في كتابه "الكلمات الأخيرة" للأمين انعام رعد, اخترنا هذه المقالة بعنوان درس في النظام, لما فيها من عِبر يستفيد منها كل منتم, إلى الحزب السّوري القومي الاجتماعي, فيتّعظ ويقتدي.
ل. ن.
*
في تلك الأثناء, صيف 1948, وقبل ذلك, كانت قد نشأت مسألة السّيد نعمة ثابت, وهو بالمُناسبة جارُنا في البلدة, ورجل "جنتلمن", وتربطهُ بعائلِتنا علاقة صداقة وود, ولكن في الشّؤون الحزبيّة لا مجال لهذهِ الاعتبارات, فنعمة ثابت قد خرج على قرار الزعيم.
ونعمة كان من الّذين أسسوا فرع (عين زحلتا) وفروع كثيرة, لقد كان لهُ تعبهُ ونضالهِ في الحزب طوال سنوات, ونشأت في فرع عين زحلتا نوع من العصبيّة مع (نعمة ثابت), لا سيما أن بعض أقربائهِ كانوا آنذاك في إدارة ذلك الفرع.
وسمعت أن عريضة قد توقع وترسل إلى جريدة "التغراف" لمناصرة (نعمة ثابت) في موقفه.
وكان الرفيق (سليمان أبو صعب) ناموس مُديريّة (عين زحلتا)، رفيقاً عقائدياً لا يتأثر بالاعتبارات الشّخصيّة والقرويّة, وجاء يطلعني على الوضع, وطلب مني إذا كان بإمكاني مقابلة الزعيم وأخذ قرار بموضوع (عين زحلتا), وكنت في تلك الأثناء في عُطلتي الصيفيّة وقد عدتُ لتوّي من الجامعة, ولم أكن تابعاً للمديرية, بل كنتُ تابعاً لمديريّة الجامعة, وقررت أن أذهب في تلك الرّحلة.
ووضعت خُطة أن آخذ تعريفًا من الأمين (كامل أبو كمال), باعتبارهِ منفذًا عامًأ للغرب يومَ كنتُ طالبًا في الجامعة الوطنيّة في عاليه, وحيثُ انتميت للحزب, فهو المسؤول المُباشر الّذي يعرفني, ولم أفطن بأنني تجاوزت الجغرافيا ونطاق المُنفذيات فلم أمرّ بالتسلسل عبر منفذيّة الشّوف.
أخذت الرسالة من الأمين كامل, وتوجهت إلى ضهور الشّوير, حيث كان للحزب مخيم مركزي, وحيث كان الزّعيم يتردد أحيانًا على هذا المُخيم, كما فهمت.
وصلت إلى ضهور الشّوير وانضممت إلى طاولة جلس إليها الأمينان (إلياس جرجي قنيزح) و (فارس معلولي), ثُمَّ أتى المنفذ (فوزي معلوف) وسواهم, وذهبت رسالة الأمين كامل في طريقها إلى الزّعيم, وبعد ساعتين, وكان الطعام قد أُحضِر, شعرت وأنا منشغل بالمائدة كأن جاذبًا أخذ بصري, فتطلعت, فإذا الزّعيم على قاب قوسين منّا يحملُ رشّاشهِ ومعهُ شاب عريض المنكبين, عرفت فيمَ بعد أنّه الرّفيق (توفيق نور الدين)(1) من سرحمول الّذي كانَ المُرافق الأول لسعادة, ووقفتُ مؤدِّيًا التّحيّة, ووقف من كان معي, وتطلع الزّعيم بنظرات ثابتة في الحضور, ثُمَّ توجه إليَّ قائلًا: "الرّفيق رعد", فقلت: "نعم", قال: "تفضل".
صحبته إلى حيث وقف على تلك الهضبة, والضّباب يكسو هضاب ضهور الشّوير, وخلع قميصهُ وجاء توفيق يقذفُ بالماء من جرّة باردة, وسعادة يتنشق ويقوم بتمارينهِ في ظل هذا الاغتسال بالماء البارد, وكان يُحدثني: "ما الأمر". شرحتُ لهُ الأمر مُعتبرًا أن مشكلة عين زحلتا هي المشكلة, ولكن سعادة تطلع إليّ وقال: "هل مررت على منفذيّة الشّوف؟" قلت: "كلا", قال: "هل رفعت الأمر لعمدة الداخليّة بالتسلسل؟, قلت: "كلا", قال: "هذه مسألة تفصيليّة, الزّعيم يُعنى بقضايا الأمة الأساسيّة, وهذهِ مسألة لا تأخذ أكثر من خمسةَ عشرَ يومًا, ثُمَّ ينساها الناس, لأن كل قضيّة تخرج عن محور الحزب ومركزيتهُ لا يُمكن لها أن تدوم أو تبقى".
شعرت بتقلص المسألة الّتي اعتبرتها أنا ورفقائي في عين زحلتا مسألة المسائل, وشعرت وكأن الزّعيم يؤنبني, فأديتُ لهُ التّحيّة وانصرفت, وعدت إلى عين زحلت خائباً, وفي عين زحلتا جاءني في المساء الرّفيق سليمان, وسألني على الأمر فاطّلعتُه عليه, وبقينا واجمين إحساساً منا بأن تجاوباً لم يحصل في حل مشكلة نراها عصيّة ومهمة, كان ذلك مساء الجمعة, وصباح الأحد وجدتُ دراجة المنفِّذ (حسن الطويل) تنطلق بسرعة في طريق بيتنا, ولدرّاجة المنفذ قصّة جديرة بأن نرويها, كان المنفذ يقود دراجته وبصرهِ ضعيف, ومرّة صدم بوسطة البلدة على كوع, فأوقفَ دراجتهِ, وتجمّعنا نحن الرّفقاء في عين زحلتا حول المنفذ, وسُميَّ الكوع منذُ ذلك الحين ب "كوع المنفذ".
