لم تتميّز بلدة حينه في جبل الشيخ بالحضور القومي الاجتماعي الذي كان للأمين جميل العريان الباع الطويل في تحقيقه فقط، إنما أيضاً بالمدرسة التي تأسست فيها.
كنا منذ سنوات ابتدأنا الاهتمام بموضوع تاريخ الحزب في حينه، بلدةً ومدرسة. خاصة بعد ان كنا اطلعنا على تقرير كان رفعه الأمين جميل العريان، وفيه يتحدث عن بدايات العمل الحزبي، ودوره فيه. هذا ما سوف نورده لاحقاً في النبذة عن مسيرة الأمين جميل العريان الذي كنت عرفته جيداً، خاصة في مسؤولياته في كل من الضاحية الشرقية وراشيا، وعُرف بتفانيه الحزبي ونضاله وتضحياته. ولأننا قرأنا في تقرير الامين عريان أنه كان وراء انتماء الأمين يوسف فضول(1) فقد اتصلنا بحضرة الأمين الذي سارع الى تقديم تقرير وافٍ وشامل عن الحزب في حينه، نورد معظمه كما وصلنا، مع اضافات مناسبة، مسجلين تقديرنا للجهد المميّز الذي قام به الأمين يوسف فضول.
*
كتب الامين يوسف فضول:
" بلدة حينه هي إحدى البلدات المنتشرة على سفوح جبال حرمون، والممتدة بشكل هلال خصيب من منطقة قطنا غربي دمشق الى منطقة القنيطرة في الجولان.
تتبع البلدة إدارياً الى ناحية حرمون، مركزها مزرعة بيت جن، والى منطقة (قضاء) قطنا، والى محافظة ريف دمشق وتبعد عن العاصمة دمشق حوالي 50 كم.
تقع بلدة حينه على ارتفاع 900 م وما فوق، تحيط ابنيتها بتلة اصطناعية تكوّنت من ركام بلدة قديمة تهدمت بفعل عوامل الطبيعة.
" أما سكانها الحاليون فهم خليط متجانس جداً، قدموا من مناطق متنوعة، وعلى الأخص أتت معظم العائلات من لبنان في زمن لم تكن هنالك الحواجز بين الشام ولبنان، ومن تلك العائلات: آل بشارة وهي من أكبر العائلات وقد قدمت من بلاد بشارة، وآل هيلانة من البقاع الغربي "خربة قنافاز"، وآل مسلّم من زحلة وآل نصار من ضهور الشوير. وعائلات حامد وزهر الدين والحسنية والخطيب من جبل لبنان، وبقيت هذه البلدة عامل جذب لأهالي من لبنان ينزحون إليها في وقت الشدة، وما يلبثون ان يستقرون فيها وما يزالون محتفظين بجنسيتهم اللبنانية كـــ: آل عواد وآل مخول وسواهما ونحن من هؤلاء (فضول).
" تميّز سكان بلدة حينه بوحدتهم الاجتماعية، رغم تنوع مكوناتهم الدينية والمذهبية، يشتركون في الحياة الواحدة، بأفراحها وأتراحها وأعيادها وفي جميع المناسبات ويقفون معاً أمام خطر مداهم أو مصلحة مشتركة، فهم قوميون اجتماعيون بالفطرة.
" ولم يعكر صفاء هكذا علاقة اجتماعية راقية سوى بعض مخلّفات العقلية العائلية العشائرية التي تقوم على قاعدة
" انصر أخاك ظالماً ام مظلوماً "، وقد حدثت نزاعات خلال الاربعينات من القرن الماضي بين افراد من عائلتين كبيرتين في البلدة، أدت الى صدامات دامية، وكانت نقطة سوداء في تاريخ تلك الحقبة. ولكن الأصالة وروحية الإخاء الاجتماعي والوعي القومي الذي أحدثه الحزب السوري القومي الاجتماعي خاصة وحزب البعث والحزب الشيوعي، وهذه الأحزاب الثلاثة فقط عرفها سكان البلدة، هذا الوعي الجديد النهضوي قضى كليّاً على العصبيات العائلية وعلى الأحقاد والضغائن الناتجة عنها، وأخذ البناء القومي ينمو بناؤه، وأخذت الاخوة القومية تفعل فعلها في وحدة الحياة ووحدة المصير والاهتمام بالشؤون العامة لتحسين الحياة ورقيها.
المدارس في حينه:
" انشأت الطائفة الأرثوذكسية مدرسة لم يتعد نشاطها محو الأمية لدى بعض الأفراد وما لبثت أن أغلقت أبوابها، أما الطائفة الكاثوليكية فتعدت ذلك الى انشاء صفوف في المدرسة لغاية الصف الرابع الابتدائي. كان هذا خلال المدة الزمنية التي لم تتجاوز نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وفي بداية الخمسينات انشأت وزارة التربية مدرسة ابتدائية، وعند هذا الحد من التحصيل العلمي يتوقف التعليم في البلدة. ولم يتابع حاملو الشهادة الابتدائية تحصيلهم إلا قلائل جداً من الميسورين الذين يذهبون الى دمشق لهذه الغاية.
" وفي عام 1952 فتحت في بلدة حينه مدرستان: إحداهما باسم مدرسة الهدى، انشأها استاذ من "الرامة" في فلسطين يدعى نقولا حنا، هجّـر مع بعض أفراد عائلته، واستقر في بلدة حينه وسكن بيت خاله وتزوج احدى بناته.
كان الاستاذ نقولا حنا مناضلاً في جيش الانقاذ، وشاعراً ومحدثاً لبقاً وذو ثقافة واسعة. اكسبت هذه المزايا الاستاذ نقولا ثقة الأهالي، التي ترجمت بالعدد الأكبر من التلامذة في مدرسته وكنت أحدهم.
خلال العامين 52 – 53 تدرج عدد من التلامذة تجاوز العشرين الى الصف الرابع متوسط "أي الشهادة المتوسطة" وتقدموا الى الامتحان الرسمي في العاصمة. وعندما أذيعت نتائج الامتحانات على الراديو، لم ينجح من مدرسة الهدى سوى تلميذ واحد وهو يوسف فضول (الأمين يوسف فضول).
