح فؤاد أبو عجرم المسؤول الحزبي الجديد، وتسلّمتُ أنا إدارة المطعم والإعاشة. كنت أحتفظ ببعض الأوراق الحزبية السريّة سلّمني إياها الرئيس نعمة ثابت، فطلب إلي إتلافها قبل رحيله إلى قلعة راشيا. ودّعنا المسؤولين الراحلين وداعاً رسمياً ووقفنا صفاً نظامياً واحداً وأخذنا لهم التحية.
• في راشيا التقى المسؤولون هناك بعض القوميين وبعض نزلاء المية ومية السابقين، أمثال مصطفى السباعي ومعروف سعد. ولم تكن حياة الاعتقال في راشيا سيئة إلى الحد الذي تصورنا. وقد وفد على القلعة يوم الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1943، وبرسم الاعتقال مسؤولو الدولة اللبنانية. اعتقلهم الفرنسيون بعد أن أظهروا نيّة بالتخلص من الانتداب الفرنسي. اعتُقل بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وعادل عسيران وسليم تقلا وعبد الحميد كرامي، واستطاع المسؤولون القوميون هناك من التخفيف عن هؤلاء الزعماء اللبنانيين، وتشديد عزائمهم بتزويدهم، رغم الرقابة المشدّدة المفروضة عليهم، بالأخبار اليومية لما يجري في الخارج من انتفاضات ضد الفرنسيين.
• حياة السجون والمعتقلات وفّرت للقوميين خبرة في التوصل إلى معرفة ما يجري في الخارج وفي التعامل السلس مع القيّمين على أمور السجن بحبث يتيسّر الاتصال بين نزلاء الغرف المختلفة، وبينهم وبين الخارج رغم وجود العيون الساهرة. عن الأحد عشر يوماً التي قضاها أركان الدولة اللبنانية في قلعة راشيا ألّف جبران جريج كتاباً(10) قصّ فيه مجريات تلك الايام التاريخية ودوره في تأمين الاتصال بين أركان الدولة والخارج، مما ساعدهم على اتّخاذ القرارات الشجاعة بعد أن تأكدوا من التفاف المواطنين حولهم. اشتكى جبران في آخر كتابه من تجاهل بشارة الخوري ورياض الصلح للخدمات الحساسة التي قدّمها لهم هو وقوميو معتقل راشيا، فهم وإن قدروها حق قدرها أثناء الاعتقال، إلا أنهم ماطلوا بعد خروجهم في الإفراج عن القوميين كما وعدوا.
الاتصال بين معتقل المية ومية وسجن راشيا استمر، إما بواسطة البريد العادي، وإما بواسطة الرُّسل من مأموري السجن وأفراد الدرك والأمن العام الذي كان لنا بينهم أكثر من صديق ورفيق. وعن طريق هؤلاء كنّا نتلقى أخبار القوميين السجناء، ونطلعهم على أحوالنا. الرسائل التي ترسل بواسطة البريد الرسمي تكون مفتوحة يطّلع على محتوياتها موظفو المعتقل، وهي عادة لا تتضمّن سوى ما تسمح به المراقبة من أخبار عاديّة. أما الرسائل التي تذهب بالوسائل الأخرى فمحتوياتها محرّرة من كل قيد، وتتضمّن كل ما يريد المعتقلون أن يقولوه بحرية وصراحة. وتكون مسؤولية الوسيط، في حال وقوع هذه الرسائل بيد الرقيب، مساوية لمسؤولية المرسل.
• استمرّت حياة المعتقل خلال عام 1943 رتيبة الإيقاع، بطيئة الخُطَى. الوافدون قليلون، والخارجون قليلون. المحظوظ هو الذي يستطيع وضع أعصابه في ثلاجة، كما تُوضَع اللحوم التي تأتينا إلى المعتقل من نيوزيلاندا وأستراليا. ما نفعُ الهياج، وماذا تفيد الثورة والاحتجاج.
الذي يحزّ في النفس إنك جامد في مكانك، فترى الأيام الهالكة تمرّ من أمامك فلا تستطيع أن توقف دورة الزمن، ولا تستطيع أن تلحق بالركب. تمرّ بك الأحداث وتتجاوزك وأنت مسمّرٌ في مكانك تتطلّع إليها فتخلّفك وراءها دون اكتراث.
