عندما اطلعتُ على قرار عمدة الداخلية رقم 239 بإنشاء مديرية في بلدة "برشين" تابعة لمنفذية حماه، تذكرت ما كان يرويه لي الرفيق منير حداد من انه ولد في "برشين" قبل أن تنتقل العائلة الى منيارة، مرمريتا، صافيتا فالقامشلي وغيرها، حسب انتقال الوالد، القسيس البروتستانتي.
هذا ما دفعني لأن أعيد قراءة مؤلف "في الموسيقى السورية" للرفيق الدكتور حسني حداد بعد أن أعادت طبعه "مؤسسة سعاده للثقافة"، وبالتالي الى نشر نبذة تعرّف الجيل الجديد من رفقائنا على احد الافذاذ، الذين اغنوا حزبهم ثقافياً. واني لا انسى ان العدد الاول من مجلة "آفاق"(1) حفل بدراسة قيمة للرفيق حسني.
*
لعل افضل من يعرّف عن الرفيق د. حسني حداد هو ما اورده كل من الامين الدكتور سامي الخوري في الكلمة التي قدّم بها كتاب "في الموسيقى السورية"، والشهادة الصادقة عنه التي قدمها الأمين د. منير خوري واحتلّت الصفحات 15-16-17 من الكتاب المذكور.
بعض ما جاء في المقدمة للأمين د. سامي الخوري:
" في مطلع عقد الخمسينات من القرن العشرين تشكّلت في دمشق حلقة ثقافية من عدد قليل من المثقفين والجامعيين القوميين الاجتماعيين هدفها التعمق في دراسة العقيدة القومية الاجتماعية وحفز روح البحث والدراسة بين اعضائها (راجع: سامي الخوري، أمل لا يغيب ، ص 182 وما بعدها). وكان بين هؤلاء حسني حداد الذي قدم بحثاً مطولاً "في الموسيقى السورية" نشر تباعاً في جريدة "الجيل الجديد" بدمشق في ايار 1952. وكانت هذه الجريدة تنشر معظم الانتاج الفكري الصادر عن الحلقة الثقافية.
" ولما كان بحث حسني حداد جديداُ وفريداً من نوعه فقد أصرّ أعضاء الحلقة والمسؤولون في الحزب السوري القومي الاجتماعي على حسني حداد أن يتوسع في ما كتبه عن الموسيقى السورية ليصبح هذا البحث كتاباً مرجعياً ليس في المكتبة العربية كتاب آخر يطرق هذا الموضوع. وهكذا أخذ حسني حداد بتوسيع بحثه حتى أصبح كتاباً كاملاً نشرته "الجيل الجديد" تحت عنوان : في الموسيقى السورية:
" طرق حسني حداد في كتابه هذا نشوء الموسيقى السورية منذ العصور السابقة للتاريخ الجلي ثم تناول الفن الموسيقي في العهد السومري منذ الالف الثالث قبل الميلاد وتابعه في العصور البابلية والآشورية حتى الوقت الحاضر. ثم درس نشوء جميع انواع الآلات الموسيقية وهي آلات الإيقاع كالطبل والصنوج والدفوف وما تفرع عنها من آلات أصغر حجماً وآلات النفخ كالناي المفرد والمزدوج والمزمار والقرن (Horn) والآلات الوترية واشهرها ما عُرف بالقيثارة (Harp) التي اكتشف نماذج منها كاملة وغير محطمة في مقابر "أور" المكتبة التي تعود للألف الثالث قبل الميلاد وخاصة في قبر الملكة شوباد (راجع ملحق الصور). وليس أدلّ على تقدير السوريين للموسيقى من دفن الآلات الموسيقية مع ملوكهم مما يشير الى تعلق هؤلاء الملوك بالموسيقى وآلاتها.
" احتلت الموسيقى في الحضارة السورية مركزاً رفيعاً وكانت تستخدم في المعابد والحياة العامة والاحتفالات الشعبية وترافق الانشاد الديني. وكذلك كانت ترافق إنشاد الملاحم الأسطورية والملاحم الشعرية مثل ملاحم راس شمرا- أوغاريت.
