من الرفقاء الذين عرفتهم طالباً في كلية التربية في الجامعة اللبنانية في ستينات القرن الماضي ثمّ متابعاً دراسته الجامعية في إسبانيا، أذكر بكثير من الحب ومن الحزن أيضاً الرفيق الأديب، الوجداني الطافح بأحاسيس المروءة والوفاء سيمون الديري.
كانت علاقتي به مميزة، ولمّا غادر إلى إسبانيا وعرفت بما واجه من ظروف قاسية، اتصلت بالمندوب المركزي الأمين الدكتور جان قازان(1) فأبدى كل اهتمام ورعاية.
ولما عاد الرفيق سيمون، اتصل بي أكثر من مرة من مكان إقامته في بلدة شكا. كان يشكو لي وضعه وآلامه، وكنت أستمع إليه باهتمام وأدعوه للحضور إلى بيروت فنلتقي.
وعندما علمت أن الأمين الصديق جورج ضاهر متأهّل من الرفيقة ليلى وهي ابنة عم الرفيق سيمون، رحت اسأله عنه، وأبدي اهتماماً ورغبة أن ألتقي به.
*
منذ أشهر عرفت أنّ الرفيق سيمون فارق الحياة.
إلى روح الرفيق الصديق سيمون الديري، أرفع ما كنت نشرته بتاريخ 16/3/2010 عن عمدة شؤون عبر الحدود بعنوان: "فؤاد سليمان أديب مميز من أدباء النهضة"، نقلاً عن الرسالة الجامعية التي كان قدّمها الرفيق الكاتب والأديب سيمون الديري، ثمّ صدرت في كتاب عام 2002 عن "فجر النهضة".
آمل من الرفيق الصديق نبوغ نصر أن يكتب عن الرفيق الأديب سيمون الديري، وقد عرفه جيداً في ستينات القرن الماضي عندما نشط الرفيق نبوغ في الوسط الطالبي وتولى مسؤوليات وكان له حضوره اللافت على مدى سنوات غير قليلة.
وأدعوه أيضاً إلى أن يكتب عن الكثير مما يعرف عن والده الرفيق المناضل إلياس نصر، وهو من أوائل الرفقاء في بلدة بتعبورة، وعن رفقاء آخرين منهم الدكتور حسيب بربر.
وآمل أيضاً من حضرة الأمين جورج ضاهر، ومن الرفيق عوني الديري (شقيق الرفيق سيمون) أن يكتبا ما يفيد سيرة الرفيق الراحل سيمون الديري.
*
فــؤاد ســلـيـمـان
أديب مميز من أدباء النهضة
سـيرتـه
مولده: هو فؤاد بن الشيخ خليل، بن موسى، بن جرجس سليمان الحصني. ولد في فيع، قرية من قرى الكورة الخضراء الأربعين، تقع على تلة بيضاء التربة، مشرفة من الشمال والشرق على سهل فسيح من الزيتون وأحراج السنديان والكروم، ومن الغرب والجنوب على شواطئ شكا وأنفة، تكوّن مع بترومين وددّه وبدّبا وعفصديق وقلحات القسم الأسفل من الكورة وتعتبر مع قلحات مدخلاً لدير البلمند.
صادف مولده عام 1911 في الصيف بعد الحصاد قبل عيد مارسمعان الواقع في أول أيلول كما تقول أمه العجوز، مرجحة مولده في يوم من شهر تموز، أبصر النور في الغرفة الشرقية من البيت القرميدي الريفي المزروع على "بيادر" فيع حيث يسمع الجرس المترنّح في كنيسة مار سمعان المجاورة.
هو صغير العائلة المؤلفة من عفيفة واديل وعفيف وموسى وفؤاد. كان جدّه الشيخ موسى جرجس سليمان شيخ صلح مدة طويلة في بلدته فيع، وقد نزح إليها من بلدة الحصن في الشام، لذلك تعرف العائلة باسم آخر هو عائلة الشيخ خليل سليمان الحصني أو عائلة خليل الشيخ. كان أبوه الشيخ خليل سليمان شيخ صلح في القرية، بفرمان من الدولة العثمانية أصبح مندوبها الرسمي. وكان خيّالاً فارساً حوّاداً. هاجر إلى المكسيك طلباً للرزق، واستغرقت هجرته الأولى ثلاث سنوات، وبعد عودته مكث عشر سنوات بنى خلالها بيتاً وأولد عفيف وموسى وفؤاد. وكانت هجرته الثانية قبيل الحرب العالمية الأولى، طالت قرابة خمسة وثلاثين عاماً، يمد خلالها العائلة بالمال.
