كثيراً ما نطلّع على سِيَر متنوعة عن سعاده، بعضها متناقضة بالمعلومات، وهذه نراها مطبوعة وموزعة، او منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.
في فترات سابقة نشرت ما كنت اعددته عن المراحل التالية:
1. سعاده من الطفولة حتى قبيل التأسيس
2. سعاده من التأسيس حتى مغادرة الوطن عام 1938
3. الحزب في الوطن بغياب سعاده
4. سعاده في المغترب القسري 1938 – 1947.
وبتاريخ 18/07/2017 عممنا نبذة بعنوان "الحزب في الوطن في مرحلة غياب سعاده 1938 – 1947"
هنا "السيرة الموجزة لسعاده ولمسيرة الحزب" اعممها آملاً من كل رفيق معني يملك ملاحظات، او اضافات، ان يكتب الى لجنة تاريخ الحزب.
*
- ولد أنطون سعاده في بلدة الشوير (المتن الشمالي) في أول آذار 1904 .
- والده: الدكتور خليل أنطون سعاده، وكان طبيباً ولغوياً وصحافياً وأديباً وكاتباً، ومناضلاً وطنياً كبيراً. له
الكثير من المؤلفات ومن الكتب المترجمة .
- والدته: نايفة داود نصير من الشوير أيضاً. ترعرعت في الولايات المتحدة ثم عادت إلى الوطن لتلتقي الدكتور خليل وتقترن منه .
- أشقاؤه: أرنست، آرثر، تشارلي، وهم الأكبر منه سناً ثم سليم، إدوار وغريس(1) .
*
طفولتـه:
- درس مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة الشوير. ثم غادر عام 1913 إلى مصر مع اخوته الصغار كي يلتحقوا بوالديهما، إذ كان الدكتور خليل قد اضطر عام 1909 للمغادرة إلى مصر لأسباب سياسية وطنية. في مصر درس سعاده وأخوته الصغار في مدرسة الفرير.
- عام 1913 توفيت والدته في مصر، أما والده فقد اضطر لمغادرتها إلى الأرجنتين، لأسباب سياسية أيضاً. ما جعل سعاده يعود وأخوته الصغار إلى لبنان ليعيش في كنف جدته لأبيه، ويلقى عناية من عمه داود. أما أخوته أرنست، آرثر وتشارلي، فقد غادروا إلى الولايات المتحدة ليكونوا في عهدة خالهم سليمان نصير.
- أمضى العام الدراسي 1914 في مدرسة الأميركان في الشوير، وأنتقل في السنة الدراسية التالية (1915-1916) إلى المدرسة الرسمية في البلدة نفسها.
- عام 1915 توفيت جدته ثم ما لبث أن فارق عمه داود الحياة .
- عرفت عنه في طفولته المزايا التالية:
• توقد ذهنه وذكائه الحاد.
• متانة جسمه، وحبه لممارسة مختلف أنواع الرياضة، فكان يفوز حتى على من يكبره سناً، في الركض والقفز ورمي كرة الحديد، كذلك كان اعتاد على السباحة شتاءً في نهر شتوي بين بلدتي عين السنديانة والشوير .
• شعوره بالمسؤولية تجاه اخوته الصغار، خاصة بعد وفاة جدته وعمه، ونشوب الحرب العالمية الأولى وما رافق ذلك من مجاعة عمت البلاد وتعرض الكثيرين إلى الموت جوعاً.
يروى عنه أنه كان يحمل أخته غريس على ظهره عندما تصاب بالمرض ويصعد بها من الشوير إلى عيادة الدكتور حبيب همام الكائنة في الضهور.
- أواخر العام 1916 انتقل سعاده وأخوته الصغار، وكثيرون غيرهم من أولاد الشوير والمنطقة، إلى مؤسسة في برمانا كانت تتعهدها سيدات راعهنّ انتشار الجوع في منطقتهن فرحن يقدمن المأوى والطعام لنساء حاملات، وللأطفال.
- كان القائد التركي جمال باشا (الملقب بالسفاح) قد اختار برمانا منتجعاً له ولزوجته، فيما كان الجيش التركي يحتل مباني مدرسة "الفرندز" الإنكليزية (معناها الأصدقاء). من جهة أخرى كان الدكتور دراي، وهو طبيب أسنان مشهور، قد نجح في معالجة حنك جمال باشا عندما تعرّض للرصاص، فبات – وهو الإنكليزي - موضع صداقة للقائد التركي لا يرد له طلباً .
لذلك أمكن للدكتور دراي المشرف على مؤسسة "الفرندز" أن يقنع جمال باشا (بالتعاون مع سيدة ألمانية تدعى (Muller) بأن يخلي مباني المدرسة من القوة التركية وتحويلها إلى مركز للمطعم، إذ أن عدد المستفيدين كان ارتفع إلى مئات، ولاحقاً أمكن إعطاء بعض الدروس للأطفال .
- في هذا المكان أمضى سعاده وأخوته الصغار المدة المتبقية من سنوات الحرب التي انتهت عام 1918. فيها سجل سعاده المواقف التالية:
• عندما قرر جمال باشا القيام بزيارة رسمية إلى المدرسة، فكّر المعلم وديع سعد وكان من الذين أحبوا سعاده، ورعوه، أن يمنحه "شرف" حمل العلم العثماني وان يقف في مقدمة التلامذة عند الاستقبال. إلا أن سعاده رمى العلم وانسحب إلى غرفته. لحق به المعلم وديع مستفسراً. أجابه سعاده: إنسان هتك (أساء، أذى) أمتي، ما بقعد تحت بيرقو (بيرقه: علمه) .
