من مؤلفه "قصة الحزب" الصّفحات (96، 97، 98):
يقول كامل بوكامل(1):
كُنتُ آنذاك عضوًا في المجلس الأعلى، ومنفذًا عامًا في الغرب: من ضهر البيدر حتى خلدة، من مرمى الثلج إلى فقش الموج، وراحت تتأكّد أخبارُ بأنَّ الزعيم عائد إلى الوطن وقد يُحدّد الموعد في أول مارس/آذار، فتعاليت على الأسى والحزن بسبب موت أخي، وسمّرت جهدي على الهدف الأقصى، ورحت أُحضّر المنفذيّة للهدف الآتي، جلت على المديريّات جميعًا ونظّمت التفاصيل ودبّرت حالة الاستنفار الأقصى، ودعوت إلى الانضباط التامّ وإلى الانتقال المُنظّم والمُتيقظ إلى المطار وبعده، وإلى الحيطة في جميع المراحل والأماكن.
في الوقت المُقرّر تجمّعت المنفذية في عاليه، وتحرّكنا نحو المطار- بير حسن، في 2 آذار 1947، ويا زوبعة الله معك!!.
وصلنا فشاهدنا ما لم ترَه عين ولا أُذنٌ سمعت ولا عُرفَ استقبال لأحد.
ولم ندْرِ من أين وفدت الناس حتى خُفتُ مما أُشاهد، وكيف لنا أن نراقب وأن نحرس وأن نوطّد الأمن، وكيفَ نحرس الزعيمْ، قال لي عالمٌ في الإحصاء: من هو القادر في مثل هذه الجموع أن يحرس أحد؟
لبنان عدد سكانهِ مليون بين مقيم ومهاجر في العام 1947، الذينَ كانوا في المطار يقاربون مئتي ألف في أدنى تقدير، فما تفسيرُ ذلك؟
واختلطَ القوميّون لأوّلَ مرّة، وغير القوميين، من أعالي الجزيرة الفراتية إلى اللاذقية وحلب وحماه وحمص ودمشق وتدمر وبلاد العلويين وجبل الدروز والمسيحيّين والمسلمين ووادي النصارى والأردن وفلسطين ولبنان ومن الهرمل إلى صور ومن انطاكية إلى سينا ومن بيروت إلى حرمون ومن عكّار إلى عكّا، ما من أحد كان مقدّرًا أنّ الحزب بهذا الانتشار والولاء، ولا بهذهِ الشعبية والتنوع.
وتنوعهُ هو المسألة وهو الأُعجوبة وهو الغاية من كل عمل سياسيّ أم اجتماعي أم عقائدي.
ولم يقدر لا عبد المسيح المنظّم الأعلى ولا أعوانه عسّاف كرم واسكندر شاوري وفكتور أسعد وعثمان ارضوملي ورجا خولي وجورج صليبي وحسن الطويل، ولا الأمن جميعًا أن يفكّروا بتبديلٍ أو تغييرٍ بغيةِ زيادة في الحذر أو اليقظة، هذا البحر الزاخر المنتظم لم يخطر على بال، وحتى العراق- الذي لما يكن "بعد" من عداد الأُمة في المبادئ - كانَ مُمثّلًا موجودًا بوفد عشائري فاجأنا وكأنّهُ عاتب ومستزيد تقرُّبًا، وعرفنا أنّهُ كانَ بإمرةِ رفيق عراقي من الجامعة الأميريكية أقسمَ وانتمى وهو يقول: "سوفَ تُعدّلُ المبادئ يومًا وترجعُ عن هذا الخطأ".
وبأية فرحة كان يختلط الأعضاء بمعرفة وبغير معرفة فكأن الأمة جميعأ تنتقم من مجرمي الأرض الذين قسّموها وشلّعوها . إنه لحشدٍ يخافُ منه وعليه . وكلٌّ يقول : لقد عاد!! ، بلا فاعل ولا مفعول ولا إعراب، لقد عاد، لقد عاد!!
وهدر صوت عساف كرم فلم يسمعهُ أحد، فاعتلى بوسطة وحملَ علم الزوبعة ولوّحَ بهِ مرات حتى ينال الأذن فيأمرهم، أخيرًا أمرهُمْ بالتأهب ببوق البنزين وهَدَرَ: الأمرُ لي.. تأهّب!!! تأهّب!! فمن سَمِعَ تأهّبَ، ومن لم يسمعهُ قلّدَ سِواه، مئتا ألف أكثر!!! من يعرف.