وإلى هجرته يشير فؤاد في "درب القمر": "أخذه البحر منا في الفترة العنيفة وفي العنفوان الأشد، وأعاده البحر ذات يوم على غير ما أخذه منا" ولمّا عاد كان فؤاد يزاول التعليم وحرفة الأدب (1).
أما أمه فهي كريمة نقولا الحايك من بشمزين. ولدت عام 1874 وماتت في 18 حزيران 1971. تعهدت الأولاد بحنان بعد سفر ربّ الأسرة.
من هذين الأبوين، أب يكافح في سبيل لقمة شريفة فيهاجر، وأم تبذل النفس في تعهد أبنائها بتربية صالحة وحنان جمع عطف الأبوة والأمومة، ولد سليمان يكرج فوق تربة فيع فيسري عبيرها في دمه وروحه.
طفولته: يقول فؤاد سليمان عن طفولته: "ما زلت حتى اليوم ألعب في جنباتها مع أتراب مثلي منذ عشرين سنة، وأمرّغ وجهي بترابها وأتمدد على أعشابها وأختبئ في معابرها ومنعطفاتها. أراها تتأبط كتابها ورغيفها. مملّعة القميص، مبعثرة الشعر، مخدّشة، مجرّحة، سفيهة، وقحة. أنا أراها الآن في هذه الليلة الباردة تحاول أن تنتزع القلم مني لتجلسني بجانب أمي قرب الموقـد الدافئ، أقفقف على النار، رأسـي إلى كتف أمي، أصغي بقلبي وعيني إلى حكايات كانون الجميلة".
عاش طفولته قبل الحرب وبعدها، وعانى أهوالها ونكباتها من جوع وتشـرّد وبؤس. كانت طفولته مضطربة وسط الظروف الاجتماعية التي أوجعت طفولته ثم ألهبت حنينه إليها من بعد. ولم تكن طفولته مميزة عن طفولة أبناء الريف الملتصقين بخيرات الأرض ومواد الهجرة. ونشـأ فؤاد شـبه يتيم في غياب أبيه تتعهده أمّه. وكانت طفولته في فيع ريفيـة خالصة، يكرج على بيادر الضيعة ويسـرح بين الكروم مرمياً في حضن الطبيعـة والأرض يرتوي من ينابيعهـا ويشـنّف أذنيه بأصوات بلابلها، تتكيف حياتـه مع الفصول مواقد دافئة وحكايات سـمر في كوانين ولعباً ومرحاً و"تشـيطناً" طفولياً في الربيع والصيف، يلسـعه البرد وتدفئه الشـمـس وترتوي عينه من جمالات الحياة القروية، حياة الفلاحين والرعاة.
وتنازعت النشـأة الريفية والظروف الاجتماعية في وجدانـه الطفولي، في كلامه عن جوع الحرب صدى عذابه وعذاب من نشأ معهم في تلك المرحلة:
"جوع.. أطعمنا في لبنان، مرة في التاريخ، لحم الجيف المنتنة في القبور، من القبور نبشـناها لنشـبع، وأطعمنا لحوم أطفالنا، نذبحهم لنأكل، وأكلنا الديدان من جيف البغال الميتة، أكلناها يومذاك، أنا ما ذكرته عهداً إلا وتنشـف دمائي في عروقي".
دروسـه:
كانت مدرسـة الضيعة الخاصة، وصاحبها إبراهيم شـاهين، مدرسته الأولى، وانتقل بعدها إلى مدرسـة دير البلمند عام 1921 – 1922 أيام المطران الكسـندر جحا وكان من أسـاتذته فيها البروفسـور نقولا شـاهين(2) وأخوه قسـطنطين وأسـتاذ روسـي.