• عندما أوشكت الحرب على الانتهاء بدأت الجيوش التركية تنسحب من بعض مواقعها. إلا أن قوة مدفعية تركية بقيت في قلعة بيت مري، مما أحدث جواً من الرعب لدى أهالي البلدة خوفاً من أن تتعرض لقذائف بواخر الحلفاء، فيما لو ضربتهم مدفعية الجيش التركي. حاول أعيان من البلدة عبر اتصالاتهم أن تنسحب القوة التركية فلم ينجحوا. في هذا الجو المشحون قام سعاده بتسلق سارية المدرسة، الملساء، وأنزل العلم التركي عنها ومزقه إرباً.
- تصرفان آخران أكد فيهما سعاده بعد انتهاء الحرب على ما يتمتع به منذ طفولته، بحس وطني متقدم ومرهف:
الأول: كان سعاده في رحلة بحرية بين بيروت وحيفا عاملاً مع فريق من الجيش البريطاني لتأمين قوته وقوت أخوته الصغار. في حديث له على ظهر الباخرة مع ضابط إيطالي بادره هذا، وكان ينظر إلى البحر مشيراً إليه: هو بحرنا. فأجابه سعاده فوراً: لا، لا بحرنا نحن لا بحركم أنتم .
الثاني: صدف عندما كان في زيارة للدكتور دراي لأمر خاص، وقد بات عميد كلية طب الأسنان في الجامعة الأميركية، أن مجموعة من الرجال كانت تتبادل الحديث في من هي الدولة الأجنبية التي يرونها أفضل لحكم بلادنا، فرنسا أم بريطانيا أو غيرهما، ذلك أن البحث كان جارياً في أروقة الأمم التي انتصرت في الحرب، حول موضوع بلادنا التي كانت تحكمها تركيا المنهزمة . تشعبت الآراء فالتفت أحدهم نحو سعاده اليافع الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره، يسأله: وأنت يا فتى، أية دولة تختار؟
أجاب الفتى أولئك الرجال المختلفين حول أية دولة تحكم بلادهم: أنتم على خطأ. لا نريد سوى أن نحكم أنفسنا .
*
الولايات المتحدة :
- عام 1919 غادر سعاده وأخوته الصغار إلى الولايات المتحدة ليلتحقوا بأخوتهم الكبار (أرنست، آرثر وتشارلي) الذين كانوا ما زالوا في عهدة خالهم سليمان نصير.
- في هذا الوقت كان الدكتور خليل مقيماً في الأرجنتين يصدر فيها مجلة "المجلة". عام 1920 قرر الالتحاق بأولاده في الولايات المتحدة فغادر الأرجنتين، إلا أن الجالية السورية في البرازيل وقد استقبلته بحفاوة في مرفأ مدينة "السانطوس" (المدينة – المرفأ الساحلي لولاية سان باولو التي توقفت فيها الباخرة الآتية من الأرجنتين متوجهة إلى الولايات المتحدة) ألحّت عليه للبقاء في البرازيل، فقرر البقاء فيها ليعمل في الصحافة، ويتابع رسالته الوطنية بين المغتربين، فأرسل بطلب أبنائه الصغار من الولايات المتحدة .
- غادر سعاده وأخوته سليم، ادوار وغريس إلى البرازيل ليصلوا إليها في 7 شباط 1921 .
*
البرازيل:
- عاون سعاده والده في إصداره لجريدة "الجريدة" فتعلّم مهنة تنضيد الحروف، وراح ينضّد الجريدة ويساهم في الإدارة والتحرير بادئاً بترجمة عدد من المقالات.
- انكبّ سعاده على قراءة أعداد مجلة "المجلة" التي كان أصدرها والده في الأرجنتين، وما صدر من أعداد جريدة "الجريدة" قبل وصوله إلى البرازيل، كذلك راح يطالع الكثير من الكتب والمؤلفات مستفيداً من مكتبة والده الغنية، كما من مكتبات أخرى.
- في 4 حزيران 1921 نشر سعاده أول مقال له يعالج فيه شؤون الوطن، ولم يكن تجاوز السابعة عشرة من عمره، ثم اتبعه بسلسلة من المقالات مثيراً دهشة القراء في الجالية الذين كانوا يتساءلون في البدء إذا كان أنطون، الفتى، هو كاتب تلك المقالات، أم والده.
- وفي هذا الوقت كان سعاده يدرس على نفسه اللغات البورتغالية (لغة البرازيل)، الإسبانية (لغة باقي دول أميركا اللاتينية)، والإيطالية، بالإضافة إلى أنه كان يجيد العربية، الفرنسية والإنكليزية.
أمكن لسعاده أن يتقن لاحقاً اللغة الألمانية بفضل عائلة ألمانية صديقة، ثم اللغة الروسية التي درسها على زوجة الدكتور عبده جذرة، الروسية الأصل، وهذا مما جعله يطالع مختلف العلوم الإنسانية بواسطة لغات مختلفة.
