هذه النبذة من حضرة الأمين الصديق سمير رفعت، غنية بالمعلومات وبالمثُل القومية الاجتماعية ننشرها كما وردتنا، مع الكثير من التقدير، منتظراً دائماً أن يدوّن الأمين سمير رفعت الكثير الممتع والصادق من مسيرته الحزبية الغنية بالأحداث وبالمواقف القومية الاجتماعية، فتكون عبرة وزاداً وبعضاً رائعاً من مسيرة يجب أن تُعرف.
ل. ن.
*
قُطع البثّ الإذاعي حوالى الساعة الحادية عشرة كما أذكر من قبل ظهر يوم الثامن عشر من تموز العام 1963، وكانت أنباء محاولة الانقلاب قد سرت في دمشق وسُمعَت أصوات طلقات نارية متفرقة.
كنت في بيتي في أبو رمانة، وفضّلت عدم الحركة في ظلّ هذا الجو غير الواضح، إلى أن سمعت صوت رقيب من جماعة سليم حاطوم المتواجدين في مبنى الإذاعة والتلفزيون منذ الثامن من آذار من العام نفسه.. سمعته يناديني من أمام البيت، خرجت إلى الشرفة فوجدته مع ثلّة من الجنود طالباً مني النزول فوراً فهم بحاجة إليّ في الإذاعة والتلفزيون.. جارتي في البناء المجاور صرخت بي من بيتها وأنا أهمّ بارتداء ثيابي في غرفتي: لا تذهب يريدون اعتقالك.
نزلت بسرعة ورافقت الرقيب "خليل كسيري" وجنوده إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين، فتعرّضنا لطلقات نارية من الجوانب كافة إلى أن وصلنا، فوجدت النقيب سليم حاطوم يمسك رشاشه يهدّد بعض مهندسي الإذاعة والتلفزيون بالقتل لأن الإذاعة قد قُطعت، معتبراً أنّه عمل تخريبي داخلي. حاولت تهدئة روعه، معلّلاً له بأنّ قطع الإرسال قد يكون تمّ من مبنى الهاتف القريب من محطة الحجاز. غضب من حديثي قائلاً: لا تكرر ما يقوله هؤلاء الكلاب منذ نصف ساعة.. حاولت مرة ثانية أن أطلب منه إرسال قوة عسكرية من عنده إلى مبنى الهاتف كي يكتشف إذا كان مع "الثامن من آذار" أو مع الذين يقومون بالانقلاب. وبالفعل تمّ ذلك، واشتبكت القوة المرسلة مع محتلي مبنى الهاتف واسترجعته، فقام المهندسون بإعادة الإرسال بعد دقائق.
بعد إعادة البثّ الإذاعي طلب مني سليم حاطوم أن أقوم بتغطية البث، لأنه لا يثق بالموجودين وأكثرهم ناصريون على حد تقييمه، قال لي: أعرف أنك سوري قومي، أنت مع مَن؟ معنا أم معهم.. قلت له أنا مع سوريا.. وسأعمل ضمن هذا الانتماء، طلبت منه بعض المهندسين الذين لم يستطيعوا الوصول، حتى أني ركبت سيارتي مع بعض الجنود لأحضر مهندساً يقطن في المهاجرين، وفي طريقنا رأيت أمين الحافظ وصلاح جديد يقفان عند تقاطع حديقة المدفع في أبو رمانة، صرخ أمين الحافظ بصوته الجهوري منادياً عليّ.. توقفنا.. قال لي: ما هي أخبار الإذاعة؟ قلت: لقد عاد البث ولن يُقطع مرة ثانية... استغرب مروري في هذه الأحداث.. وطالبني بأن أحتاط.
جاء صلاح البيطار رئيس الوزراء إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون لتفقّد الأمور، وكان الجيش قد اعتقل عدداً من مهاجمي مبنى الإذاعة والأركان، وأقعدوهم على الأرض في صالة الاستقبال. دخلت والبيطار إلى الصالة وكان العشرات من مقاتلي الانقلاب يجلسون على الأرض.. سأل صلاح البيطار أكثر من فرد منهم لماذا قمتم بمحاولة الانقلاب؟ كان الجواب: لإعادة الوحدة مع مصر. سألهم: كم دُفع لكم؟ الجواب: ثلاثمئة ليرة سورية...