عاد من مدرسـة دير البلمند إلى مدرسـة الصفـا بين فيع وقلحات. مدرسـة أسـسـها الشـاعر نعمان نصر صاحب مجموعـة "شـقائق النعمان" يعاونه الشـاعر سـليمان نصر. وكان من أسـاتذة فؤاد سـليمان في الصفا بالإضافة إلى نعمان نصر وسـليمان الأسـتاذ نسـيم نصر. يقول جبران جريج(3): كان الصف مؤلفاً من: جبران جريج، ميشـال أسـعد، أيوب ليّوس، جرجي إبراهيم عبد الله، عبد الله قبرصي، فؤاد سـليمان. وقضى فؤاد في مدرسـة الصفا سـنتين: 1923 – 1925 وفي الفصل الدراسـي الأخير أشـعرنا الأسـتاذ سليمان نصر أن مدرسـة "الصفا" سـتغلق أبوابها نهائياً. وفي الأسـبوع الأخير علمنا أنّ الأسـتاذين سـليمان ونسيم نصر تعاقدا مع المدرسـة الأرثوذكسـية للصبيان في طرابلـس فاتفقنا أن ننتقل معهما. ويوم انتقل فؤاد إلى طرابلس كان قد حصّل دروسـه الابتدائية في مدرسـة الضيعة والبلمند والصفا. مكث فؤاد سليمان في مدرسة الصبيان الأرثوذكسية سنة 1925 – 1926" وقد اعتبرناها سنة تمهيد وتركيز للصف الرابع في معهد الفرير "كما يقول جبران جريج". وكان أستاذه للغة العربية نسيم نصر.
انتقل بعدها إلى معهد الفرير في بيروت. وظل في المعهد من عام 1927 إلى 1931 ليتخرّج منه عام 1932 حاملاً شهادة البكالوريا، وقد درّسه الأدب العربي خلال السنة الأخيرة بطرس البستاني.
وتابع دروسه في معهد الآداب الشرقية سنة 1943 فنال شهادة الدبلوم بناءً عل بحث قدّمه عن جبران.
شخصية فؤاد التلميذ: تفتح ميلـه الأدبي باكراً، وفي ذلك يقول عبد الله قبرصي: "درس بعقلية الأديب، الشـاعر، العصبي. لم تكن تهمّه الرياضيات ولا باقي المواد. كان يدرسـها لينجح في الامتحانات بلا رغبة وبلا جلد. أما الأدب فقد اسـتهواه منذ أبعد سـني طفولته. وعلى شـرفة بيتهم مثلت مسـرحية "الآباء والبنون" لنعيمه، وكان من أبطالها فؤاد رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثانية عشـرة من عمره. كان يمثل دور فتاة "ولم تكن حياة فؤاد المدرسـية لامعة إلا في الإنشـاء العربي والخطابة. كان دائماً في الطليعة".
ويزكي قول الأسـتاذ قبرصي زميل آخر لفؤاد هو جبران جريج فيقول: "كان يدرس الرياضيات لأنها واجب". أما أسـتاذه نسـيم نصر فيكشـف عن ذكائه وقلة دأبه واجتهاده: "عرفته مبكراً في نباهته غير ملحّ على الشـدة في التحصيل، فكأنه كان يريد أن يكتفي بما يتعلمه من أصول تسـاعده لجعل البيان عن معرفته وافياً بأدائها صحيحاً. كان رفاقه يدرسـون دائبين ولكن هو على قلّة ما يدرس متنبّه الرأي مسـتيقظ التفكير". ويعلل الأسـتاذ نسـيم نصر سـبب تقصيره: "السـلحفاة لم تسـبق الأرنب إلا مرة واحدة، وذلك في خيال لافونتين. وهو يقصد أن صاحب الموهبة هو السـبّاق مهما حصّل أصحاب الشـهادات".
في معترك الحياة
حبّه – زواجه: باكراً جداً أحبّ فؤاد سـليمان وخفق قلبـه على درب القمر في فيع. أحب التي أصبحت فيما بعد رفيقـة حياتـه جوزفين خوري ابنة عمته وابنة الأكسـرخوس غفرائيل جبور كاهن فيع آنذاك. كان حبّه ريفياً شـاعرياً فمنحـه روحه وأعصابه وحافظ على براءته وكتب فيه القصائد والمقطعات. يقول جبران جريج: "في السـنوات الثلاث 1927 – 1930 (بين السـادسـة عشـر من عمره والعشـرين)، وهي بعض من الفترة التي عشـق فيها والتي كانت بالنسـبة لنا سـنوات مراهقة، ما تحدثنا يوماً بموضوع الجنـس، مع أننا كنا نتبادل المعلومات الكثيرة عن غزلياتنا الأفلاطونية العذرية، وما كان للجنـس أية علاقة بالغزل".