- كأحد الأمثلة على الاستشراف المبكر لسعاده لواقع بلاده ولمسؤوليته تجاهها نقرأ هذا المقطع من مقال نشره عام 1925، يقول:
"حتى الآن لم تقم حركة سورية منظمة تنظر في شؤون سورية الوطنية ومصير الأمة السورية، لذلك نرى أننا نواجه أعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن أمام الطامعين والمعتدين في موقف تترتب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة أو الموت، وأي نتيجة حصلت كنا نحن المسؤولين عن تبعتها ".
- حاول سعاده في البرازيل أن يؤسس لعمل وطني يتمكن بواسطته أن يحقق ما يراه مفيداً لوطنه وهو قد استشرف باكراً الخطر الصهيوني عليها، فضلاً أنه كان يسأل نفسه كثيراً عندما كان يعاني وأبناء شعبه من مآسي الحرب العالمية الأولى، "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل" . لذلك خاض سعاده التجارب التالية:
1. أسس جمعية وطنية سياسية أطلق عليها إسم "جمعية الشبيبة الفدائية السورية" .
2. انخرط في المنظمة الماسونية العالمية، إلا أنه استقال منها بتاريخ 24 أيار 1926 موجهاً رسالة بهذا المعنى إلى
رئيس وأعضاء محفل "نجمة سوريا"، ولاحقاً، في 10 أيار 1949، وجه بلاغاً إلى القوميين الاجتماعيين حذّرهم فيه من الماسونية، ودعا من كان منهم قد انضّم إليها قبل انتمائه إلى الحزب، أن ينسحب، إذ لا يجوز الجمع بين ولاءين، ولأن "انترناسيونية الماسونية لا تتفق مع القومية" كما قال في بلاغه، مضيفاً أن "الماسونية جمعية سرية انترناسيونية لها أهداف مستترة غامضة تحت شعار: حرية، أخاء، مساواة ".
3. أسس حزب الأحرار السوريين، ومن مبادئه: سيادة الأمة السورية على نفسها، توحيد البلاد السورية ضمن حدودها الجغرافية، فصل الدين عن السياسة، مكافحة الطائفية، اعتماد القوة لنيل الأمة السورية حقوقها.
إلا أن تلك التجارب أوصلت سعاده إلى قناعة أكيدة أن لا رجاء من أي عمل في المغتربات، وأن في الوطن وحده يصنع مصير الوطن.
لذلك قرر العودة، وراح يقتصد في نفقاته، بالرغم أن الكثيرين من أصدقائه كانوا ينصحونه بالبقاء في البرازيل، إلا أن سعاده كان قد صمم على العودة .
*
العودة إلى الوطن:
- في تموز عام 1930 وصل سعاده إلى الوطن.
- حاول، عبر انتقاله إلى دمشق والعمل في صحيفة الكتلة الوطنية "اليوم"، بعد أن درّس في كلية "الجامعة العلمية" لصاحبها سليمان سعد، أن يؤسس لما عاد إلى الوطن من أجله.
- إلا أنه أصيب بالخيبة، فعاد إلى لبنان صيف العام 1931 ليمضي أشهر الصيف في ضهور الشوير، يلتقي أصدقاء له، ويمضي في العرزال الذي اتخذه مسكناً له، والمطلّ على أجمل المواقع، ساعات طويلة من التأمل والدرس، ومن التفكير العميق في أسس الحزب الذي عاد من أجل إنشائه.
- كان سعاده يدرك، عبر تجاربه وتفكيره الطويل، أن الطلبة هم الوسط الصالح لتلقي بذور النهضة القومية الاجتماعية، لذا انتقل في تشرين أول 1931 إلى رأس بيروت وعمل على أن ينخرط في وسط الجامعة الأميركية مدرّساً اللغة الألمانية للراغبين من طلابها. ثم استأجر غرفة في منزل جريس حداد الذي كان يملك مطعماً تجاه الجامعة الأميركية يرتاده أساتذتها وطلابها.
*
تأسيس الحزب:
- في هذا الوسط بدأ سعاده خطواته التأسيسية الأولى من خمسة، أربعة منهم كانوا طلاباً في الجامعة الأميركية: جورج عبد المسيح، جميل عبدو صوايا، وديع تلحوق، وزهاء الدين حمود (وهو أردني) والخامس هو فؤاد حداد أبن صاحب المطعم.
إلا أنه تبين لسعاده زيف اثنين منهم، وديع تلحوق وزهاء الدين حمود، فقرر- لأن الحزب لم يكن له دستور في حينه – أن يحلّ الحزب من أجل إقصاء العنصرين الفاسدين.
- تابع سعاده العمل التأسيسي مع الرفقاء الثلاثة الباقين، وأخذ بدوره يبحث عن العناصر الصالحة للأخذ بمبادئ الحزب، بالرغم من كل الصعوبات، ومن جو الخوف المسيطر في ظل الانتداب الفرنسي واستخباراته وقوانينه.
- راح الحزب ينتشر في لبنان، الشام وفلسطين، وتتكون له فروع، ويتعيّن عمد، ويوضع له دستور، وشعار هو الزوبعة، وبطاقة للعضوية وأخرى مالية، إلى أن وجد سعاده مفيداً أن يلتقي الأعضاء الذين كانوا ينتمون إفرادياً، بشكل سري، في اجتماع واحد. تمّ ذلك في أول حزيران 1935، وفيه ألقى سعاده خطابه المنهاجي الأول (مراجعة المحاضرة الثانية من المحاضرات العشر) وتلا عميد الإذاعة الرفيق عبد الله قبرصي (الأمين لاحقاً) تقريراً أعده عن أعمال العمدات وخططها.