و"حسن الطويل" مناضل محترم وقدير, لكنّهُ عصبي أحياناً, وقد بدا لي ذلك في المرّة الأولى وفي هذه المرّة أيضاً.
وصلَ حسن الطويل ومعهُ شاب أسمر كثُّ الشّعر, ترجَّلا, وقال حسن: "الرّفيق إنعام رعد", قلت: "نعم, تفضل". وإذ به يفتح ظرفًا فيه قرار بحل مديريات عين زحلتا والباروك وكفرنبرخ, وتعيين إنعام رعد مفوضاً إدارياً لإعادة تنظيم هذهِ الفروع.
تلقيت الدرس, درس المؤسسات. سعادة دلّني على أنني خالفت نهج المؤسسات, على غير قصد ومعرفة, عندما لم أرفع المسألة عبر المنفذيّة إلى العمدة, ولكنهُ لم يترك طاقة وإمكانيّة مستعدة للعمل من دون أن يوظفها في المكان الّذي كان يعرف أن فيهِ الخلل, أراد أن يضع الأمور في أحجامها.
وهكذا بعد أربع وعشرين ساعة كان القرار صادراً عن عمدة الدّاخلية, وطبعاً بتوجيه من سعادة. بما لم أتصور أن تكون حدود مسؤوليتي, لقد طرحت وضع عين زحلتا فإذا بي مفوضًا إداريًا على العرقوب(2), لإعادة تنظيم فروعهِ, وكان صيفاً مليئاً بالعمل المتواصل وانتهينا إلى حصاد جيد وأُعيد تنظيم الفروع على نحو مقبول.
صيف عام 1948, دعوّنا سعادة إلى احتفال في عين زحلتا, فقد أصبحَ الوضع مُعافى فاستُقبِلَ سعادة وألقى مُحاضرة في البلدة نفسها الّتي كان يشكو من وضعها الإداري والحزبي قبل أشهر.
*
احتفال عين زحلتا
أعودُ إلى مرحلة 1948-1949 لأذكر هنا الاحتفال الّذي أقمناه في عين زحلتا, ودعونا إليه الزّعيم, وكان مسروراً جداً من دعوتنا, لأن عين زحلتا كان أن يُمكن أن تكون قبل سنة رمزاً لاعتكاف بعض الأعضاء, وها هي الآن تستقبل الزّعيم وهي مُتعافيّة حزبياً.
أقمنا الاحتفال في باحة الكنيسة المارونيّة, وجاء المواطنون من كل الفئات يستقبلون الزّعيم, وألقى خطابهِ المدوّن, في مجموعة "الانعزاليّة أفلست" تحت عنوان: "خُطاب عين زحلتا", وهذا الخطاب من أهم الخطب في شرح موضوع الانعزال, وفي شرح القضيّة السّوريّة القوميّة الاجتماعيّة إزاء الأفكار والاتجاهات الأُخرى.
وكان لي شرف تدوين هذا الخُطاب, وأذكر, وهذا مدوّن في النشرة الرّسميّة آنذاك, أنني قدّمت الزّعيم بكلمة, وأشار في خطابهِ إلى كلمات الرّفقاء.
بعدها زارنا الزّعيم في البيت وتعرّف على أبي وهنأهُ على جمال موقع بيتنا, وكانت سهرة عائليّة مريحة بعد أن اجتمع بالمُديريّة والرُّفقاء, وكان قد حضر منفذ عام الشّوف (حسن الطويل) مع رفقاء بعقلين, وعقد الزعيم اجتماعًأ للرفقاء وقال لهم: "بهذهِ المجموعة الصّغيرة سنُحقق جيش الأُمة الّذي يُحقق النصر".
في المساء, وقد كنا حجزنا للزعيم جناحًا في فندق فيكتوريا(3), جرت مُضايقات من قبلِ جماعة السّلطان سليم, تصدّى لها الحرس القومي, وأحطنا جناح الزعيّم بحراسة مُشددة, بحيث لم يشعر بأي إزعاج أو انزعاج, وقد حاول أحد صاحبي الفندق أن يسحب الحجز فتم احتجازه من قبلنا, وبمعرفة شقيقه الأكبر الّذي كان رجلاً عاقلاً ومُتفهماً, ومرت الأمور على خير.
في اليوم التالي, جال الزّعيم في البلدة ثم غادرنا, وكان يصحبه الرفيق (يوسف الدبس) الّذي تعرفت إليه آنذاك, وكان يتولى آنذاك مسؤوليّة منفذ عام البقاع الأوسط.
هوامش:
1. توفيق نور الدين: احد ابطال الحزب. للاطلاع على ما نشرت عنه، الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
2. العرقوب منطقة في قضاء الشّوف تضم قرى عين زحلتا والباروك وكفرنبرخ وقُرى أخرى مجاورة.
3. فندق فكتوريا: تحوّل في عدد من سنوات الحرب اللبنانية الى مخيم تدريبي للاشبال، وثكنة عسكرية للحزب.
|