اذكر أن الرفيق أسامة المهتار قال لي بعد إعداد مؤلفه عن المسيح السوري: أنه اكتشف في أبحاثه ما بين 70 و 80 مفكراً وأديباً من أصول شويرية، شجّعتهُ على الاهتمام، لجهة الكتابة عنهم تباعاً أسوة بما فعل مع ابراهيم متري الرحباني، مؤلف "المسيح السوري".
لست أدري اذا كان الرفيق أسامة قد تمكن من تخصيص وقت كاف لهذا العمل الهام والجبار، عساه يفعل.
بين يديّ "مجلتان"، يحكي كل منهما عن أحد الروّاد من بلدة الشوير، أحدهما عن الرفيق عبده بعقليني شقيق الرفيقة "ليا بعقليني(1)، والثاني عن الناقد والأديب "إيليا حاوي" شقيق الرفيق الأديب والشاعر د. خليل حاوي.
عن كل منهما هذه الاضاءة التعريفية، بادئا بالناقد والأديب إيليا حاوي.
*
"في آذار 2017 أصدرت مؤسسة إيليا حاوي كتاباً بحجم مجلة عرضت فيه للكلمات التي ألقيت في إيليا حاوي في 30 آب 2000، وللكلمات الأخرى في الحفل الذي أقامته "بلدية الشوير و عين السنديانة" في 8/10/2000 على مسرح راهبات القلبين الاقدسين - الشوير إلى مقتطفات من أدب إيليا حاوي وشعره، ومجموعة شهادات لأصدقاء.
من الكلمات الكثيرة والقيّمة، اخترنا كلمة الفنان الرفيق حليم جرداق(2).
ل. ن.
*
حاملُ همّ حياة الأدب الحيّ:
كانت حياته، حياة إنتاج وعطاء مستديمين. صورتهُ المنطبعة في خاطري هي صورةُ أديبٍ متكرّس لأدبه يحمل همّ الأدب الحيّ الراقي في جميع أوجه الفنون من نثر وشعر ومسرح وموسيقى وفنون تشكيلية، ويحمل في الآن نفسه، همّ إيصال هذا الأدب إلى الناس أجمعين وبالأخص إلى الأجيال الشابة الجديدة.
كلما كنت أزوره في بيته، كنت أراه بين كتبه وأوراقه التي كان يسعده أن يجلس إليها الساعات الطوال، لأنه كان يجد راحةً وسروراً في التعب من أجل الكلمة الحيّة المعبرّة عن حقيقة الإنسان والحياة والواقع.
كتب إيليا عشرات الأبحاث والمقالات والكتب في آلاف الصفحات. قصد فيها أن يبرز القيم المعنوية والإبداعات الأدبيّة والشعرية والفنية والمناحي الباقية في شعر عشرات الشعراء القدماء والجدد، من جيل ابن الرومي وأبي تمام، إلى جيل أبو شبكة وإلى جيل خليل حاوي وما بعده. فتناول كلّ شاعر من هؤلاء الشعراء في حياته ومسيرته وتطوّره، وما في نتاجه من الشعر الصافي الحيّ الذي يبقى عبر الزمن، كما تناول بالدرس والتحليل والشرح المدارس والمذاهب والنظريات الأدبيّة والشعريّة في الآداب الغربية، كالكلاسيكيّة والرومانسية والبرناسية والبنائية والرمزية والسريالية والواقعية والطبيعية، مقارناً بينها وبين ما يقابلها في الأدب العربي، إن هذه الدراسات وحدها يستلزم انجازُها حياةَ أديب بكاملها.
غير أن إيليا، إضافة إلى ذلك، تناول مادة المسرح، ابتداءً من المسرح اليوناني القديم المتمثل "باسخيليس" و"سوفوكل" و"يوروبيديس"، فكتب سلسلةً من الدراسات التحليليّة الشاملة إبتداءً من ذلك العهد وإنتهاءً بالمسرح الحديث المتمثّل "ببيكيت" و"يونسكو" وسواهما من المعاصرين، مظهراً ومقارناً الفروقات والاختلافات في المواقف تجاه الأحداث من قبل شخصيات المسرح القديم وشخصيات المسرح الحديث، من جرّاء ما حدث من تغيير وتطوّر في الحالات النفسية الإنسانية عبرَ إلّا من المفاصل بين العهدين.
وعدى عن ذلك كلّه، كتب إيليا في الرواية الطويلة (وهو ما يُسمّى بالانكليزيةNovel) وكتب عدّة كتب ومقالات في تحليل شعر خليل حاوي، وشعر زملاء خليل وأترابه من شعراء الحداثة المعاصرين. كما اشترك مع زملاء له، أدباء، في كتابة العديد من الكتب الدراسيّة المعدّة لطلاب البكالوريا اللبنانيّة. هذا علاوةً عما كتبه في الصفحات الأدبيّة والملاحق الثقافيّة للصحف، وفي المجلات المختصة، في مقالات وأبحاث نقدية تقييمية في قضايا الأدب.
ولا ننسى أن نذكر أنه علّم في الكليات والجامعات على مدى ما يناهز الأربعين عاماً مضيفاً إلى نتاجه الأدبي الكتابيّ، نتاجاً انسانياً في صنع أجيال من التلامذة الشبّان المحبيبن الأوفياء.