- فجر السادس عشر من تشرين الثاني 1935، وبعد أن كان الحزب قد انتشر كثيراً في لبنان، الشام وفلسطين وقيام سعاده بزيارات إلى مناطق متعددة في لبنان والشام، كان لا بدّ أن ينكشف أمر الحزب، فتّم اعتقال سعاده وعدد من معاونيه، كما طالت الاعتقالات أعضاء من الحزب.
إلا أن المحاكمة التي أرادها المستعمر سبيلاً للقضاء باكراً على حزب يريد تحقيق وحدة أمته ونهضتها، تحوّلت إلى محاكمة للمستعمر، وكان لوقفة سعاده ودفاعه، الأثر المعنوي الكبير، ليس في صفوف القوميين الاجتماعيين وحدهم - وكان عدد منهم جاء من أنحاء مختلفة من الوطن لحضور المحاكمة – إنما في صفوف أبناء شعبنا في الوطن والاغتراب الذين لم يشهدوا وقفة كهذه، ولا واحداً من أبناء شعبهم يتحدى المستعمر بجرأة، وبإيمان مطلق بحق أمته في الحياة .
- حكم على سعاده ستة أشهر في السجن، انصرف أثناء ذلك إلى إنهاء كتابه العلمي "نشوء الأمم"، كما وضع كلمات نشيد الحزب الرسمي، الذي قام لاحقاً الرفيق الموسيقار زكي ناصيف إلى وضع لحنه الذي ما زال معتمداً لتاريخه.
الاعتقال الثاني:
- ما أن خرج سعاده من سجنه الأول حتى تعرّض بعد أقل من خمسين يوماً إلى الاعتقال فالسجن لمدة أربعة أشهر ونصف. في هذه الفترة كتب شروح التعاليم السورية القومية الاجتماعية .
أما سبب الاعتقال الثاني، فهو العثور على مرسوم الطوارئ الذي كان أصدره سعاده، وفيه ينظم الإجراءات التي يجب اعتمادها في حال تمّ اعتقال زعيم الحزب ومعاونيه. وبما أن السلطات قد أصدرت قرارها في 17/3/1937 باعتبار الحزب ممنوعاً، فقد اعتبرت هذا المرسوم دليلاً على ممارسة العمل الحزبي المحظور .
*
فلسطين والاسكندرون:
- شهد عام 1936 اندلاع الثورة الكبرى في فلسطين، التي استمرت حتى العام 1939. فيها سقط الكثير من أبناء شعبنا في مواجهة المستعمر البريطاني والعصابات اليهودية التي راحت تستوطن سورية الجنوبية في فلسطين.
وقد سقط للحزب شهداء أبرزهم الرفيق القائد سعيد العاص، والرفيق حسين البنا، وهو أول رفيق يسقط في العراك الحزبي المسلح ضد الصهاينة .
- كذلك شهد العام 1936 بدء تحرك سعاده لمواجهة مؤامرة سلخ لواء الاسكندرون عن الوطن السوري بعد أن كانت سلخت كيليكيا عنه. كان عليه أن ينظر إلى جنوب الوطن حيث تتعرض فلسطين لأبشع مؤامرة تحاك ضد أي دولة من دول العالم، وفي الوقت نفسه ينظر إلى شماله حيث تحاك مؤامرة سلخ الاسكندرون.
من بين الكثير من التحرك الذي قام به سعاده لمواجهة مؤامرة سلخ الاسكندرون، المذكرة التي وجهها في 14 كانون أول 1936 إلى عصبة الأمم، ثم اعتباره هذا اليوم "ذكرى الحدود الشمالية" كما أنه انتدب وفداً إلى اللواء من أجل الاطلاع ميدانياً على الوضع فيه، وأبدى استعداد القوميين للتطوع في سبيل الذود عن الاسكندرون.
إلا أن أبلغ كلمة لسعاده يدلل فيها على نظرته إلى الخطرين التركي واليهودي قوله في محاضرة له في افتتاح النادي الفلسطيني في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1933:
" إني أخشى أن تكون سوريانا آخذة في الانزلاق من أيدينا المتفرقة. ففي الجنوب تتراجع الخطوط السورية أمام الحدود اليهودية، وفي الشمال تتقلص الحدود السورية أمام الحدود التركية".
هذا الكلام قيل قبل سنوات من سلخ لواء الاسكندرون، وسنوات أكثر قبل نكبة فلسطين عام 1948 .
*
مهرجانات العز:
في غمرة صراعه مع الانتداب الفرنسي والسلطات اللبنانية، راح سعاده يعبئ حزبه ومناصريه عبر مهرجانات وزيارات إلى المناطق الحزبية. وكذلك عبر تنظيمه للفروع والاهتمام بالتثقيف القومي الاجتماعي.
ثلاث مهرجانات اعتبرت من أيام الحزب، وهي التالية :
• "شارون" عندما قام سعاده بزيارتها بعد خروجه من سجنه الثاني على اعتبار أن شارون هي بلدة الرفيق الشهيد حسين البنا. وقد سار الآلاف من القوميين الاجتماعيين وأصدقائهم من صوفر إلى شارون إذ لم تكن الطريق قد شقت بعد.