أطلَّ الزعيم عليهم من باب الطائرة، فغصَّ أكثرهُم صمتًا ودموعًا، بلى ساد صمت مرعب فكأن الناس كانوا يرتقبون عجبًا!! وبكى أكثرهم، وهَتُفَت الأرضُ والسماءُ، وترى الناسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى.
وأمّا الحكْم فخاف وتحسّب.
نَزَلَ الزعيمْ درج الطائرة، تقدّم المسؤولون وحيّوا وانتسبوا وسلّموا، وكان اليوم الأعظم، ودوى الهُتافُ: "يا أبناءَ الحياة!! وسَمُعَ الصّدى من طورس إلى السّويس، ومن البحر إلى الصحر، ومن جلقامش إلى العرزال، ومن ميسلونَ إلى اليرموك والقادسيّة، واشتاقَ العراقُ إلى الشام، والله أكبر!!!.. ومَا الزّعامةُ سوى رسالةً وقدوةً وشجاعةً!؟ ومن لا تصدّقون فكيدكم قاتِلَكُم .
أما ساحة البرج فلها حَقُّها بحديثٍ مُفصّل:
ساحة البرج يومذاك، الأحد في 2 آذار 1947، خلت من مطلق سيارة وأكاد أقول من مطلق ماشٍ، فَرُغَ لعلّهُ الأول في تاريخها، لا بيّاع جرائد، ولا عتال ولا بويجي، ولا سيارة فورد بودعسة، ولا بشر آخرون، أديب قدّورة مُنفّذ بيروت كان يدّعي أنَّ جميعَ هذهِ المهن كانت حِكرًا على مُنفذيته، أي على منفذية بيروت، ولم نكن نُصدّقَهُ.. وكان أديب قد راهن- كعادتهِ- أنّهُ في يوم الأحد القادم 2 آذار، لن يكون في ساحة البُرجِ أحد، فلم نُصدّقهُ بِرُغمِ أنهم كانوا يعجّون عجيجًا ليل نهار في البرج وسوة الطويلة، في مركز الحزب الذي لقّبهُ أديب- بعاصمة النهضة والدنيا.
التقيتُ كامل بوكامل يومذاك، في ساحةِ البرج ، قبل تكويعهِ إلى المطار، حول تمثال الشّهداء، فقال لي : لقد ظلمْنا أديبْ قدّورة(2): "لَمْ افهمَ شيئًا". فأكملَ: والله كان أديب على حقٍ، جميع الغلابى هم في منفّذيتهِ، ويُعطيهم العافية!، تفرّج!! الدنيا فاضية، كُلّهُمْ من مبارح مَترسوا في المطار، شو بعد بدّو يخلّصنا من زكريّا اللبابيدي(3)؟، هو أيضأ كان يقول هذا القول لأنه ناظر الإذاعة في المنفذية ويذكر ما نسيه التاريخ، فما صدّقهُ أحد.
لوجه الحق أشهد- أنا شوقي خيرالله: أنَّ محمّد بعلبكي، من عهد بعيد، وخاصةً في السجن بعد المحاولة الإنقلابية الثانية، كانَ يرجو زكريّا ويُكرر عليه، "اُكتب مذكراتِكَ يا زكّور قبلَ أن تنسى(4)!!"، فيتخوّف زكّور من تقدُّمِ العمر ولا يَكتُب لأنه سيبدأ بولادة آدم وحواء، زكّور حَضَرَ عام 1912 هجوم الأسطول الطّلياني على مرفأ بيروت وقصف السنسول، فانتخى القبضايات وهو معهم، وهجموا بالخناجر والعصي وسباحة على الأسطول، ومُنذُ ذلك اليوم قرّرَ زكّور أن يدافع عن البلاد، فلمّا أعلن الشريفُ حُسين الثورة العربية ضِدَّ السلطنة التحق زكّور بالثورة في مكة فعينوه ضابطًا في الجيش العربيّ عِندَ الأميرُ فيصل.
*
الهوامش:
(1) أديب قدورة: للاطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(2) زكريا لبابيري: كما آنفًا.
(3) كامل أبو كامل: من المُميّزين نضالًا والتزامًا، حملَ مسؤوليات عُليا في الحزب، يُصح أن نكتُبَ عنهُ.
(4) مع الأسف، كما كثيرون غيره، لم يترك لنا مذكرات أو مرويات أو سيرة ومسيرة، فرحل وخسر الحزب الكثير من المعلومات المفيدة لتاريخه.
|