انه نّفّسٌ ملحميٌّ هذا النَفَس الذي تملّك إيليا وملأ حياته. وهو نَفَسٌ في العمل والمثابرة والجدّ يذكرنا بتلك الحميّة الأدبية الإنتاجيّة التي كانت لدى رجالات اللغة والأدب السالفين الذين أيقظوا اللغّة العربيّة من نومها الطويل وأسّسوا للنهضة اللغويّة الأدبيّة الحديثة، وأعني بهم البساتنة واليازجيين، وكذلك علماء الشوير أمثال المعلّم ضاهر خيرالله الشويريّ، وابنه أمين، والدكتور جرجس همّام، والدكتور خليل سعاده، والمعلّم ميخائيل صوايا.
أراد إيليا للنقد الادبي أن يكون أكثر وأبعد من مجرّد نقدٍ همُّه الأول نبشُ الأخطاء. أراد النقد أن يكون فناً في النظر المحبّ المقدّر، والمقارنة الشغوفة، والتقييم الرزين المسؤول الذي ينبغي تبيان، ليس فقط ما في السطور، بل كذلك ما بين السطور من معالم الحقيقة والجمال الفنيين، مظهراً المناحي الإيجابيّة التي تساعد على إطلاق الطاقات الإبداعيّة الكافيّة، وإنماء المواهب الواعدة التي تشير إلى مستقبل زاهر عند الكتّاب والشعراء والفنانين الناشئين.
أن النقد في نظره هو الدعوة إلى والحضّ على الجدية والإخلاص في العمل وفي الحرص على المشاعر الكبيرة الصادقة، والأفكار الحيّة النفاذة، والمناقب الانسانية التي ترفع نوعيّة الأدب وتعلّي سقف مطالبه وطموحاته، موفّرةً بذلك المناخات والتربة التي تُطلع الكتّابَ والشعراءَ والفنّانين والمبدعين.
كتب إيليا بروحيّة الأديب المترّهب لأدبه، المحبّ للناس، المتضامن معهم والمشارك بوجدانه وضميره، والمتجاوب مع أفراحهم وأوجاعهم، المترفع عن المظاهر الخارجية، وعن طرق التصرّف والتعامل الفضولية الوصوليّة، وأشكال الوجاهة البرّانية الفارغة المصطنعة.
لقد آمن بالقيم الانسانية وعاش إيمانه بها وإيمانه بالروح وبقوّة انتصار الروح على المادة وعلى الموت. عَرَفَ وخَبر صعوبات الحياة ومشقّاتها، وفي آن معاً إحتفظ لنفسه بفسحة من العفوية ومن الدعابة الحلوة والنكتة الظريفة التي ترطّب الأجواء وتبلسم الجراح.
إننا نفتقدك يا إيليا، لأنك كنت من الذين يمكلون موهبة الصداقة، وعطيّة محبّة الناس، وميزة أصحاب المواقف المبدئيّة الأساسيّة.
نفتقد بغيابك الجسدي عنا، جلسات الودّ والألفة نتبادل فيها الأفكار والتصورات ونتداول في أمور الحياة والأدب والفن، هذه الجلسات التي كانت كالواحات في حياتنا الثقافيّة والأخلاقيّة الآخذة في التّصحر، وكانت أشبه بحلقات الذكر التي ترفع الأنفس على أجواء الفكر والروح العليا، ومناخات العلاقات الإنسانية الخيّرة والبنّاءة المعزّية التي تجعل الحياة جميلة ومحبّبة.
أما أواصر الألفة والمودّة التي كانت بيننا، فاختصرها بجمليتن كتبتهما أنت لي يوم أهديتني كتابك عن خليل (خليل حاوي) في مسيرته وحياته وشعره، قلت: هذا الكتاب هو منك ولك، فأنت بيننا الشقيق الرابع.
فسلامٌ عليك أيها الصديق والأخ الحبيب، وسلامٌ نحمّلك إياه إلى خليل ورحمةٌ من الله وبركات عليكما.
وعلينا جميعاً.
*
بعض من سيرة :
• ولد إيليا حاوي في الشوير سنة 1929 وتعلم في مدارس محليّة ثم دخل دار المعلمين الابتدائية في بيروت وأحرز شهادتها سنة 1949 وشهادة الفلسفة سنة 1952 ثم نال من الجامعة اللبنانية، الليسانس في 1955 ثم شهادة الكفاءة سنة 1959.
انهى التعليم الثانوي أولاً ثم الجامعي في الجامعة اللبنانية وكان صاحب نظرية مميزة في النقد الأدبي. للناقد والأديب إيليا حاوي عشرات المؤلفات يمكن أن نطلع عليها أي مهتم.
هوامش:
(1) ليا بعقليني: عقيلة الأمين الراحل وديع الياس مجاعص الذي كنت كتبت عنه. لمن يرغب الاطلاع على النبذة، الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(2) رفقاؤنا في ضهور الشوير وعين السنديانة، يعرفون جيدا الرفيق الفنان المعروف حليم جرداق، إنما لست أدري إذا كانوا على معرفة بابن اخته الرفيق الفنان هنيبعل سروجي، الذي كان بدأ مشواره، مع الرسم في مدينة مونتريـال، حيث كان استقر والده الرفيق الراحل ميشال سروجي، منطلقاً نحو باريس، حيث أستقر وأسس لهُ حضورا متقدما في عالم الرسم، مقيما المعارض ومحققا نجاحا لافتا.
|