فشل الانقلاب وقُضي على المهاجمين وأُعدِم من أُعدم، وفي اليوم الثالث كنت أرتاح قليلاً على سرير سليم حاطوم في غرفته بوجود بعض الضباط الذين أعرف بعضهم.. جاء من يقول إنه شوهد بعض المتسللين في البساتين المقابلة للإذاعة والتلفزيون، أي مكان مبنى الشيراتون الآن. عولج الموضوع عسكرياً، وقام ضابط يجلس خلف الطاولة بكتابة البيان.. سألني عن أرقام البيانات، ثم طلب مني إذاعة البيان الذي كتبه بخط يده. قرأت البيان وأنا ما زلت مستلقياً على السرير، فوجدت فيه خللاً إعلامياً، اعترضت، أبديت رأيي موجهاً كلامي لسليم حاطوم. عندها قال لي: عليك إذاعة البيان كما هو، فهو بخط رئيسنا المقدّم حافظ الأسد.. أذعت البيان، ونسيت الموضوع الذي كان في الواحد والعشرين من تموز من العام 1963، وفي تلك الفترة تعرّفت على عبد القادر قدورة الذي أتى من الحرس القومي يساعد في العمل الإذاعي، وبقي يعمل مذيعاً بعد ذلك حين كنت أنا كبير المذيعين.
مرّت سنوات طوال.. هربتُ من الشام إلى الأردن بعد إصدار مذكرة توقيف بحقي، ومن الأردن إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود في العام 1970، وحين تقرّر في الحزب السوري القومي الاجتماعي لقاء السيد الرئيس حافظ الأسد في العام 1975، كنت في عداد الوفد.. ونحن نصافح الرئيس الأسد أمسك بيدي متسائلاً: أما زلت قومياً اجتماعياً؟ أجبته: إنها فصيلة دمي، ولا يقدر الإنسان أن يغير فصيلة دمه. أُعجب بالجواب، وجلس يقول للوفد كيف أني رفضت إذاعة بيان في العام 1963 كتبه بيده.. استغرب الجميع عدم نسيانه لتفاصيل الحادثة بعد هذه السنوات. طلب مني أن أعود إلى العمل في التلفزيون، فقلت له هناك سببان يمنعاني من ذلك؛ الأول أنّ مذكرة التوقيف بحقي ما زالت سارية المفعول، والثاني عملي وإقامتي الدائمة في لبنان، فأنا رئيس تحرير مجلة الحزب "البناء".. ضحك الرئيس الأسد طويلاً معلقاً: أعتقد أني أستطيع أن أُلغي مذكرة التوقيف الصادرة بحقك، هذا أولاً، أما ثانياً فآمل أن تبيعنا يوم عطلتك في بيروت، فأنتم تعطلون السبت والأحد، تعال إلى دمشق وقم بعملك في التلفزيون على أن تعود يوم الاثنين إلى بيروت. وبالفعل، امتثلت لرغبة الرئيس الأسد منذ العام 1975 وحتى العام 1982 سنة الاجتياح الإسرائيلي التي أُجبرت بعدها أن أنتقل إلى الشام.
