الأمين نواف حردان(2)، كما عدد كبير من أدباء الحزب، ومفكريه وشعرائه وفنانيه، يستحقون أن يبقوا أحياء في وجدان القوميين الاجتماعيين، فتُنشر مؤلفاتهم، وتُقام الندوات والمناسبات والمحاضرات، وتُنشر الكتابات، ليس فقط وفاءً وتقديراً، إنما أيضاً من أجل تعريف مسيرتهم النضالية، وإنتاجهم في الأدب أو الفكر أو الشعر أو المسرح أو النحت، فلا "يموتون" وقد نسيناهم، وتوقفنا عن قراءة إنتاجهم أو الحديث عنهم.
إنها من مسؤولية عمدة الثقافة تخصيصاً، إنما أيضاً من مسؤولية المنفذيات؛ إذ يفيد أن تعمد إلى تنظيم الندوات، أو المعارض، أو المحاضرات للأفذاذ من شعراء وأدباء وفنانين وأيضاً: شهداء ومناضلين قوميين اجتماعيين، لمزيد من التعريف عنهم، للجيل الحالي والأجيال المقبلة.
كما أنه جيد أن يُدرج في مواد الاجتماعات الدورية في المديريات والمفوضيات بند خاص بتاريخ العمل الحزبي، في ذلك الفرع، أو التعريف بأحد الرفقاء الشهداء أو المناضلين.
ل. ن.
*
يأسرني في هذا الشاب الذي قارب السبعين إصراره على أن يكرّس فتحاً في الأدب عصا على الكثيرين، وهو الرواية التاريخية، فيقف بين ألكسندر دوما وجرجي زيدان وقفةَ شامخ، ويزيّن للقادرين سلوكَ هذا الفن الصعب حيث المزج الراقي بين المتعة والرسالة.
ويأسرني أكثر هذا العشق عنده للمخبّأ العظيم من حضارة شعبه، ينكبّ عليه كما على رسائل الحبيبة، يقرأه بنبض القلب، حتى إذا ما اكتملت لديه لوحة الحقيقة، أهداها للناس تفاحة شهية تُغري، لا لتقود إلى الخطيئة بل إلى الفضيلة.
ولأني حبيس إعجابي بنواف حردان، أعترف أمامكم بانحيازي إلى الأمين المؤمن فيه، معتذراً ممّن يريد مني نقداً، إذا لم يجد في ما أقول الليلة أكثر من شهادة.
على أنها ليست إلا شهادة صدق، يغلّفها انحناء أمام الجهد الجبار، وافتتان بقرار العطاء عنده، ولكن لا يشوبها التواء، فالحقيقة فوق كل الصداقات.
أيها السادة،
إذا كنت قد وضعت نواف حردان بين ألكسندر دوما وجرجي زيدان، ففي ذلك تعميم لا يستقيم في الميزان الدقيق. وعندي أنّ التمايز بينه وبينهما هو خط الضوء الذي عليه أقيس. ثمّة افتراق بين الرواية التاريخية وبين التاريخ مروياً، وعلى هذا الافتراق أُقيم حجّتي في تحديد البعد الرسالي عند نواف حردان، حيث القضية أكبر من الأسلوب.
فالتاريخ عند نواف حردان ليس أحداثاً تتراكم في سياقٍ زمني معيّن، إنه الفضائل التي يتميّز بها شعب من خلال قادةٍ قمم، حفروا بصماتهم على مسار الإنسانية جمعاء.
وقد تسألون عن الحقيقة التاريخية في كلّ ذلك. دعوني أفترض أن بعض تلوّنٍ قد يشوب هذه الحقيقة، فأين الخطأ، والرجل لا يكتب في التاريخ كعالِم، بل كعاشق ورسول؟
وقد تسألون عن الفراغ الذي بين شاهد وآخر ممّن يختارهم نواف حردان أبطالاً، فأقول: إنّ ملء هذا الفراغ ليس مهمة المبشّر، ونوّاف حردان قد يكون واحداً من الاثني عشر حول سيد الناصرة، أو من كوكبة الصحابة حول سيد مكة، ولكنه ليس في أي حال واحداً من محترفي التنقيب عن حفريات العالم.
بهذا الفهم أُطلّ على "زنوبيا" وكأني مطلّ على استعراض قيم، وعلى نوّاف حردان كأحد الدُّعاة المترهّبين لكشف مواهب أمته عبر مناراتها في التاريخ.
وقد أصدمكم إذا قلت إنّ هذا الكتاب ليس رواية وليس تاريخاً. إنه قصيدة، ولا تعجّبوا، فحين يبلغ الإيمان حدّ التوهّج الذي في صدر نواف حردان، يصبح كلّ حرف وردة، وكلّ حديث صلاة. هنا يتماهى التاريخ في العبادة، فتتلاحق الصفحات مطرّزة برغبات القلب حيث الولَه هو مادة الكتاب، وحيث الحلم هو المقدمة والفصول والخاتمة.