• "عماطور" وقد زارها سعاده بعد زيارة قام بها إلى بعقلين، تلبية لدعوة مديريات الشوف الأعلى. وشكل مهرجان عماطور تحدياً للسلطة التي حاولت إفشاله. نشير أن الحزب حقق في عماطور مصالحة عائلتيها عبد الصمد وأبو شقرا، اللتين كانتا على نزاع مستمر، بفضل انتماء رفقاء من كليهما.
• "بكفيا"، وفيها حاولت الدولة إسترداد هيبتها التي فقدتها في مهرجان عماطور فحصل صدام مع قوى الأمن أسفر عن سقوط جرحى من الطرفين، وقد أبلى الرفقاء شجاعة نادرة المثيل، وكان البعض منهم يحطم بنادق الدرك على ركبتيه، كأنه يحطم عيدان كبريت.
بعد يوم بكفيا، شنّ سعاده في بيان الأول من آذار 1937 هجوماً عنيفاً على الدولة واعتبرها حكومة عاصية يجب إسقاطها .
*
الاعتقال الثالث:
- في التاسع من آذار اعتقل سعاده على حاجز للدرك في بلدة المريجات فيما كان متوجهاً إلى دمشق.
- بعد أن أمضى سعاده نيّف وشهرين في السجن خرج منه بعدما تأكد للدولة أن الاعتقالات التي تعرّض لها زادت حزبه قوة ومناعة وانتشاراً. سبب آخر أنها كانت تطمح لأن تحصل على أصوات القوميين الاجتماعيين في الانتخابات النيابية التي كان قد اقترب موعدها.
بدوره كان سعاده يحتاج إلى فترة من الراحة كي يعمد إلى تنظيم حزبه، إصدار جريدة تنطق باسمه، الحصول على جواز سفر بعد أن كان بحث في المجلسين الأعلى والعمد في وجوب قيامه بجولة حزبية إلى المغتربات.
في أسره الثالث كتب سعاده قصة "دمية" إلا أنها فقدت.
بعد خروجه من الاعتقال تمكن سعاده أن يحقق الكثير مما كان يهدف إليه، منها زياراته إلى المناطق الحزبية، إصدار جريدة "النهضة"، تصنيف مواد الدستور، منح رتبة الأمانة إلى عدد من الرفقاء وانتخاب مجلس أعلى، طباعة كل من نشوء الأمم، كتيب التعاليم، والدستور، إنشاء الندوة الثقافية، تأسيس المكتب المركزي للأمن (باسم المكتب الأعلى المختص) والبدء بتدريب القوميين الاجتماعيين وإعدادهم لمهمات عسكرية.
الا أن الدولة والسلطات الفرنسية المنتدبة، كانتا تنظران إلى استعدادات الحزب، ونموه، كما مواقفه القومية إزاء فلسطين والإسكندرون، بعين الريبة، فأعدتا خطة للقضاء على الحزب وزعيمه، إلا أن سعاده تمكن من مغادرة بيروت في حزيران 1938 إلى قبرص مروراً بدمشق، عمان وحيفا. وبعد أن أمضى ما يزيد على الشهر في قبرص كان فيها على تواصل مع المجلس الأعلى والمكتب الأعلى المختص وغيرهما، غادر الجزيرة السورية في 28 تموز إلى إيطاليا فألمانيا، تلبية لدعوة فرعي الحزب في كل من روما وبرلين، ثم توجه إلى البرازيل ليصلها في أواخر العام 1938. ما أن غادر سعاده بيروت حتى كانت السلطات الأمنية تداهم مركز الحزب وتشن حملة اعتقالات في بيروت والمناطق اللبنانية.
*
البرازيل:
- في البرازيل استقبلت الجالية سعاده بحفاوة. فهي على معرفة به عندما غادر إليها في العشرينات. وكانت تتابع عبر الصحف الصادرة في الوطن، وفي الاغتراب، أخباره، منذ أن وقف وقفته الجريئة في المحكمة، كما الاعتقالات التي تعرض لها. فأصبحت في شوق لأن تلتقيه وتستمع إليه يشرح مبادئ حزبه.
انضم الرفيق أسد الأشقر وكان يتولى مسؤولية منفذ عام الشاطئ الذهبي (غانا اليوم) والأمين خالد أديب إلى سعاده فعيّنهما ناموسين له، أول، وثان، وراحا يساهمان معه بشرح تعاليم الحزب للمقبلين إليه من أبناء الجالية. فأخذ العشرات منهم ينتمون، في سان باولو وخارجها، وبالتالي بدأ الحزب ينتشر وتتأسس له فروع .
انتشار الحزب، وإصدار سعاده لجريدة "سورية الجديدة" في سان باولو أثار بعض المتفرنسين من أبناء الجالية فوشوا به على أنه عميل نازي، فأوقف وأودع السجن مع معاونيه الرفيق أسد والأمين خالد. إلا أن التحقيقات التي أجريت أثبتت براءة سعاده من التهمة الملفقة، فأفرج عنه ليغادر وناموساه إلى الأرجنتين في أواسط أيار 1939.