عندما سمع الأهالي النتيجة على الراديو، اندفع عدد من الرجال وكان لبعضهم ابناء رسبوا في الامتحان، نحو بيتنا لإعلامنا بالنتيجة ولتهنئتنا، وكان السيد نعمان بشارة (ابو جريس)، يتقدمهم. ولما لم يجدوا أحداً في المنزل حيث كنا جميعاً في الحقل. انتظروا مجيئي، وعندما وصلت وحيداً الى أول البلدة تقدّم المحب نعمان بشارة وغمرني بكل محبة واعتزاز وحنان وهنأني، وهكذا فعل الرجال الآخرون. على الرغم من رسوب ابنائهم في الشهادة المتوسطة، إنّ هذا الموقف من الأهالي لهو دليل هام وتعبير صادق عن نفسيتهم الخيّرة. ومن بعد ذلك احتفلت البلدة بالمناسبة وكان تكريماً اعتزّيت وأهلي واصدقائي به، وكان حدثاً على مستوى البلدة، ثمرة الاهالي بالتقدير والمحبة.
" أما المدرسة الثانية – مدرسة حرمون – فكان يديرها الاستاذ الياس غانم ويساعده استاذ من لبنان يدعى رؤوف الأحمدية(2)، وهو اليوم صاحب مدرسة في الشويفات. كان عدد التلامذة في هذه المدرسة قلائل جداً، ولكن القيّمين على إدارتها مارسوا الصبر والإرادة القوية من أجل تحقيق الهدف المنشود، وكان لهم ذلك بعد عامين حيث تغلّبت العقلية التي سلكت نظام النهج المؤسساتي على عقلية وفعل الفرد، فاستطاعت ادارة مدرسة الحرمون ومن يرعاها أن توحّد المدرستين بإدارتها بعد الاتفاق مع الاستاذ نقولا حنا.
" بدأ العمل بنهج جديد وبهيئة جديدة لتدبير شؤون مدرسة الحزب، على رأسها الرفيق الياس عازار.
استأجرت المدرسة بناء جديداً يتسع لجميع صفوف المرحلة المتوسطة واحتياجاتها الإدارية، واستقدمت الى التعليم فيها اساتذة قوميين من مناطق مختلفة، من الاردن – لبنان – صافيتا – وحوران...
"عيّن الرفيق عبود يعقوب عبود، والد الرفيق الصحفي عساف عبود مديراً للمدرسة. (سننشر نبذة تعريفية عن سيرته ومسيرته الحزبية النضالية في وقت لاحق. ل. ن.)
أحدث هذا الجمع الراقي المعقدن من الاساتذة في البلدة حراكاً ثقافياً مميزاً مع الأهالي – خاصة في الليالي والسهرات، حيث لا راديو ولا تلفزيون ولا نشاطات للتسلية – يطرحون معهم المسائل التي تخص حياتهم، ويقترحون عليهم حلولاً واتجاهات في التفكير، لاقت الرضى والترحيب أكثر من غيرها من قصص التسلية وتمرير الوقت. أسهم هذا التفاعل مع الناس في بعث تفكير جديد في الشأن العام وفي طرق تحسين الحياة العامة في البلدة.
استمرت "متوسطة الحرمون" في عملها حتى نهاية الخمسينات، رغم الضغوط التي تعرّضت لها من السياسة القمعية التي مارستها السلطة إثر اغتيال عدنان المالكي وملاحقة الحزب وأعضائه ومؤسساته.
كانت مدرسة الحرمون الوحيدة في المنطقة التي تخرّج طلاباً يحصلون على الشهادة المتوسطة "بريفه" لذلك كان يؤمها الطلاب من البلدات المجاورة بالإضافة الى بلدة "حينه"، وبلغ عدد التلامذة الذين انهوا المرحلة المتوسطة خلال عقد من الزمن لا يستهان به، وبمجرد حصولهم على هذه الشهادة كان حافزهم الاساسي في الاستمرار لتحصيلهم العلمي، وهكذا صار. حيث فتحت هذه المدرسة الآفاق للأفواج التي تخرجت منها لمتابعة تحصيلهم الثانوي والجامعي. فتحت أمامهم مجالات من الابواب الواسعة على صعيد العمل والوظائف والاختصاصات العالية. فكان لهذا الجيل المتعلم المثقف المتفاعل مع الجيل السابق الأصيل المحب الخيّر والمحارب لكل آفة وعيب والشاهد للحق. هذا التزاوج العلمي الثقافي مع الأصالة والمناقب خلقا العقلية الأخلاقية الجديدة في بلدة حينه، قلّ نظيرها، سطّرت أروع المواقف في اسبقيتها للسعي ولتنفيذ وحدة الاعياد عند الطوائف المسيحية وصمودها وصبرها العظيم في مواجهة الصعوبات التي لاقتها من أهل السلطة الدينية من مختلف المذاهب.
الحياة الاجتماعية:
" كان سكان البلدة منذ مطلع القرن العشرين ولغاية منتصف هذا القرن يعملون في الزراعة ورعي الماشية، وكان الفقراء منهم الذين لا يملكون أدوات الزراعة يعملون كمرابعين لدى بعض الملاكين، ولم يمض وقت طويل حتى استطاع هؤلاء نتيجة تحسين أحوالهم أن امتلكوا عدة الزراعة، وصاروا كغيرهم من الفلاحين يعملون في أراضي الملاكين مقابل تلتي الانتاج لهم والثلث الأخير لمالك الأرض وكان الفلاحون أحراراً، حيث لا إقطاع يتحكم بهم وبأتعابهم، فكانوا ينتقلون من مالك الى آخر وفق مقتضيات مصالحهم.