الأخبار التي تأتي بها الجرائد اليومية هي التي تحمل بين طيّاتها بعض النور. الأمل معلّق بانتهاء الحرب مهما كانت نتائجها. في أواخر عام 1942 حملتْ الأنباء خبر نزول الأميركيين في شمال أفريقيا واحتلال الجزائر، ونزول القوات البريطانية في تونس. بدأت الهزائم اليابانية في الشرق، وبدأ الهجوم الروسي في القوقاز، وتراجع الألمان عن ستالينغراد. ومع بدء العام الجديد رُفِع الحصار عن لينينغراد، واحتلّ الجيش الثامن البريطاني طرابلس الغرب، واستسلمت بقايا الجيوش الألمانية مع المارشال فون باولس، في ستالينغراد، وتراجع الألمان في كل مكان، كل ذلك خلال شهر كانون الثاني وشباط من عام 1943.
في تموز 1943 غزت قوات الحلفاء جزيرة صقلية، واستقال موسوليني في الخامس والعشرين من الشهر، وبدأ الغزو للبرّ الإيطالي في الثالث من أيلول، واستسلمت إيطاليا في الثامن منه، وجرى اجتماع في طهران بين روزفلت وستالين وتشرشل في السابع والعشرين من تشرين ثاني، وبدأت نهاية الحرب بالاقتراب، وكبر الأمل بالإفراج عنّا والعودة إلى الحياة الطبيعية، والمشاركة في الحياة العامة.
مظاهر الاستقلال
مع خروج أركان الدولة اللبنانية من معتقل راشيّا في أواخر تشرين ثاني قوي الأمل بحلحلة مشكلة اعتقالنا. تغلّب التيار البريطاني على التيار الفرنسي في البلاد، وخرج هؤلاء الأركان ليركبوا الموجة الجديدة، وليستقبلهم الشعب بالمظاهرات والابتهاج. وأعلن استقلال لبنان في الثالث والعشرين من الشهر، وكان لا بدّ أن يُنظَر في أمرنا، خصوصاً وأنه قد نشأت علاقة شخصية، كما ذُكر سابقاً، بين رجال الدولة هؤلاء وبين مسؤولي الحزب في راشيا، الذين قدموا مساعدات إخبارية جليلة إذ وضعوا رجالات الدولة في جو البلاد الصحيح، وجنبوهم القرارات المترددة التي كان يمكن أن يتخذوها بناءً على رؤية متشائمة وغير واضحة، عمّا يجري على الساحة اللبنانية. ويظهر أن وعوداً شفهية بالإفراج عنّا قد قُطعَت للمسؤولين القوميين حال الإفراج عن بشارة الخوري ورياض الصلح وزملائهما.
ما كاد عام 1943 يقترب من نهايته حتى أخذت جموع القوميين تُخلي المعتقلات والسجون. ومع إطلالة عام 1944 انفك ارتباط القوميين بالغرف المظلمة، وقد وُضِع أكثرهم قيد الإقامة الجبرية يثبتون وجودهم مرة في الأسبوع أو الشهر، كلٌّ في مركز إقامته.
"... زوجته سورية كرم، أخت الرجال، كانت تعاونه في المصبغة والمطعم، وحين اعتقل في المية ومية عام 1940 كانت تحمل إليه الزوادة وما يلزمه من أغراض على دراجتها الهوائية العادية، تقطع بها مسافة غير عادية.
هذا ما يرويه الأمين ابراهيم يموت عن الرفيقة سورية كرم عقيلة الأمين عجاج المهتار في الصفحة 62 من مجلده "الحصاد المر".
ومثلها كانت الرفيقة رؤوفة خوري عقيلة الأمين أسد الأشقر، تنتقل على دراجة هوائية إلى المية ومية ناقلةً الزوادة إلى الأمين أسد.
كلتاهما، يحكى عنهما الكثير. عرفتهما وعرفتُ تميّزهما، مناقب، وجرأة، وإيماناً فذّاً، وحضوراً رائعاً، وقدوة لكل رفيقة، ولكل امرأة في شعبنا.
تحية لكِ يا رفيقة سورية. تحية لكِ يا رفيقة رؤوفة، يا حزباً عظيماً فيه عظيمات. أنتما من بين اللواتي نفخر بهنّ ونعتز ونطرب ".