" تبوأ الموسيقيون مركزاً رفيعاً في المجتمع حتى أنه تمّ تعيين ابنة الملك "نارام سن" كقارعة رسمية للطبل المقدس في هيكل إله القمر في مدينة "أور" عام 2382 قبل الميلاد.
*
شدّد حسني حداد تبعاً لما قاله سعاده إن الانتاج الفكري والفن بجميع أشكاله: الموسيقى والنحت وفنّ العمارة وغيرها هو تعبير عن روح الامة يزدهر في عصور قوة هذه الأمة وينحط في عصور انحطاطها. ولذلك فإننا قد اوردنا مع ملحق الصور مجموعة من مخططات القصور والمعابد منذ الألف الرابع وحتى الألف الاول قبل الميلاد. وتدل هذه المخططات على تقدم الفن المعماري من حيث امتداد القصور والمعابد وتعقيد هندستها، كما تدل المجسمات التي صنعها علماء الآثار لهذه القصور والمعابد على جمال هذه الأبنية وتطورها الهندسي.
" أما النحت والتصوير، فإننا قد اخترنا الفن السوري في العهد الآشوري كمثال لدراسته وذلك لما يتمتع به من ديناميكية وحيوية الحركات وخاصة لوحات صيد الأسود التي تمتاز بالواقعية القصوى والدقة التشريحية في أداء اجسام الحيوانات. ومن أفضل هذه المنحوتات منحوتة "اللبوة المحتضرة" التي وجدت في قصر آشور بانييال وتعتبر قمة في الأداء الفني القديم. وكذلك تمثال وجه امرأة من القرن الثامن قبل الميلاد ويُعرف بين علماء الآثار بالموناليزا وكان محفوظاً في متحف بغداد.
" ومن افضل الابحاث في الفن السومري البحث المطوّل الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي اندريه مالرو في مقدمة كتاب "سومر" وقارن فيه هذا الفن مع تماثيل أوروبية حديثة. ولخص نظرته للفن في ما بين النهرين حين قال إن هذا يشكل "سلسلة متصلة من الحلقات ليس بينها أي إنفصام بل استمرارية تامة وتطور مستمر".
" ومن ابرز الأدلة على تقدير السوريين للفن والفنانين تمثال أور- نانشه أو أور- نينا (حسب قراءة أخرى) كبيرة المغنّيات في بلاط الملك إيبول – إيل الذي يُعتبر أفضل تمثال أنتجه الفنانون في مدينة "ماري" من حيث تناسق الأبعاد الثلاثية ودقة التعبير. وتقع مدينة "ماري" السورية على نهر الفرات وتُعتبر أحد امتدادات الحضارة السومرية وهذا التمثال موجود حالياً في متحف دمشق ( راجع ملحق الصور).
" كان السومريون أول من جمع الألات الموسيقية : آلات النفخ والآلات الوترية وآلات الايقاع معاً لتؤلف مجموعة موسيقية كاملة أو ما يعرف حالياً بالأوركسترا، كما كانوا اول من استخدم الموسيقى في المسيرات العسكرية (راجع ملحق الصور).
*
" بعد أن هاجر حسني حداد الى اميركا التحق محاضراً بجامعة شيكاغو حيث درّس موضوع الموسيقى السورية وألقى العديد من المحاضرات التي لم نتمكن من الحصول عليها للتأكد مما اذا كان قد عدّل شيئاً على ما ورد في كتابه عام 1952 ولذلك بقي الكتاب على حاله.
" هذا الكتاب بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على طبعته الأولى، لا يزال مرجعاً قيّماً في الموسيقى السورية فخماً رائداً لدارسي الموسيقى وتاريخ الحضارات اذ ان أثر الموسيقى السورية قد امتد الى اليونان، ومنهم الى معظم دول العالم.
" وتوضيحاً لبعض النصوص الواردة في الكتاب فإنني قد اخترت عدداً من الرسوم القديمة والمناسبة للنص وأضفتها الى الكتاب في ملحق خاص بالصور مع المراجع التي استقيتها منها. وآمل أن أكون قد أعطيتُ حسني حداد حقه من الاعتراف بفضله.
أتمنى أن تحفز هذه الطبعة الثانية الموسيقيين والمؤرخين لإعادة دراسة هذا الموضوع وإكمال ما يمكن ان يكون بحاجة للتوضيح أو التوسع فيه".