" كانت العائلات الكبيرة المالكة في بلدة حينه مؤلفة من آل ملّوك، وآل ابو حمد وآل كنج، وهؤلاء جميعهم من دمشق، يليهم عائلات من سكان البلدة كـ آل العريان وآل حامد وآل هيلانة، وهنالك ملكيات صغيرة، يشتريها الفلاحون من كبار الملاكين بعد تحسين أوضاعهم الاقتصادية نتيجة جهودهم ونشاطهم.
" اذاً لا اقطاع في بلدة حينه، ولا ممارسة للعقلية الاقطاعية الفاسدة التي كانت منتشرة في كافة أرجاء الوطن. بل كان يدير ممتلكات كبار الملاكين وكلاء من أهالي البلدة، تميّزوا بحسن التعامل والتعاون مع الفلاحين، وباستقامتهم وصدقهم مع الملاكين، وباهتمامهم بالمسؤولية التي انيطت بهم.
جميع أهالي البلدة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء منتجون، كل حسب قدرته، عندما يبدأ فصل العمل الزراعي تزحف البلدة عند شروق الشمس الى الحقول، وتعود الى القرية عند المغيب، واثناء فصل الشتاء تستمر المرأة بالإنتاج حيث تعمل بالحياكة وصناعة القش "صوان وأطباق" بعضها يستعمل مائدة للطعام والآخر بديع الصنع تزيّنه الرسوم والنقوش لتعلق على الجدران كاللوحات الزيتية المعاصرة.
" وكان الاهالي يذهبون الى بلدة كفرحور لطحن الحبوب وجرشها، حيث فيها مطحنة تديرها مياه النهر الذي يروي بلدتي كفرحور وحينه، ويدير هذه المطحنة رجل أرمني نزح الى تلك القرية إثر مجزرة الأرمن التي افتعلها الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى.
" وفي بداية الخمسينات انشأ أحد الوافدين الى حينه مطحنة يديرها محرك على المازوت، لتصبح هذه المطحنة بعد وقت قصير الوحيدة في المنطقة يأتي إليها جميع سكان القرى المجاورة لطحن حبوبهم.
أما مياه الشرب فيأتي بها الاهالي من الينابيع العذبة القريبة من البلدة، والمياه التي تحتاجه المواشي وللاستعمال في البيوت كانت متوفرة في آبار البيوت والمناطق القريبة منها.
أما المأكل فيكاد يكون موحداً لدى سكان القرية غنيّهم وفقيرهم.
وهو من انتاج حقولهم ومواشيهم وطيورهم وكرومهم، وكان ذلك وفيراً، وكان الأهالي يوفّرون ما يحتاجون إليه من البلدات الأخرى عن طريق المقايضة.
" أما الصحة فكانت هبة الطبيعة منذ الولادة حتى الوفاة، وليس في البلدة ولا في القرى المجاورة أية اسعافات صحية، ولا وسائل نقل تسعف المريض سريعاً، فكانت هنالك بوسطة "سيارة ركاب كبيرة" تذهب صباحاً الى دمشق وتعود بعد الضهر.
أما أعراس القرية وأعيادها ومناسباتها، فيشترك الجميع بإقامة الاحتفالات، كما يشترك الجميع في المآتم، ويتمنعون عن إقامة أي نوع من الاحتفالات خلال اربعين يوماً، وذلك مشاركة لأهل الفقيد في أحزانهم. وأما مقابر الموتى فكانت غرفاً محفورة في الصخر تتضمنها نواويس محفورة في الصخر أيضاً.
إن هذا التوصيف بقي قائماً حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، وأخذ في التغيير بعد ذلك خاصة في نهاية السبعينات عندما دخلت الكهرباء الى البلدة، وكان الأهالي في حالة علمية وثقافية جيدة قادرة على استقبال هذه الطاقة والتفاعل سريعاً معها لنقل البلدة من حالة العصور القديمة الى الحداثة في مختلف النواحي الحياتية، ولتصبح منارة اشعاع، ومراكز خدمات للقرى المجاورة.
*
الحزب السوري القومي الاجتماعي في حينه:
" بعد نجاحي في الشهادة المتوسطة، زارني الاستاذ شاهين بدران، وكان مدرساً في مدرسة الهدى، هنأني بنجاحي، وأبدى رغبة بالتكلم معي على انفراد، لبّيت طلبه، وخرجنا من البيت الى الطريق العام. بدأ حديثه قائلاً: أريد أن أعرّفك على الزعيم. فقلت له: اتعني حسني الزعيم، فقال: لا، الزعيم انطون سعاده. سألته: ماذا يقول الزعيم سعاده. عندئذ تكلم باختصار عن مبادئه الداعية الى وحدة الأمة السورية، والوطن السوري، وعن مبادئه الإصلاحية. لم نقطع مسافة 200م حتى كان تجاوبي مع هذه المبادئ التي كنت أؤمن بها قبل اطلاعي عليها، وانتهى اللقاء عند هذا الحد. بعدها ذهبت الى دمشق لأتابع دراستي الثانوية في مدرسة البطريركية الكاثوليكية في باب شرقي.
اتصل بي أحد اساتذة المدرسة وهو من آل مسابكي(3)، وسألني اذا كنت راغباً في متابعة حلقات اذاعية عن الحزب؟ فأجبته بالإيجاب.
تمّ تواصلي مع طالب الطب من آل هواويني(4)، فتابعت معه منفرداً بضعة حلقات مطوّلة، كان المذيع خلالها طليقاً جداً في حديثه، غنياً بثقافته، لم أفهم الكثير مما تحدث به.
بعد هذه الحلقات سألني إن كنت قد اقتنعت بمبادئ الحزب بعد اطلاعي على مبادئه، فأجبته انني مقتنع وأريد الانتماء.
حدد السيد هواويني الزمان والمكان لإجراء القسم في مكان في شارع القصاع، جرت جلسة القسم بحضور السيد هواويني والاستاذ مسابكي وغيرهما في شهر اذار 1954، وفي الوقت نفسه جرى القسَم لتلميذ معي في الصف الأول ثانوي من آل فرح. وبعد الانتهاء من جلسة القسَم أقبل جميع الحضور على معانقتي وتهنئتي والاحتفاء بي وبرفيقي الجديد.