*
في الأرجنتين:
وصل سعاده إلى بيونس ايرس فلم يكن أحداً في استقباله. إلا أن الجالية سرعان ما راحت تتعرف إلى حضوره، وبدأ اسمه ينتشر في أوساطها، والمواطنون السوريون يفدون للسلام عليه والتعرف إليه، وإلى التعاليم التي يحمل.
شيئاً فشيئاً راح رفقاء ينتمون، وبدورهم راحوا ينقلون الفكرة إلى مواطنين لهم، فلم يمض أشهر على وصول سعاده إلى الأرجنتين، حتى كان للحزب أعضاء في بيونس ايرس وفي ولايات أخرى .
وكما أسس سعاده في البرازيل جريدة "سورية الجديدة" بادر في الأرجنتين، عندما أسس للحزب حضوره في العاصمة وخارجها، إلى إصدار جريدة باسم "الزوبعة" وفيها نشر سلسلة من مقالاته الهامة جمعت وصدرت لاحقاً في كتابين:
• جنون الخلود، الإسلام في رسالتيه.
• الصراع الفكري في الأدب السوري.
*
الحزب في الوطن:
- في أول أيلول 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية، فكان أول ما قامت به القوات الفرنسية المنتدبة أن راحت تعتقل القوميين الاجتماعيين، حتى إذا اجتاحت الجيوش الألمانية فرنسا وتولّت حكومة موالية لألمانيا الحكم في فرنسا (عرفت بحكومة فيشي إذ اتخذت من مدينة فيشي في الجنوب الفرنسي مقراً لها) راحت القوات الفرنسية في لبنان، التي التحقت بحكومة فيشي، تعتقل القوميين مجدداً مسقطة بذلك التهم التي كان جاهلو حقيقة الحزب يرمونه بها على أنه عميل نازي- فاشيستي .
- بقي القوميون الاجتماعيون معظم سنوات الحرب يتعرضون للسجون والكثير منهم كانوا يساقون إلى معتقل أقيم في "المية ومية" شرقي مدينة صيدا .
- في آب 1940 أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية حكمها بسجن سعاده وعدد من المسؤولين والرفقاء مدداً متفاوتة. كان نصيب سعاده منها عشرين سنة سجناً وعشرين أخرى نفياً.
- لذلك، والحرب مندلعة، بات سعاده في الأرجنتين بحكم الاغتراب القسري، غير قادر على العودة إلى وطنه .
- شارك الحزب في معارك الاستقلال في لبنان والشام وكان لأعضائه دور بارز في التحركات التي حصلت، في بشامون كان الرفيق سعيد فخر الدين هو الشهيد الوحيد الذي سقط في المعارك دفاعاً عن حكومة الاستقلال التي كان لجأ عدد منها إلى بلدة بشامون. وبعد نيف وسنة، كان الدركي الرفيق حسن عبد الساتر هو الشهيد الوحيد الذي يسقط دفاعاً عن العلم اللبناني المرفوع فوق البرلمان .
كذلك قام الرفقاء المعتقلون في قلعة راشيا (الأمينان جبران جريج وأنيس فاخوري والرفيق زكريا لبابيدي) بنقل المعلومات عن المظاهرات التي اندلعت في المدن والمناطق اللبنانية ضد الانتداب الفرنسي، إلى رجال الاستقلال الذين اعتقلوا وسيقوا إلى راشيا، فساهم هذا العمل الجريء في رفع معنوياتهم وتعزيز صمودهم .
وفي الشام شارك القوميون الاجتماعيون في كل التحركات التي حصلت في المدن الشامية، وكان للرفقاء، ومنهم غسان جديد، ميشال الديك، رفعت شوقي، عبد الكريم الشيخ، دور بارز وبطولي.
- بعد نيل لبنان لاستقلاله، تعاطت القيادة الحزبية التي كان يقودها مجلس أعلى برئاسة الأمين نعمة تابت، مع الوضع الجديد بحكم الواقع خارجة بذلك على النهج القومي الذي أرساه سعاده. فكان أن نالت رخصة باسم "الحزب القومي" وراحت في أدبياتها تغفل اسم سورية، كما أنها بدّلت علم الحزب .
*
مع سعاده، مجدداً في الأرجنتين:
- لم يكن ممكناً لسعاده أن يتعرف على وضع الحزب بسبب انقطاع الاتصالات، إلى أن غادر غسان تويني إلى الولايات المتحدة للتخصص الجامعي، فكلفه المجلس الأعلى بأن يرفع تقريراً حزبياً إلى سعاده يوضح فيه واقع الحزب، والأمة. كان ذلك في العام 1946. وفيه أيضاً أمكن لسعاده أن يتبادل الرسائل مع المجلس الأعلى في الوطن، ومع العديد من المسؤولين والرفقاء، بعد أن كانت مراسلاته طيلة سنوات 1939-1945 تقتصر بمعظمها على الفروع والرفقاء في الأرجنتين والبرازيل، والقليل منها إلى رفقاء في مناطق الاغتراب.
- عانى سعاده كثيراً من أوضاع الجالية السورية في الأرجنتين، وقد وصفها في رسائل له أنها من أسوأ الجاليات السورية في العالم. عانى أيضاً من ضعاف النفوس من أعضاء حزبه، ومن عدم ارتفاع سوية الوعي لدى الكثيرين ممن انتموا في البرازيل، وأكثر، في الأرجنتين، مما اضطره إلى إصدار قرارات طرد بحق عدد منهم، وأن يصرف الكثير من جهوده في متابعة فرع البرازيل وجريدة "سورية الجديدة" إضافة لما يتطلبه حضوره في الأرجنتين من اهتمام مكثف بأعمال الفروع وبإصدار جريدة "الزوبعة" .