وفي اليوم التالي لانتقالي إلى الشام في عداد اللواء 85 للجيش الشامي الذي انسحب من بيروت إلى دمشق، اتّصلت بالقصر الجمهوري مبلغاً المكتب الخاص أني استطعت الخروج من بيروت رغم حصارها، وكان أن اغتيل بشير الجميّل، فاتصل القصر الجمهوري بي طالباً حضوري فوراً للقاء السيد الرئيس حافظ الأسد، ورغم أنّي كنت لا أملك صلاحية التأكيد أو النفي فقد وضعته في صورة العملية واسم منفِّذها ومخطِّطها. عندها طلب مني أن لا أعود مطلقاً إلى بيروت لدواعي أمنية تتعلّق بسلامتي الشخصية، وقال لي إنّه سمع من السيد محمود الزعبي إطراءً على النصيحة التي أعطيتها له إبان تحضيره لزيارة لندن، وأنه تمنى أن أكون في عداد مكتب المستشارين. وخلال زياراتي الأسبوعية إلى الشام لقراءة نشرات الأخبار التلفزيونية يومَي السبت والأحد، أمرني حضرة رئيس الحزب الأمين إنعام رعد أن أقوم بزيارة رئيس مجلس الشعب الشامي الأستاذ محمود الزعبي، فلديه بعض التساؤلات عن الوضع السياسي في بريطانيا، وعليه أن يلبّي دعوة برلمانية لزيارة لندن. وبالفعل، لدى وصولي إلى الشام اتصلت يوم السبت بالرقم الذي أعطاني إياه حضرة رئيس الحزب. عرّفت المتكلّم عن اسمي، فرحّب بي ترحيباً حارّاً وقال إنّ رئيس المجلس ينتظرني فوراً.
توجّهت إلى مجلس الشعب في الشام ودخلت مكتب رئيس المجلس الذي لم أكن أعرفه من قبل، وبعد ترحابه عرض أنّ لديه دعوة لزيارة بريطانيا وقد تمّ تحديد الموعد بعد أخذ موافقة السيد الأمين العام رئيس الجمهورية حافظ الأسد، فقلت له إنّي أريد أن أبدي رأيي بتلك الزيارة، فاستغرب السيد الزعبي ثم استمع إلى رأيي بضرورة إلغاء الزيارة برمّتها. سألني لماذا؟ قلت له إنّ الأرجنتين تخوض حرباً مع بريطانيا حول ملكية جزر مالفيناس، أو ما يسمّونها فوكلاند، سألني: وما دخل زيارتي بتلك الحرب؟ أجبته أنّ لنا في الأرجنتين وفي أميركا اللاتينية ملايين من المتحدرين من أصل سوريّ، وقد يكون في عداد الجيش الأرجنتيني منهم الكثير، فماذا يكون موقفهم وشعورهم إذا قام رئيس مجلس الشعب في الشام بزيارة بريطانيا في تلك الفترة، وقد يكون بينهم شهداء وجرحى..
استغرب السيد الزعبي هذا الربط، وعلّق بأنه أخذ موافقة السيد رئيس الجمهورية على هذه الزيارة التي حدّد زمانها. وقام بالاتصال أمامي بالقصر الجمهوري عارضاً على مدير المكتب الخاص الأستاذ محمد ديب دعبول الرأي الذي أبديته له بإلغاء الزيارة، وقد عرضه بِاسمي، وما هي إلا دقائق حتى جاء ردّ رئاسة الجمهورية بأنها تشكر ممثّل الحزب السوري القومي الاجتماعي سمير رفعت على هذا الرأي، وتطلب من السيد الزعبي إلغاء الزيارة فوراً.. وهكذا كان.
*
في مجلس الشعب، بالإضافة إلى عملي في التلفزيون الشامي، وبعد أيام قليلة اتصل بي الأستاذ الزعبي طالباً لقائي، وبالفعل ذهبت إلى مجلس الشعب حيث عرض عليّ أن أتعاقد مع المجلس بصفة مستشار سياسي وإعلامي، فشكرت رئيس مجلس الشعب على ثقته الغالية بي وتمنّيه للرئيس الأسد بأن أكون مستشاراً، ولكنّي اعتذرت عن عدم قبول الترشيح مباشرة من دون موافقة قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ إذ يمكن أن يسمّي شخصاً آخر لهذه المهمة، وأردت بهذه الخطوة أن أكرّس موقعاً للحزب في الدولة الشامية، لا أن يكون الانتقاء شخصياً.