*
حسني حداد كما عرفته
للأمين د. منير خوري
" الدكتور حسني حداد، رفيق وزميل وصديق، وكانت شخصيته تلامس، او تكاد، العبقرية بكل معاني الكلمة.
تعرفتُ اليه لأول مرة في مدرسة طرابلس الإنجيلية زميلاً في التعليم للصفوف الابتدائية، وكنا لم نزل في مطلع العشرينات، وقد تميّز حسني بموهبة العزف على العود والبيانو معاً. وكان يعزف، كلما طاب له، بعض القطع الموسيقية التي كنا نحبها كلانا. وكنتُ أحاول مرافقته بالعزف على العود قدر طاقتي وإمكاني في ذلك الحين ولا أعرف كم سبقته في الإيقاع، أو سبقني. ولكنها كانت لحظات نادرة في المشاركة بالإمتاع والتذوق.
" كانت هذه بداية علاقتنا الشخصية التي انطلقت من منطلقات سعاده القومية الى أن توطدت جدياً مع الشغف الموسيقي والنضال لأجل تحقيق مبادئ العقيدة القومية الاجتماعية...
" أما حسني، وهمّه الأكبر تركّز على كيفية الحصول على "مفتاح" المعرفة وولوج الابواب الجامعية، كما كان طموحه الدائم القفز فوق عائق السنوات الأربع الأولى التي كان على كل طالب جامعي التدرج فيها كشرط أساسي للوصول الى الدراسات العليا الجامعية.
" كانت هذه المرحلة الأولى من توطيد العلاقة الشخصية بيننا.
" أما المرحلة الثانية فقد بدأت في مطلع الأربعينات عندما دخلت الجيوش الإنكليزية الى لبنان. زارني يومها حسني في قريتي "جبرائيل" وسكن في بيتنا ما يقرب من اسبوع. وكنا نتحدث دوماً عن طموحاتنا المتجانسة وعن كيفية توفر إمكانية ما لإكمال دروسنا الجامعية التي كانت أبوابها مقفلة أمامنا: هو لرفضه الرضوخ للنظام الجامعي الذي يفرض، كما أردفت، على كل طالب جامعي التدرج عبر صفوف الأولى بدءاً من صف الفرشمن الى BA . أما من جهتي فكانت الأسباب المادية تحول بيني وبين إكمال تحصيلي الجامعي. وهكذا كنا نتبادل اليأس والأمل ونروّح عن النفس بسهرات قروية كان حسني يسهم فيها بعزفه على عودي الذي أصبح رفيقه طوال المدة التي أمضاها عندنا في البيت.
" المرحلة الثالثة من علاقتنا، وكنتُ قد أصبحت أنا في الولايات المتحدة أدرس في جامعة كورنال في مدينة "إيثكا" شمال ولاية نيويورك.
" وصل لعندي حسني وعلامات تأثره الشديد بادية على وجهه دون أن يستسلم لليأس. ثم سألني وطلب مني بالحاح أن أعرّفه الى عميد الجامعة في كورنال والمسؤول عن قبول كل طالب يود دخول الجامعة.
" لبيتُ طلبه فوراُ وعرّفته الى عميد الجامعة الذي استقبلنا بكل حفاوة، وما زلت أذكر تلك المقابلة التي أجراها معه العميد لمدة ساعة تقريباً. وقد أظهر العميد إعجاباً شديداً بما لدى حسني من طاقات فكرية متقدمة جداً في شتى الحقول. إلا أنه لسوء الحظ، وبالرغم من اعترافه أن معلومات حسني تخوّله الدخول الى الصفوف العليا من الجامعة، غير أنه بالرغم من تلك القناعة التامة، أصرّ على أن حسني لا يمكنه دخول الجامعة قبل إكماله السنوات الأربع المقررة من البرنامج الجامعي التقليدي، لأنه اعتبر أن هذا طموح غير مقبول وغير معقول، قياساً بالنظام الجامعي.
وهكذا رفض العميد طلب حسني القفز فوق القانون، والأعراف الجامعية المعتادة.
" خرج حسني، بعد المقابلة حزيناً، ولكن كعادته ليس يائساً...