" في اليوم التالي، ذهبتُ الى المدرسة، وإذ افاجأ بمجموعة من التلامذة الرفقاء، يحيطون بي بحفاوة، ويقبلني كل منهم، مباركين ومهنئين. كانت فرحتي كبيرة بهذه الولادة الجديدة، وبهؤلاء الرفقاء المميزين، ليس في الصف الأول ثانوي فحسب بل على صعيد طلاب المدرسة واساتذتها عامة، وهم من عائلات ميسورة ومعروفة: مسابكي، ندّاف، فرح، حداد....
" احاطني هؤلاء الرفقاء بكل الحب والاهتمام، وكانوا يتحيّنون الفرص لنخرج سوية ونتنزه على طرق الغوطة الشرقية، ونطلق الأناشيد القومية والأغاني البلدية، ويشجعونني على ان أكون البادئ في الغناء، لأنني ابن القرية وألمّ بهذا النوع من الغناء.
وفي نيسان ذهبت الى القرية لاشترك بعيد الفصح مع أهلي، وبقيت في البلدة لأعمل بالزراعة مساعدة لأهلي.
" بدأ نشاطي الحزبي في القرية خلال صيف هذا العام، فاتصلت بأصدقائي – وهم كثر، ودعيتهم للانتماء الى الحزب، وهكذا صار، بعد أن انهوا الاجراءات النظامية، حتى أن أحدهم بلغ به الحماس أن أقسَم يمين العضوية في أثناء الحلقة الاذاعية الأولى.
خلال المدة المتبقية من السنة انتمى الى الحزب ما يزيد على الأربعين عضواً معظمهم لا يتعدى العشرين من العمر، وهم من مختلف عائلات البلدة، وكانت عائلات عازر وبشاره وحامد الرافد الأساسي للانتماءات، والحاضنة لتيار الحزب.
" كانت الاجتماعات الدورية تعقد في بيت الرفيق جميل العريان (الامين لاحقاً)، ويديرها الرفيق شاهين بدران، وبانضمام الرفقاء الجدد الى الرفقاء القدامى في المديرية، أصبحت المديرية تضم 50 رفيقاً، هذه الفورة القومية المباركة في البلدة استقطبت ثقة الرأي العام الذي هلّل لوجودها ولنشاطها ولمسلكها، الذي أضاف الى المسلك الاجتماعي الخيّر في البلدة حجماً جديداً ناصع البياض من التعاون والمحبة والود والإخاء القومي.
وكان التعاون رائدنا، وخاصة في موسم الحصاد: يتأهب القوميون لمساعدة رفقائهم، كل حسب طاقته، بنخوة قلّ نظيرها، ينشدون الأناشيد القومية ومقاطع من شعر الأمين عجاج المهتار:
يا زوبعة الله معك عالموت نحنا منتبعك
قديش منصبر قديش طمعوا فينا وقالوا قلال
وغيرها، حتى أصبحت هذه الأهازيج غناء الحصادين في بلدة حينه، واستمر الأهالي يرددونها الى نهاية الستينات حيث حلّت الآلة محل اليد العاملة في هذا العمل، وعلى الرغم من ملاحقة الدولة لأعضاء الحزب إثر اغتيال المالكي.
وكان للمديرية نشاط سياسي مميّز في الانتخابات النيابية. كانت حينه مركزاً لقلم انتخابي يضم عدة قرى وبلدات، ومنها بلدة عين الشعرة وكان الرفيق محمود جبر مدير مديريتها، وهو فاعل وله حضور اجتماعي هام ساهم مع مديرية حينه في الحصول على أكثرية الأصوات لصالح المرشحين: حسين مريود ابن الشهيد احمد مريودـ، وشقيق الرفيق عصام. والرفيق كمال كنج (ابو صالح) من بلدة مجدل شمس.
" كما اشترك اعضاء المديرية في انتخابات الغوطة النيابية لصالح الأمين المحامي حنا كسواني(5)، وفي دمشق لصالح الأمين عصام محايري، فنجح الأول وذهبنا الى بلدته داريا لنحتفل ونشارك في التهاني وكانت الجموع الغفيرة تملأ الساحات وتقيم الاحتفالات.
هذه الحركة الناهضة للحزب، وفي بلدة حينه لم تدم طويلاً لتأتي بثمارها النهضوية، أن على صعيد الاعضاء أو على صعيد السكان، فقد كان لاغتيال العقيد عدنان المالكي وحلّ الحزب، وما نتج عن ذلك من اعتقالات وملاحقات لاعضاء الحزب في كل الجمهورية الشامية من اثر بالغ على حركة الحرب" .
في حينه راح الأعضاء يلجأون الى المغاور، خوفاً من القبض عليهم والإيقاع بهم، وسيق الكثيرون منهم الى زنزانات المزة و"أقبية" سامي جمعة وعبد الحميد السراج وما يعني ذلك من تعذيب فائق الوحشية .
وقبض سامي جمعة على الرفقاء: يوسف فضول – جريس عواد – فارس كنج ابو صالح. كان الثلاثة يعملون في الشركة الخماسية الواقعة شرقي دمشق.
تلك الملاحقات والتوقيفات والسجون لبعض الرفقاء، والمداهمات لبيوت القوميين في بلدة حينه، وإثارة الرعب والخوف، كان لها تأثيرها في صمود الكثير من الأعضاء، لا سيما أنهم جديدو الانتماء والممارسة على تحمل الصعاب، فانكفأوا وتراجعوا عن متابعة المسيرة.