وأخذت موعداً لرئيس الحزب الأمين إنعام رعد الذي أصبح في الشام، ولرئيس المكتب السياسي في الشام الأمين عصام المحايري، وذهبنا لملاقاة رئيس مجلس الشعب الذي رحّب بنا وعرض الموضوع، فكان ردّ الأمين رعد المعروف بلباقته إذ قال له: "لو طُلب منّا تسمية شخص من حزبنا لهذه المهمة لما وجدنا إلا الأمين سمير رفعت لها، وهكذا كان وتمّ تعاقدي مع مجلس الشعب بصفة مستشار سياسي وإعلامي، وكنتُ أول حزبي أُعيَّن على أساس انتمائي الحزبي الواضح واقتراح وموافقة قيادة الحزب الذي كان ما زال ممنوعاً من العمل العلني، ودخلت مجلس الشعب كمستشار إلى جانب مستشارين؛ الأول أنور حمادة الوزير السابق للشؤون الاجتماعية ممثّلاً أحد الأحزاب الناصرية، والثاني موريس صليبي عضو مجلس الشعب السابق ممثلاً الحزب الشيوعي السوري، والحزبان يعملان ضمن نطاق الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في الشام.
وقد تعاقب على رئاسة المجلس خلال عملي الأساتذة محمود الزعبي الذي تسلّم رئاسة الوزراء بعد ذلك، وعبد القادر قدورة ومحمد ناجي عطري ومحمود الأبرش ومحمد جهاد اللحام، ثم هدية عباس التي طلبت منّي أن أقدّم لها نبذة تعرّف بشخصي، ولمّا قرأت تلك النبذة قالت لمحدّثها: كيف أستطيع أن أتعامل مع شخص يحمل كلّ تلك المسؤوليات الحزبية، فالأفضل له أن يكون خارج المجلس خلال ترؤّسي لمجلس الشعب، وهكذا كان، إذ تقدّمت باستقالتي للأسباب ذاتها.
وخلال زيارة وفد مجلس الشعب إلى البرازيل بعد تأسيس منظمة البرلمانيين العرب والأميركيين من أصل عربيّ، وكنت في عداد الوفد الذي كان برئاسة رئيس المجلس محمود الزعبي، أقام لنا القنصل العام الشامي في ريو دي جانيرو حفل عشاء في منزله، وبعد انتهاء العشاء وعند عودتنا إلى الفندق رأيت رئيس المجلس محمود الزعبي ينتظرني أمام الفندق برفقة الرفيق حنا حجار(1) ورفيق آخر. قال لي: إننا ننتظرك، فقد طلبت من الرفيق حنا أن يأخذنا إلى سهرة لا تُنسى طالما أننا في الريو وسنغادرها غداً إلى سان باولو. هنا أجبته بلا تردد: لا أظن أننا قدمنا آلاف الكيلومترات من الوطن لكي نسهر سهرات لا تُنسى، والتفتّ إلى الرفيق حنا حجار، حيّيته التحية القومية وطلبت منه أن نغادر.
وخلال زيارة الرئيس القبرصي مكاريوس إلى دمشق، أَولَمَ له رئيس الحزب الأمين إنعام رعد في منزله، ودعاني وزوجتي إلى هذا العشاء الذي كان يضمّ عبدالله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث، والأمين عصام المحايري وزوجته ومحمود الزعبي وآخرين... وعند دخول السيد الزعبي التفت إلى زوجتي قائلاً وممازحاً: لقد علّمنا زوجك العفّة في سفرتنا إلى البرازيل. هنا علّقت زوجتي بنبض الحدّة: كم نتمنى أن تكون عفيفاً دون أن يعلّمك زوجي العفّة وهو الذي يتميّز بها.
وعند عودتنا من حفل العشاء في منزل الأمين إنعام، كان الأمين عصام المحايري وزوجته برفقتنا، فعلّق "بدماثته" الدمشقية أنّ الملاحظة كانت قاسية قليلاً أمام جميع الحاضرين، خاصة وأنه صاحب نظرية تدوير الزوايا التي طالما اختلفت معه عليها، إذ ليس في قاموسي إلّا الزاوية القائمة.
هوامش:
(1) حنا حجار: من بلدة بدادا (صافيتا). بعد نشاطه الحزبي في الوطن، تولّى في البرازيل مسؤوليات حزبية توّجها بمسؤولية منفذ عام. اقترن من الرفيقة كلود يورغاكي فهد، وأنجب منها سومر وبابل. رفيق مثقف ومناضل، خسرناه باكراً. للإطلاع على النبذة المعممة عنه مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
|