وانتهى حبّـه الريفي إلى الزواج، ولكن التقاليـد الطقوسـيّة وقفـت حاجزاً بادئ الأمر دون إتمام زواجه. تقول السـيدة زوجته:
"مُنعنا من الزواج لأن تقاليد الطائفة الارثوذكسـية تقتضي بأن لا يتزوج الإنسـان من ابنة عمته". ومن جراء ذلك وعناده سـجّل فؤاد سـليمان موقفاً بين الانتحار والشـجاعة. ورد على لسـان عبد قبرصي رفيق ذكرياته: "الجميع كانوا ينظرون إلى الحبيبين مجالاً لإنشـاء عائلة طيبة منسـجمة، ولكن الجميع لا يرضون عن هذا الزواج لأنه خروج عن قواعد الدين". كانت ضربة أولى صوّبها فؤاد سـليمان إلى الذين أرادوا أن يضحّوا به وبحبيبته عن حسـن نية أنه أطلق يوماً من الأيام النار على جنبه من مسـدس صغير، لقد هزَّ بهذه المحاولة قلوب القرية، فتراخت الأعصاب ولانت الإرادات وتظاهر الكل بالقبول، وصفت الدنيا أياماً للحبيبين.
قدر فؤاد سـليمان بموقفه المغامر أن يحرر ذاته فتزوج ابنة عمته جوزفين، من فتيات الكورة الراقيات، خريجة مدارس طرابلـس الأرثوذكسـية، وتم قرانهما في أيار عام 1941 وفؤاد في الثلاثين.
فؤاد الزوج والأب: اختصرت زوجته حياتهما قائلة: "كان زوجاً مثالياً يحب الحياة العائلية، وكان بيتنا ملتقى أصدقاء وأدباء كثر". وكلمتها بعد دفنه، والناس يحاولون العودة بها إلى المنزل، تعبّر عن أواصر الألفة التي كانت تجمعهما: إلى أين أعود؟ إلى البيت؟ لقد كان فؤاد بيتي.
أنجب ثلاثة: ربيع(5)، وليد(6)، وسـام(7). ويوم توفي كان ربيع يبلغ من العمر تسـع سـنوات ووليد ثماني سـنوات ووسـام خمـس سـنوات.
الرفيق فؤاد سليمان وزوجته واطفاله الثلاثة مع احد اقاربه
غمرهم وهو حيّ بحنان، وأصر على أن يرتووا من طفولتهم.
وفي سـجلّ الولادة البيتي كلمة بخط يده موجهة إلى ابنه ربيع حين ولادته عام 1942: "عشـت ربيعاً ناضراً يا بنيّ، لقلبي وقلب أمك التي أحبهـا كثيراً، ولهـذا البيت الذي يسـتقبلك بلهفة وحنان ولهذه الدنيا كلهـا. ها شـبابي وشـباب أمك المخلصة يعيشـان في شـبابك أنت ولأيامك كلها ولسـعادتك، وها أنت طيب من حب حملته أنا وأمك في قلبينا زمنـاً طويلاً فكنت الثمرة اليانعة والأمل الطري والربيع الحلو الإلهي. لتحرسـك قلوبنـا يا بني وليحرسـك الله.
وفي بيته مجموعة من الصور الفوتوغرافية تبرزه يلعب مع أولاده، وفي حضن الطبيعة يعربشون على ظهره فيحني رأسه لهم وهو الذي قال مرة لصديقه الأديب الياس زخريا: "نحني رأسنا لأولادنا في صغرهم كي يعرفوا معنى شموخ الرأس عندما يكبرون".
لقد حُرم فؤاد وهو صغير من عطف الأب المهاجر فمال لأن يعوّض لأولاده ما حرمه، وعرف الاستقرار النسبي بعد زواجه. يقول جبران جريج: "انتقل إلى منزل جديد في بيروت. كان مرتاحاً نفسياً. كان يحدثني عن أفكار تزدحم في مخيلته. وبدأ يفكر في توسيع دائرة نشاطه الأدبي في التحرير".
شـخصيته: كان نحيف البنية، متوسـط القامة، كسـتنائي الشـعر ضارباً إلى صهب، ووجهه بلون شـعره، عيناه صغيرتان تقدحان حياة، وجبهته عالية، أنفه ميّـال إلى الطول قليلاً، ووجهه الضامر يوحي بالعصبية، والطيبة، وعليه شـحوب. يترك شـعره منفوشـاً، وربطة عنقه مرخية إحمالاً. متحرر من قيود اللباس فلم يتأنّق، ويرتّب هندامه على بسـاطة لا تخلو من الإهمال. كان عصبي المزاج "ذا حسـاسـية دقيقة وعصبية ثائرة، وقد عرف فؤاد عصبياً إلى درجة الكفر وحسـاسـاً إلى درجة الإغراب. عاش لعاطفتـه على حسـاب أعصابـه".