" أما القلّة الباقية المؤمنة، فقد استمرت بممارسة العقلية الاخلاقية والتربية الاجتماعية العصرية الراقية التي تقوم على مبدأ المصلحة العامة. لذلك انتهى دور الوحدة الاجتماعية الإدارية (المديرية) في وقت مبكر، ولكن فعل بعض الأعضاء الذي جسّد فعل النهضة استمر في جميع أعمالهم ومسؤولياتهم التي اثبتت استمرار الحزب بعملهم وبأخلاقيتهم. ومن هؤلاء الرفقاء:
الرفيق شاهين بدران: مدير مديرية الحزب في حينه، وهو ابن مختار البلدة، ضليع في اللغة العربية، فاستعان به الاستاذ نقولا حنا في مدرسته عام 53. حدث النشاط الحزبي المميز والذي تحدثت عنه سابقاً بإدارته للمديرية واستمر في المسؤولية الحزبية لغاية حلّ السلطة الشامية للحزب.
كان الرفيق شاهين عامر الإيمان بالعقيدة، شديد الإخلاص لها ولمعتنقيها، قوي العزيمة على متابعة النضال لأجل انتصارها.
" تابع تحصيله العلمي، وحصل على الشهادة الجامعية، وسعى للتعليم في أية ثانوية خاصة أم رسمية، قريبة كانت أم بعيدة، ولكن السلطة الرسمية سدّت بوجهه جميع الأبواب.
" أمام هذه الحالة من محاربته حتى في اسباب عيشه، تنازل له والده عن رخصة الدخان والغاز، فكانت مورد رزقه، وتأمين متطلبات عيش عائلته. فكان عمله هذا وسيلة لتعارف الناس عليه من مختلف القرى المجاورة التي ترتاده لتأمين حاجياتها من هاتين السلعتين .
كان يتردد الى لبنان سراً ويزورني من خلال جولاته على الرفقاء والاصدقاء. وكذلك كنت كلما ذهبت الى حينه نلتقي معاً ونتداول في الشأن الحزبي وخاصة عن الوضع في لبنان والحرب الأهلية.
" وأثناء إحدى زياراتي عام 78 للبلدة، أوصل لي سلاماً وتحية، وخبراً أن أزوره في بيته لأن الواشين لا يتورعّون عن الاساءة إليه، وأنه للتو خرج من التحقيق معه في شعبة المخابرات الكائنة في بلدة سعسع. ذهبت الى بيته، واوقفت سيارتي على الطريق العام، ليعرف كل من مرّ من هناك بوجودي عنده. تحدثنا في موضوع الاعتقال ومجرياته وأسبابه، وقيّمنا نتائجه، ووصلنا الى خلاصة إيجابية لهذا الاعتقال، بحيث أن الجميع كانوا يسألون عن سببه، ليعلموا بأن ذلك نتيجة لانتماء الرفيق شاهين للحزب السوري القومي الاجتماعي. فعاد التداول باسم الحزب في منطقة واسعة من قرى حرمون بعد انقطاع طيلة عقدين ونيّف عن ذكر اسم الحزب.
فكان الرأي موحداً بوجوب العودة الى العمل الحزبي بشكل منظم. فسعى الرفيق شاهين للاتصال بالمركز في بيروت. وانتظم العمل الحزبي بشكل سري وبأسماء مستعارة للوحدات الحزبية وللأعضاء.
ولم يمض وقت طويل حتى فاجأت المنية هذا الرفيق الرمز المناضل. وكانت الخسارة كبيرة وهو في أوج عطائه وحيويته، وتوقف العمل الحزبي المنظم ثانية لوقت عقدين من الزمن.
الأمين جميل العريان: عرفته عن كثب خلال العام 54، وكان بيته مقراً لاجتماعات المديرية الدورية، ولجلسات هيئة المديرية، وللنشاط الإذاعي، وللحلقات للمواطنين. وكان يملك محلاً تموينياً، يتجمع فيه الرفقاء للتداول في الشأن الحزبي، وفي النشاطات المزمع القيام فيها.
اتصف الأمين جميل بالشجاعة والمروءة والتعاون والكرم، وكان له دور هام لمصلحة الحزب أثر ملاحقة السلطة للقوميين، تأذت السلطة من جرائه، فأخذت تلاحقه، وتتقصّى أخباره، أما عن طريق مخبريها أو عبر الصحف، حتى أعلنت عن دفع 50 ألف ليرة سورية لمن يرشدها عن مكان وجوده.
مارس الأمين جميل البطولة أثناء العملية الانقلابية في لبنان، وحكم من جراء مشاركته ثمان سنوات. كما تحمّل الصبر على المكاره، وعلى آلام جروحه العميقة باستشهاد ولده الرفيق سعاده، من أجل وأد الفتنة وسلامة النهضة.
أحب الأمين جميل رفقاءه وأهل بلدته حينه، يتابع أخبارهم، يزور مرضاهم عندما كانوا يعالجون في مستشفيات لبنان، وكم صرّح باشتياقه الى زيارة بلدته وناسها، ولكنه أحجم عن الزيارة وقد سنحت له الفرص بذلك، لكي لا يحرج هؤلاء الأحبة ويسبب لهم الضرر، ويوقعهم بالمصاعب مع السلطة. وكانت أمنيته أن يدفن في بلدته حينه، ولكن هذه الأمنية لم تتحقق. (سنتحدث عن الامين جميل عريان في نبذة خاصة نحكي فيها عن سيرته، وعن مسيرته النضالية. ل.ن.)
الرفيق جدعان بشارة: قوي الشخصية، شديد الإيمان بالقضية القومية، وهو من اكبر العائلات في البلدة، يتصف أفرادها بالإقدام. وهو من الأعضاء القلائل الذين لم ينقطعوا عن التواصل معي (الامين يوسف فضول) أثناء زيارتي للبلدة، بينما كان أكثرية الرفقاء يتحاشون ذلك لخوفهم من عيون الوشاة والإيقاع بهم.