- بدل أن ينصرف سعاده إلى فروع حزبه، بانياً وموجهاً، وإلى التصدي للحملات الجارحة التي كان يتعرض لها من العناصر الحاقدة الموتورة التي لم تستطع أن تفهم الحزب نهضة للأمة وسبيلاً إلى تحقيق عزتها، اضطرته ظروفه في الأرجنتين إلى أن يصرف وقتاً ثميناً للعمل في التجارة من أجل أن يغطي نفقاته، ويحافظ على هيبة الزعامة، خاصة بعد أن عقد قرانه على الرفيقة جولييت المير (التي راح سعاده يدعوها ضياء) وباتت له عائلة يتوجب عليه إعالتها.
- شكلت الرفيقة جولييت سنداً مادياً ومعنوياً لسعاده، وكانت المرأة المثالية التي كان يحتاج إليها، في تجارته، كما في قيادته للحزب. معها تمكن من التغلب على الصعاب التي واجهته في مدينة التوكومان عندما انتقل إليها لتأسيس عمل مع شخصين وثق بهما فغدرا به بلؤم وخساسة.
ثمرة زواج سعاده من الرفيقة جولييت (ضياء) كانت ولادة صفية وأليسار في الأرجنتين (أما راغدة فقد ولدت لاحقاً في الوطن).
*
عودة سعاده إلى الوطن:
- بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الاتصالات بين سعاده ومركز الحزب في الوطن، وبالتالي وصول النشرات والتقارير والصحف الحزبية إليه، أمكن لسعاده أن يطلع على الانحرافات السياسية والفكرية القائمة، إلا أنه لم يشأ أن يبحث تلك الانحرافات عبر الرسائل، ما دامت العودة باتت ممكنة له.
- مع أواخر العام 1946 كان سعاده يلغي أعماله في مدينة توكومان، ينتقل وعائلته إلى بيونس ايرس، يغادر وحيداً إلى البرازيل فيؤمن فيها جواز سفره، بعد صعوبات واجهها بشأن ذلك في بيونس ايرس، وتلكؤ الحكومة اللبنانية في الموافقة على إعطاء القنصلية الفرنسية في العاصمة الأرجنتينية - التي كانت تقوم بمعاملات اللبنانيين والشاميين في غياب التمثيل الديبلوماسي لكلا البلدين، في حينه - جواز سفر له يمكّنه من العودة إلى الوطن.
- في 2 آذار 1947 وبعد توقف لأيام في القاهرة قابل سعاده فيها الأمين نعمة تابت والرفيق أسد الأشقر اللذان حاولا ان يوضحا له وضع الدولة اللبنانية بعد نيلها الاستقلال عساه لا يبقي على ثوابته العقائدية، وصل سعاده إلى مطار بيروت في منطقة بئر حسن ليجد في استقباله عشرات الألوف من رفقائه الذين أتوا من أنحاء الوطن لاستقبال قائد حزبهم ونهضتهم.
أمام الحشد الهائل غير المتوقع بضخامته، ألقى سعاده خطاباً قومياً أعاد فيه الحزب إلى قواعده، طالباً إلى أعضائه العودة إلى ساحة الجهاد، معبراً بذلك عن إدانته لكل الخروج الذي تم أثناء غيابه .
- واجه سعاده بعد عودته مذكرة التوقيف التي أصدرتها الدولة بحقه. إلا أن الدولة سحبت المذكرة بعد 7 أشهر و7 أيام، بعد أن كان سعاده تمكن من الإفلات من قبضتها والالتجاء إلى مناطق في الجبل، أهمها بلدته الشوير وضواحيها.
- عمل سعاده إلى إقصاء العناصر الخارجة على عقيدة الحزب ونهجه القومي.. انكب على بناء الحزب عبر إحيائه الندوة الثقافية (وإلقاء المحاضرات العشر) وعمد إلى القيام بزيارات وجولات حزبية ناجحة إلى المناطق في لبنان والشام، تنظيم احتفالات شعبية شاملة في مناسبات الأول من آذار، الاهتمام بالتدريب العسكري، بمكتب الأمن المركزي (المكتب الأعلى المختص) إنشاء صف الضباط، وتهيئة الحزب لأداء دوره في فلسطين.
- كان سعاده في مواجهة المؤامرة على فلسطين، كمن يصارع الوقت. لقد وصل في آذار 1947. بقي في مناطق الحماية القومية الاجتماعية إلى تشرين أول من العام ذاته. وها هو يواجه حرب 1948 في فلسطين، وحزبه ما يزال طري العود، والإجراءات التي قررها على صعيدي صف الضباط، وتدريب القوميين الاجتماعيين، ما تزال في أطوارها الأولى.
مع ذلك طلب إلى المنفذيات أن تفتح سجلات لتطوع القوميين الاجتماعيين في حرب فلسطين. إلا أن جواب الأنظمة كان واضحاً: لا سلاح للقوميين الاجتماعيين. فهذه تخاف على نفسها من قوة الحزب فيما لو ارتد عليها بعد فلسطين.