"إنّ في النفس السورية كلّ حق وكلّ خير وكلّ جمال"، هذا ما يريد إثباته نواف حردان، وليست زنوبيا سوى أحد براهينه.
إنه عميد التعبئة، هذا الجيّاش بالحب حتى الانتصار. هكذا قرأته دائماً، وهكذا سأظلّ أتّهمه حين أتفق معه كما حين أختلف، إذ لا مجادلة حول نبرة صوت القديسين.
أيها السادة،
إننا في زمن التشويهات الكبرى، ودوائر الأعداء منهمكة في تزويرنا لإلغائنا. والإلغاء يبدأ من ذبح التاريخ، وما يحصل اليوم على رميةِ عينٍ منّا هو أحد مظاهر الذبح. فليس سلاماً بين متخاصمين هذا الذي جرى بين أوسلو ووادي عربة وطابا. إنّه الذبح تمهيداً للإلغاء، فكيف نحتفظ بأعناقنا في مواجهة الجزّار الذي باتَ يتنقل بين كنائسنا والمساجد بحراسة كوفية أنكرت دمها وتاريخ الأيادي التي غزلتها؟!
لقد اكتشف نواف حردان الجواب قبل أن يطرح السؤال، لكأنه كان رائياً ما حدث قبل حدوثه، فأعدّ ما استطاع من قوة ورباط خيل.. امتشق التاريخ سلاحاً في وجه التزوير، ودعا إلى المبارزة.
إنّ الأمة تنجب أبطالاً يزعزعون الإمبراطوريات، لا تتراخى وتنهزم أمام المسوخ. هذا درس أول.
التاريخ حالات، وكلّما كثرت حالاته كثرت عبره، والشعب الذي يواجه كل الحالات على مدى عشرة آلاف سنة ويبقى، هو شعب جدير بالحياة. هذا درس ثانٍ.
"إنكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ". هذا درس ثالث.
بهذا، أيها السادة، تنتفي الضرورة إلى النقد، لتطل الضرورة إلى الوعد. الوعد بأنّ المضمر في صدر الأمة هو غير الظاهر في حالة العياء، وأن تكون زنوبيا رمزاً خير من أن تظلّ خبراً، وأن تُقدَّم على أنها صاحبة مشروع حضاري قومي إنساني هو الردّ على كلّ المتشدّقين بنهاية التاريخ، المطبّلين في عرس الخيانة.
وأن يكون مشروع زنوبيا الحضاري القومي الإنساني قد انطلق من بادية الشام، فتلك إشارة إلى المشروع الذي يحميه اليوم من قلب الشام، حفيد زنوبيا ووارث دورها، "حافظ" سوريا، ردّاً على مهرجانات الذبح القومي والإلغاء المنهجي لهويّتنا وحقنا ووجودنا، هكذا يصبح التاريخ خطَّ الدفاع الأثبت في معركة البقاء. وحين نتشبّث بحفنةٍ من أرضنا، فبقطعةٍ من تاريخنا نتشبّث. وحين تضعف فينا الهمم، نستلهم عظماء تاريخنا لنستمدّ من رائع عطاءاتهم قوة نغيّر بها وجه الكون.
ولعلّ اللحظة التي فيها اختار نواف حردان إضاءة التاريخ، هي اللحظة الأكثر ظلمة في زمننا. من هنا يبرز دوره كشافاً لطريق الصمود، وحسبه هذا الدور حتى لا يعود مهماً الكلام عن الحبكة في الرواية أو الثابت في التاريخ. وهو لو خُيِّر بين أن يكون في قائمة الأدباء أو في قائمة المناضلين، لاختار الثانية على الأولى. مع أنّ له من ملكات الأدب أرقاها، خصوصاً هذا القصُّ السلس الجاذب المقنع، وهذه اللغة البسيطة المنيعة العصيّة على الابتذال.
وبعد،
فسنبقى أيها المؤمن الأمين نستلهم نارك التي لا تخبو، ونستظلّ عباءة إيمانك المقدسة. نكتب عنك بشغف التلامذة لا برصانة المحللين، فأنت عندنا ذخيرة لأيام صعبة، وسيف نقطع به عنق التنين. فاضرب بعصاك يا موسانا، وازرع هذه الأرض مناراتٍ أيها الكبير العاشق سِيَر الكبار. وحدهم أمثالك يعصموننا من السقوط، فاكتب، واكتب.
إن عظماءَ كثر من شعبنا ما زالوا ينتظرون.
هوامش:
(1) غسان مطر: شاعر فذّ ورفيق مناضل. مُنح رتبة الأمانة. تولّى في الحزب مسؤوليات عديدة منها عمدة الإذاعة.
انتُخب نائباً عن مدينة بيروت. خسر ابنته الصبية "لارا" وعقيلته الرفيقة المناضلة ماغي عازوري.
مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(2) نوّاف حردان: للإطلاع على النبذة المعمّمة عنه، والأخرى عن مؤلفاته الكثيرة، الدخول إلى الموقع المذكور آنفاً
|