كان الرفيق جدعان نموذجاً للعقلية الأخلاقية الجديدة التي تخطّت العصبية العائلية التي مارسها أفراد أسرته. فقد نجحت الثقافة القومية في بناء شخصيته على مبدأ المصلحة العامة، حيث ترجمها أثناء تسلمه مهمات ومسؤوليات تختص بمصلحة البلدة. إن سلوك الرفيق جدعان كان قدوة ومثلاً جيداً، ساعد عملياً المواطنين للإقبال على فكر الحزب والانتماء إليه، ولا بد من التذكير هنا، أن الانتماءات الأولى للحزب كانت بعامل قدوة الأعضاء وسلوكهم الجيد أكثر من عامل الثقافة الحزبية.
الرفيق نقولا بشارة: انتمى الى الحزب عام 54 خلال موجة اقبال الشباب على الحزب، وبعد ذلك بقليل وبعد انتهاء خدمته الإجبارية في الجيش، دخل سلك الشرطة، واستقر في العاصمة حيث قضى معظم خدمته. مارس خدمته بروح المسؤولية وقيم الواجب، ونظافة الكف، فنال محبة الناس وتقديرهم، وهذا ما لمسته بنفسي أثناء تجوالي وإياه في كثير من أحياء العاصمة دمشق بعد تقاعده، كيف يستقبله أصحاب المحلات التجارية بالترحيب والتقدير. كما نال التنويه والتقدير من رؤسائه وصولاً حتى وزير الداخلية بالذات.
" عندما انهى خدمته في الوظيفة، أعلن امام الملأ نهجه القومي الاجتماعي في الوقت الذي لا يزال العمل الحزبي محصوراً والسلطة تلاحق الأعضاء العاملين وغير العاملين.
كان الرفيق نقولا يتابع الاتصال بالقوميين القدامى في الشام وفي لبنان لكي يكتسب المزيد من الثقافة الحزبية، بالإضافة الى مطالعاته الخاصة على التراث الحزبي، فتكونت عنده ثقافة جيدة، وخبرة واسعة وعلماً في الشأن الإداري والقانوني اكتسبه أثناء تأدية خدمته في الوظيفة. فكان لموقعه المادي والعلمي والأخلاقي النصيب الوفير لانتخابه رئيساً لجمعية الفلاحين في البلدة خلفاً لابن خاله الرفيق جدعان بشارة.
قام الرفيق نقولا بأعمال نهضوية عصرية على الصعيد الزراعي، تركت أثراً كبيراً في نفوس الأهالي، وفي تحسين أوضاعهم الانتاجية، حيث سعى ونفّذ مشروعاً كبيراً على مستوى المنطقة، وهو صبّ مجرى النهر الذي يروي سهول البلدة، بالإسمنت من مكان تفرّعه عن نهر "الأعوج" لغاية جداوله المتفرّعة عن المجرى الأساسي في البلدة.
" حسّنت هذه العملية كميّات المياه، ومنعت تسربها عبر المجرى الترابي. ورعى بهمة ونشاط وبسعي دؤوب عملية تسويق الانتاج الزراعي عامة وانتاج اليانسون الذي اشتهرت به حينه كميةً ونوعيةً، خاصة في عموم السوق الشامي وفي لبنان.
" ومن نشاطه المستمر في مهمته ومسؤوليته، السعي والمتابعة حتى تنفيذ تزفيت الطرق الزراعية، ومدّ خطوط الكهرباء الى الحقول لتكتمل بذلك نهضة زراعية في البلدة قلّ نظيرها.
" وعلى الصعيد التنظيمي الحزبي فقد نشط مع بعض الرفقاء في المنطقة التي تضم عدة قرى وبلدات، لتنشأ مديرية مستقلة لها مفوضيات في تلك المناطق. وكان الرفيق نقولا عضواً في المديرية ومفوضاً في بلدة حينه. ليستأنف العمل الحزبي سراً في أواسط التسعينات بعد أن توقف هذا منذ بداية الثمانينات إثر وفاة الرفيق شاهين بدران.
" كان دوره في هذا المجال بمثابة تأسيس للعمل الحزبي في البلدة، فأيقظ الروح القومية في نفوس بعض الرفقاء القدامى، وتابعهم في دمشق وفي حينه، وشحّذ هممهم ليتغلبوا على حالة الجزع والخوف التي تملّكت في نفوسهم على مدى أربعين عاماً ونيّف. ودأب على الاتصال بأصحاب الكفاءات العلمية من الشباب، الذين انتموا الى الحزب وانتظموا في نطاق المفوضية ليضخّوا دماً جديداً وليستعيدوا مجد الخمسينات من النشاط الحزبي في البلدة.
ومن نشاطاتهم الحزبية إقامة الرحلات للقوميين وللمواطنين الى مناطق عدة في الكيان الشامي، وفي لبنان، خاصة بلدة الزعيم ضهور الشوير بمناسبة الأعياد القومية. وبمناسبة الانتخابات النيابية في لبنان كان يتواصل مع الرفقاء والمواطنين اللبنانيين الجنسية ليقوم بنقلهم الى مختلف أقلام الاقتراع التي ينتسبون إليها، لكي يقترعوا لمصلحة الحزب ولوائحه الانتخابية. لقد هيأ الرفيق نقولا (ابو غسان) المناخ المقبول لانطلاق العمل الحزبي، بزخم وعلانية، منذ بداية القرن الحالي، لتتسلم إدارة مديرية حينه الرفيقة (ام معروف) وهي ابنة الرفيق شاهين بدران، الموثوقة والمحترمة من جميع أهالي البلدة، والمحبوبة من رفقائها واصدقائها.
وفي عام 2010 فاجأت الجميع وفاة الصديق والرفيق نقولا بشارة، فكان حزن عميق أصاب رفقاءه وأصدقاءه في الصميم. وجرى له مأتم مهيب، حضره بالإضافة الى أهل البلدة وجوارها، رفقاء من المناطق ومن مديريات دمشق ومديريات محافظة ريف دمشق.
الرفيق الياس عازر: هو من رعيل الاربعينات من القرن الماضي، رجل مرموق في البلدة ورمز في عائلته الحاضنة للحزب، مع الرفيق جريس عازر (ابو كايد) الذي سافر الى الولايات المتحدة مع عائلته، أثناء حركة الحزب الناشطة في البلدة.