*
كان الأمين يوسف الدبس(11) من بين الذين اعتُقِلوا في "المية ومية". يروي في الصفحتين 68 – 69 من مؤلفه "في موكب النهضة" التالي: " كان قد مضى على وجودي في معتقل المية ومية سنة ونصف وقد انتهت الحرب العالمية الثانية وانتخب بشارة الخوري رئيساً للجمهورية اللبنانية وطالت إقامتي في المعتقل وأحسست بشوق كبير لاستعادة حريتي والعودة الى الاهل والاحباء والى البقاع وسهله وهوائه والى الحبيب الذي كنت اتغنى بجماله وعذوبته وأغرق بمحبته وحنوه.
" في تلك الامسية من شهر ايلول خرجت الى زاوية المعتقل بجانب الشريط الحدودي وجلست على حجر صغير فسمعت اجراس قرية مغدوشة ترن في أذني والوادي الكبير يردد هذه الاصوات وقرية المية ومية تعج بالناس والهرج والمرج والصبايا يزغردن ويغنين وصوتهن يدوي في تلك البقعة كلها وراعي غنم يحمل قضيباً طويلاً تحت أبطه والشبابة في فمه يخرج منها نغماً شجيّاً ناعماً حزيناً.
" كل هذا ذكرني بالقرية البقاعية أيام الأعياد فسألت الخفير الذي مرّ امامي بين الشريطين وكان ممنوعاً على المعتقلين التكلم مع الخفير ولكنني كسرت القانون وسألته بلطف وهدوء: "ماذا يجري في المية ومية وما هذا الضجيج ؟ ارجو ان تجاوبني دون ان تلتفت إليّ كي لا يراك احد"، فقال باختصار: "انه عيد الصليب".
" هذه المشاهد أثرت كثيراً في نفسي وتذكرت يوم كنا صغاراً وعندما يأتي العيد كيف نلبس الثياب الجديدة النظيفة ونوقد النار ونقفز فوقها ونسهر حتى ساعة متأخرة من الليل ثم نعود الى البيت ثيابنا ممزقة وقذرة، وكيف تستقبلنا امي وهي تضحك من منظرنا وتقول "ادخلوا اغتسلوا وغيّروا ثيابكم" .
هذه الاشياء كلها مرّت في مخيلتي فاغرورقت عيناي بالدموع وأخذت الذكريات تجول في رأسي حتى قررت ان أنظم قصيدة زجلية وضعت عنوانها "يا حبيبي".
سهرت تلك الليلة حتى منتصف الليل اضع أفكار القصيدة ومطلعها في رأسي وكنت كل ليلة أجلب الدفتر والقلم الى تلك الزاوية وأجلس على الحجر الصغير حتى اكتملت القصيدة من اربعة مقاطع وكل مقطع عشرة ابيات ".( لمن يرغب الاطلاع على القصيدة مراجعة كتاب الامين يوسف "في موكب النهضة").
*
هوامش
(1) وليم سابا: مهندس. تولى مسؤوليات حزبية عديدة وكان له دوره في بناء دار الزعامة في ضهور الشوير.
(2) الياس سمعان: من المنصف. مُنح رتبة الأمانة. عمّمت عنه نبذة تضيء على مسيرته الحزبية، للاطّلاع الدخول إلى أرشيف تاريخ الحزب على الموقع التالي: www.ssnp.info
(3) بشير فاخوري: من بيروت. مُنح رتبة الأمانة. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى الموقع المشار إليه اعلاه.
(4) أكرم صوفي: من الرفقاء الناشطين في طرابلس. تحدثت عنه في النبذة المعممة عن الأمين سليم صافي حرب. مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.
(5) الياس قدسية: من حلب. عُرف في بيروت باسم الياس مالك. أقام في المصيطبة وأنشأ عائلة قومية اجتماعية منها ابنه الرفيق مالك.
(6) عبد الرحمن بشناتي: مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.
(7) عيسى حمادة: مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.
(8) كريم عزقول: مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.
(9) نهاد حنا: مراجعة ارشيف تاريخ الحزب على الموقع المذكور آنفاً.
(10) روى الأمين جبران جريج قصة اعتقاله، ومسؤولين، في قلعة راشيا الوادي في كتاب بعنوان "حقائق عن الاستقلال، أيام راشيا"، الذي ننصح بالاطلاع عليه.
(11) يوسف الدبس: من دير الغزال. أديب وشاعر. مُنح رتبة الأمانة. مراجعة النبذة بعنوان بدايات الحزب في البقاع الأوسط، على الموقع المذكور آنفاً.
|