" عدنا أنا وحسني الى البيت وظلّ يبحث عن مخرج لأزمته الجامعية، وفي اليوم التالي ترك البيت وأعاد التفتيش عن جامعة أخرى حتى وصل الى جامعة شيكاغو التي قبلته، ولم يكن ذلك وارداً في النظام الجامعي لديها، شريطة أن يتقدم للإمتحانات التي يبدو أن هذه الجامعة كانت تسمح بها، وهي امتحانات صعبة جداً.
" أخبرني حسني فور حصوله على هذا الجواب الإيجابي، تلفونياً بأنه يعتبر نفسه محظوظاً بأن يُسمح له، على الأقل بتقديم الامتحانات مهما كانت صعبة.
" هاتفني حسني وأخبرني أنه قدّم الامتحان ونجح بامتياز.
" وهكذا دخل حسني الجامعة في شيكاغو حتى نال شهادة الدكتوراه، كما عُين استاذاً محاضراً عدة سنوات حتى عاجلته المنون.
" ظل حسني في خاطري وفي قلبي أمثولة وعبرة في الإصرار والكفاح لأجل تحقيق الذات وتوسيع مداركه والآفاق في الموضوع الذي أعطاه جذوة عمره وضوء عينيه وشغف قلبه.
" لا يزال حسني في عيني، وبالرغم من الغياب، كما عرفته، يحاول أن يطرق باب المستحيل ليعبر الى النهضة المنشودة التي نرتجيها ".
*
نبذة شخصية
- ولد عام 1923 في قرية "برشين"
- كان والده قسيساً في الكنيسة البروتستانتينية
- حصل على الثانوية العامة في المدرسة الأميركية
- انتسب الى جامعة "شيكاغو" واختار التاريخ القديم في منطقة الهلال الخصيب. وتخصص في دراسة وثائق رأس شمرا وتعلم اللغات الأوغاريتية والأكادية والعبرية ودرس علم الآثار وكانت اطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان "اله العواصف السوري القديم بعل" لكونه يمثل استمرارية الاساطير السورية القديمة والفكر المسيحي والاسلامي. وبذلك حصل على الدكتوراه عام 1960.
- عمل في كثير من الجامعات وصولاً الى جامعة "سان زافير" بشيكاغو حيث تولى فيها رئاسة قسم العلوم التاريخية والسياسية.
- نشر بعض المقالات التاريخية والسياسية وبعض الابحاث وفي عام 1973 قام بنشر كتاب "موقف المؤرخين الغربيين من تاريخ الشرق الاوسط".
- اصدر كتاباً عن تاريخ العالم العربي ليدرّس في كليات ومدارس اميركا وكتب مقالات عديدة عن التأثير الديني على مجرى السياسة الخارجية الأميركية والصهيونية المسيحية.
- صدر له في عام 1948 كتاباً بالإشتراك مع صديقه القس البروتستانتي دونالد واغنر عضو لجنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني تحت عنوان "كل شيء يفعلونه باسم التوراة".
من كتبه، نذكر:
• أساطير الخصب القديمة والمعتقدات الشعبية في سورية
• مؤلف ضخم عن "بعل حدد- الذهنية والمعتقد والطقوس" بالاشتراك مع الرفيق د. سليم مجاعص.
- كان اول رئيس لمنظمة الطلبة العرب وكان احد مؤسسي رابطة الخريجين العرب في اميركا.
- عضو في لجنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني
*
- اقترن من الدكتورة صفية، المصرية الجنسية ورزق منها الدكتور، عالم الذرة وليد .
- اشقاؤه:
• الرفيق د. سامي، الذي اقام في مدينة Las Cruses وكان منتظماً في اقرب فرع الى مكان إقامته: مفوضية الباسو .
• الرفيق المهندس منير: كان ضابطاً في هندسة الطيران في الجيش الشامي، شارك في محاولة الانقلاب في الشام عام 1956. حكم عليه بالسجن لمدة 4 سنوات، وعندما خرج، لجأ الى لبنان وعمل مهندس طيران في شركة "طيران عبر المتوسط TMA"
*
هوامش:
(1) آفاق: مجلة فكرية راقية صدرت في الخمسينات. للاطلاع على النبذة المعممة عنها، الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
|