تبوأ الرفيق الياس مسؤوليات عديدة منها أمين صندوق الطائفة الكاثوليكية وشماس كنيستها ووكيل مال أحد المتمولين، فساعد على قضاء حاجات بعض الناس ودعم مدرسة الطائفة الابتدائية التي استمرت حتى نهاية الخمسينات.
وعندما توحّدت المدرسة الاعدادية بإشراف الحزب السوري القومي الاجتماعي كلّف بإدارة ماليتها، وكانت زوجته، الرفيقة دورا، تساعده في أمور تصعب عليه متابعتها، فتأتي الى لبنان – إثر حل الحزب في الشام وملاحقة أعضائه لكي تنقل الى الحزب الحالة التي تمر بها المدرسة، وتتزود بالمعلومات والمساعدات المالية التي تحتاجها المدرسة، مما ساعد على تنميتها واستمرارها ردحاً من الزمن على الرغم من الظروف القاسية التي مرّ فيها الاساتذة والإداريون.
في نهاية الخمسينات اقفلت المدرسة أبوابها، وانتقل الرفيق الياس الى لبنان ليستقر في بلدة الزلقا، ولينتظم حزبياً في مديريتها، وليعمل في البناء حتى حصول الفتنة الأهلية عام 75 في لبنان، حينها تعرّض الرفيق الياس كغيره من الرفقاء في منطقة المتن الشمالي لضغوط الانعزالية مما دعاه الى العودة الى دمشق ومن ثم الى حينه ليستقر نهائياً فيها، وليجدد دوره المميّز في عائلته وطائفته ومع رفقائه وسكان بلدته.
فكانت للرفيق الياس المساهمة والمبادرة مع كاهن البلدة من الطائفة الارثوذكسية ورموز البلدة من الطائفتين الارثوذكسية والكاثوليكية في انجاز الحدث الكبير، وهو توحيد الأعياد المسيحية، فكان باكورة المحاولات الوحدوية التي قامت فيما بعد في عدة بلدات في الشام ولبنان. وتجدر الإشارة وبفخر أن هذا الاتجاه الوحدوي لم يتحقق إلا في المناطق ذات الوجود القومي الفاعل في مناقب الجماعة وأخلاقياتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر بلدة صافيتا في الشام وضهور الشوير في لبنان.
توفي الرفيق الرمز الياس عازر بعد معاناة مع المرض، لم تضعف شدة إيمانه بالحزب ومحبته لأبناء الحياة، كما كان يردد، وكان ذلك في بداية القرن الحالي، عن عمر يناهز الثمانين سنة.
فجرى له مأتم شعبي وقومي اشترك فيه القوميون من مختلف المناطق الشامية واللبنانية، لفتت أنظار المواطنين واستحوذ هذا المشهد على اعجابهم بأخلاقية القوميين ومساهمتهم في تكريم رفقائهم.
الرفيق جريس نعمان بشارة: ولد عام 1929، وعمل في الزراعة مع عائلته، وكان محباً وودوداً لاترابه وللصغار. التحق بالخدمة الإلزامية عام 1949، ثم تطوع في الجيش الشامي، وانتمى الى الحزب عام 1953، تخرج عام 1960 برتبة ملازم. تصدى مع رفقائه في سلاح الدفاع الجوي للعدوان الاسرائيلي عام 67، ونال وسام الشجاعة من الدرجة الأولى لإسقاطه طائرة معادية. شارك في حرب تشرين عام 73، تقاعد من الجيش برتبة مقدم عام 75.
استقر في حينه بعد تقاعده ليعمل مع أفراد عائلته في أملاكه الواسعة، وأعلن عن انتمائه الحزبي غير هيّاب من الوشاة ومن رجال الأمن وتدابيرهم.
كان الرفيق جريس (ابو نعمان) شاعراً شعبياً بليغاً في اللغة العربية، لا يترك مناسبة للأفراح أو للأحزان يدعى إليها في الشام أو في لبنان، وكانت تخص القوميين، إلا ويلبي الدعوة.
وكانت قصائده في كلتي الحالتين تلهب مشاعر الحاضرين، حتى طارت شهرته بين الناس، ودوّنت الصحف والمجلات الكثير من قصائده ومراثيه.
التحق الرفيق جريس بقوات الحزب مدرباً ومقاتلاً عام 82 في ضهور الشوير وفي جنوب لبنان، وشارك في مقاومة الاجتياح الاسرائيلي مع الرفقاء الشباب حيث شهد أمامي بشجاعتهم وسرعة حركتهم وفاعليتهم القتالية. توفي الرفيق جريس في بيته بدمشق بتاريخ 20/10/2000 ونقل جثمانه الى بلدته "حينه".
أقام الرفقاء له مأتماً مهيباً. فتجمع بعضهم حول منصة، يطلقون المراثي طيلة ذلك النهار امام حشد كبير من الأهالي، وأنهوا ذلك المأتم بصفوف بديعة النظام، لم يشاهدها الحاضرون من قبل، وفق تراتبية حزبية، رافعين يمناهم زوايا قائمة الى جوار نعش الرفيق الفقيد، يقدمون له تحية الوداع.
كان ظهور القوميين العلني بمناسبة مأتم الرفيق "ابو نعمان"، فاتحة العمل الحزبي المنظم والعلني، وفي الوقت نفسه كان مثار إعجاب الحاضرين من المواطنين من أهل البلدة والجوار، وخاصة كثافة الوجود الحزبي بأعداد فاقت تصورهم.
*
مزيد عن الرفيق جريس بشارة (ابو نعمان):
- ولد الرفيق جريس بشارة (ابو نعمان) في قرية حينه عام 1929.
- انتمى الى الحزب في 23/10/1953.
- التحق بالخدمة الالزامية في العام 1949، ثم تطوع في الجيش الشامي برتبة صف ضابط. تخرج عام 1960 برتبة ملازم. تصدى مع رفقائه في سلاح الدفاع الجوي للعدو الصهيوني في العام 1967، ونال وسام الشجاعة من الدرجة الأولى لإسقاطه طائرة معادية.