رفقاء كثيرون تطوعوا وقاتلوا ضمن جيش الإنقاذ. كذلك قاتل الرفقاء المنضوون في الجيشين الشامي واللبناني.
تأسست فرقة "الزوبعة" بقيادة الأمين مصطفى سليمان. وسقط للحزب العديد من الشهداء، كان من أبرزهم النقيب محمد زغيب، بطل معركة المالكية (والذي أطلق اسمه لاحقاً على ثكنة الجيش اللبناني في صيدا) الملازم الطيار فيصل ناصيف، الملازم عبد القادر الحاج يعقوب .
- الأنظمة المستسلمة، المتواطئة مع إسرائيل، ما كانت لترتـاح إلى سعاده ينشئ صفاً للضباط، يوجّه مدربين لتدريب أعضاء حزبه، يرفع من وتيرة خطابه القومي التعبوي، يزور المناطق ويلقي الخطب المشبعة بمواقف العز القومي، يعيد حزبه إلى خطه العقائدي السليم، يضخ في حزبه الثقافة القومية الاجتماعية، يصدر صحيفة "الجيل الجديد" لتنقل مواقفه الواضحة، وعندما تعطلها الدولة ينتقل إلى صحف أخرى، يرفض الانصياع للإرادات الأجنبية، ويتصدى للدولة ولمن تؤازرها من قوى رجعية.
لذلك كله، تآلبت عليه الأنظمة الرجعية بإيعاز من الدول صاحبة المصلحة في أن تغرس إسرائيل فوق أرضنا، وأن يتحول وطننا إلى ساحة سهلة لمصالحها، ولاستيطان يهود العالم.
بدأت المؤامرة في حزيران 1949، وفي الجميزة بالتحديد، عندما هاجمت قوة من الكتائب مطبعة ومكاتب جريدة الحزب "الجيل الجديد" وأحرقتها. ثم عمدت الدولة إلى اعتقال الرفقاء، بدل المعتدين، وإلى مداهمة منزل سعاده في رأس بيروت لاعتقاله. ولما لم تجده، اعتقلت الرفقاء الذين كانوا بدأوا يفدون إلى المنزل بعد أن وصلتهم أخبار الاعتداءات، ثم راحت تداهم مكاتب الحزب وبيوت أعضائه.
عندما أمكن لسعاده الإفلات والوصول إلى دمشق، بدأت الحلقة الثانية من المؤامرة: حسني الزعيم الذي كان قام بانقلاب وتسلّم مقاليد الحكم في الشام، يَعِد سعاده بتقديم كل الدعم، ويقدم له مسدسه الشخصي عربون وفاء .
في 4 تموز أعلن سعاده الثورة القومية الاجتماعية الأولى في وقت كانت السلطات اللبنانية تلاحق القوميين وتداهم منازلهم وتنزل بهم العذابات.
الحلقة الثالثة من المؤامرة: السلاح المقدم بأمر من حسني الزعيم أكثره فاسد. السلطات اللبنانية على معرفة بخط سير قوة الحزب التي كانت بقيادة الرفيق زيد الأطرش، فتعتقله في منطقة الحدود. القوة الأخرى التي كان يقودها الرفيق عساف كرم تصل إلى سهل مشغرة لتجد نفسها مطوقة من الجيش اللبناني العارف بقدومها. تقاتل، ويستشهد قائدها الرفيق عساف كرم.
الحلقة الأخيرة: حسني الزعيم يسلّم سعاده إلى السلطات اللبنانية. هذه تحاكم سعاده صورياً. محامي الدفاع يطلب 48 ساعة لدراسة الملف فإعداد الدفاع، يرفض طلبه. الحكم بالإعدام جاهز. تواقيع أعضاء لجنة العفو جاهزة. الأنظمة المتواطئة العميلة جاهزة لتبارك. وإسرائيل تضحك.
وحده سعاده يقف في قفص المحكمة العسكرية يبتسم. في العام 1935 وقف في المحكمة. في العام 1936. في العام 1937. ها هو في تموز العام 1949 يقف أمام جلاديه.
يا ليت أمكن لأحد أن يسجل خطابه في تلك الساعة الرهيبة. لا شك أنه حكى الكثير للتاريخ. لأجيال يجب أن تسمع، وأن تعي وأن تفعل.
فجراً يساق إلى خشبة الإعدام. قال لهم شكراً. 12 جندياً يصوبون 12 بندقية إلى صدر الأمة، فتنطلق 11 رصاصة(2) تمزق جسداً، يسقط. فترتفع في اللحظة زوابع وأعاصير وهتافات بقيت تتردد، تنساب إلى كل قرية، كل مدينة، كل دسكرة، كل بيت. ما زالت، وستبقى، ما دام فوق أرضنا شعب، وحزب، ورفقاء، وأشبال وزهرات، ونفوس تعي وتحمل المشعل وتهتف يا أبناء الحياة، واليمنى ترتفع.
هوامش
(1) كان سعاده يدعوها "عائدة" .
(2) الأنظمة المعمول بها عند تنفيذ الإعدام رمياً بالرصاص تقتضي وضع خرطوشة واحدة لا تحتوي على رصاصة، كي يعتقد كل جندي أنه هو مطلق الرصاصة غير القاتلة.
|