- بعد تقاعده من الجيش في العام 1975، التحق مدرباً في صفوف المقاومة الوطنية.
- اقترن من السيدة نظيرة شلهوب وانجب منها 5 أولاد (نعمان، بسام، غسان، حسام وسلمى) وجميعهم أصدقاء للحزب.
- منح الرفيق بشارة وسام الواجب،
- ورد في مطالعة هيئة مديريته على اضبارة ترشيحه بتاريخ 14-3-2000 التالي: "الرفيق جرجس بشارة مقعد منذ حوالي سبع سنوات ولليوم لم يتخل عن العقيدة القومية الاجتماعية وهو ضابط في الجيش الشامي وكان مثالاً للتضحية حسب إفادات كل الرفقاء الذين كانوا معه".
*
" وكانت نشرة "صوت النهضة" قد أوردت في عددها بتاريخ 16 تشرين الثاني 2000 نص الكلمة التي كان ألقاها الأمين عادل طبري(6) في حفل تأبين الرفيق بشارة في بلدته "حينه" بتاريخ 20/10/2000:
" ابا نعمان. أيها الرفيق الغالي. يا شيخ الشعراء و يا قدوة المناضلين، يا تلميذ سعاده العظيم، يا رفيق سناء محيدلي ووجدي الصايغ وعمار الأعسر وخالد الأزرق وخالد علوان وكواكب الشهداء، ومن بينهم الشهيد الطفل محمد الدرة.
يا ابا نعمان، أيها المناضل حتى على فراش الألم والمرض، صدَق فيك قول المعلم بأن "أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا..." كما أن طريقنا طويلة وشاقة، لان جميع قوى الشر الغاشمة، من يهود الخارج ومن يهود الداخل، يتربصون بأمتنا ويتآمرون على شعبنا ووطننا، ولا يكون لنا انقاذ إلا بالعزيمة الصادقة والبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة.
يا رفيقي، نعلنها باسمك، وبمواقف العز التي وقفتها في ساحات النضال والصراع، أننا نؤمن ايماناً مطلقاً بأننا حماة الضاد وسيف العالم العربي وترسه، ونسعى لإنشاء جبهة عربية تشكل سداً منيعاً في وجه المطامع الأجنبية ".
ابا نعمان، أهديك في عليائك هذه الأبيات:
انا مغرمٌ عَصَف الهوى بفؤادي وهواي ليس بزينبِ وسعادِ
عفواً عيون الفاتنات فمهجتي ولهى، مدلّهة بحب بلادي
أحببتها وأنا فتيّ يافع وأحبها والعزم في أبرادي
اسخو عليها بالدماء زكية وبخفق رايتها يطيب الجهادي
فإذا حييتُ، حييت فيها شامخاً وإذا قضيتُ فحبذا استشهادي
إيه بلادي، يا خميلة نرجس طِيْبَ الهوى والسحر والأمجاد
يا للجمال على بنيه محرماً بل مئلاً للأجنبي المرتاد
هبّوا بني قومي فقد طال الكرى وفلول غدرٍ أمسكَتْ بوهاد
خطوا على التاريخ آيات العلا فالمجد والتاريخ يوم جهاد
حُلوا التنابذ بينكم، وتوحدوا أفلا ترون على الحدود اعادي
شحّذوا السيوف ليستبيحوا أرضكم وسيوفكم ترتاح في الأغماد
فمغارة الميلاد ترقب زحفكم والمسجد الأقصى هناك ينادي
سيروا الى تحرير أقدس بقعة من شر عدوان وكيد فساد
لتهلّ في أفق الفخار بنودنا ويزغرد الأجداد في الإلحاد
***
هوامش:
(1) الامين يوسف فضول: تولى في الحزب مسؤوليات عديدة، محلية ومركزية وهو رفيق مثقف عقائدياً، وواع قومياً اجتماعياً، مجاز في التاريخ. عمل في القطاع التربوي فترة طويلة، وفي قطاع الزراعة. يقطن حالياً بلدة كفرشيما.
(2) رؤوف الاحمدية: هو رفيق من شارون، وكان يقطن الشويفات. حاولنا عبر معنيين ان نحصل على معلوماته عن "مدرسة حرمون"، فلم نصل الى النتيجة المفيدة.
(3) عرفت رفيقاً من آل مسابكي، هو المحامي سهيل مسابكي، وكان مجلياً، اورد عنه الرفيق اياد موصللي في اكثر من مكان في مؤلفه "انطون سعاده، ماذا فعلت؟"
(4) اعرف، من آل هواويني الرفيق يوسف، استاذ الجامعة والامين الناشط في سويسرا، المشكل حضوراً قومياً اجتماعياً جيداً الى جانب الامين د. قسطنطين صايغ ورفقاء آخرين، منهم المدير الرفيق طلال ديب والرفيق النشيط نضال سعاده.
وعرفت عن شقيقه الرفيق المناضل الياس، الذي قضى بعد سنوات طوال كان فيها مشلولاً، طريح الفراش اثر اصابته في العامود الفقري عندما كان في مخيم تدريبي للحزب، وقد تحدثت عنه (مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info).
(5) حنا كسواني: كان منح رتبة الامانة. انتخب نائباً عن منطقة "الغوطة". نشرنا ما اورد عنه الرفيق اياد موصللي في كتابه المشار إليه آنفاً. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(6) الامين عادل طبري: عرفته بعد خروجه من السجن في شباط 1969، لمشاركته في الثورة الانقلابية. نشط حزبياً وتولى مسؤوليات محلية ومركزية، ثم تابع ذلك بعدما انتقل الى دمشق. تولى إدارة العمل البلدي في "قرى الاسد" في محيط دمشق. بات في عمر متقدم.
**
نأمل من منفذية حرمون ان تزوّدنا بما تملك من إضافات عن حينه، حزباً ومدرسة،
فننشر ذلك في ملحق لهذه النبذة
|