وكان إلى جانب عصبيته طيب القلب، وديعاً قروي الطباع، سـريع الانتفاض، سـريع الهدوء. وفي حسـن طويته يقول الشـاعر خليل حاوي أنه تخاصم مع فؤاد ومضى زمن، واتفـق أن رأى خليـل حاوي يمـر في الشـارع مشـيحاً بوجهه عنه، فاقترب منه فؤاد وقال: "بعدك زعلان يا خليل؟ لا شـيء يسـتحق الزعل".
وكانت أخلاقه مرحة أحياناً فإذا ضحك، ضحك من قلبه، وإذا تطرّف جاءت نكتته لاذعة. يقول جبران جريج: "سأل الأستاذ في الصف قال: "هل يعرف أحد منكم شخصاً كان يتقاضى على كل كلمة يقولها أو يكتبها أكثر ممّا كان يتقاضى عليها الكاتب الفرنسي الذائع الصيت ألكسندر ديماس؟ "فكان الجواب من فؤاد: "نعم. نائبنا الكريم في الكورة، فهو لا يفوه بأية كلمة ويقبض ما يقبض".
ويروي ألفرد خوري عن فؤاد السـاخر: "كنت أجلـس وإياه في الليوان في بيتـه. وقف فجأة. رأى جبر جوهر(8) وهو يشـبه فؤاد نحافة وقامة. قال لي ضاحكاً: "انظر إلى الشـحص الذي يمر هناك، هو إما أنا وإما جبـر جوهر".
وأخبرني عبد الله قبرصي عن حادثة يعرفها أهل فيع " تبنى أخصام آل سـليمان فتىً شـرسـاً للاعتداء عليهـم. يوم أحد حضر ثملاً إلى البيادر وراح يشـتم آل سـليمان. سـمعه فؤاد، نزل بجرأة نادرة لمجابهته أعزلاً. الأول بطّاش مسـلّح، والثاني شـاعر ما غازل الرصاص ولا البارودة رغم أنه أول من أهداني مسـدسـاً في حياتي. واسـتطاع اللسـان والقلب الشـجاع أن يقهر السـلاح الثمل. ألقى الفتى سـلاحه وعانق فؤاداً واعتـذر".
وقد جمع إلى الشـجاعة الوفاء، وكان عظيم الحفاظ على الجميل، حميم الصداقة طيب المعشـر، يقول جبران جريج أنه كان يشـجع زملاءه على إقامة نصب تذكاري لأسـتاذه نعمان نصر.
روى لي نسـيم نصر، أسـتاذه، أنه زاره حين مرضه. قام بنفسـه يهيّئ القهوة. "أبيت عليه أن يفعل خوفاً على صحته، قال لي بالحرف: "إن هذا العمل الواجب أنجع في نفسـي من تناول جرعة الدواء".
وفـوق ما في أخلاقه من نبل كان واثقاً من نفسـه حتى العنجهيـة، عنجهيـة وديعـة. يقول جبران حايك(9):
"كتبـت مقالاً في "النهار" أعجب به فؤاد. قال لي: "بهنيـك ما حدا بيقدر يكتب هالمقـال إلا فؤاد سـليمان". كان ذلك سـنة 1949.
كان يكره التعصب الطائفي على ممارسـة الفرائض، وعلى صادق إيمانه المسـيحي. يقول شـقيقه الدكتور موسـى سـليمان في مقدمة "أغاني تموز": "كنت برعماً لم تتفتـح أكمامك بعد عندما كنا نجتمع في ليالينـا الباردة، حول مواقد النار، في القرية الحبيبة، وحولك العشـرات وأنت بينهم عاصفة ثائرة، باليمين إنجيل النصارى، وباليسـار قرآن المسـلمين".
وتنم مواطنيته عن ضمير حيّ يحمل آلام الشـعب ويدافع عنـه بجرأة. يروي أهل فيع أن نائب الكورة عام 1947 ميشـال مفرّج دعا إلى اجتماع في اوتيل النورماندي يواجه فيه المشـتغلين في حقل السـياسـة الكورانية. كان فؤاد سـليمان حاضراً. أزمة العطـش في أذهان الناس. وقف مجابهـاً وقال: "إن الحمير في الجنوب تشـرب وأبناء الكورة عطاش إلى الماء".
أما في حياته اليومية "فكان يميل إلى المطالعة هواية رئيسـية، ويصيد العصافير، ويهمل صحته بالإكثار من شـرب القهوة والدخان، ودخانه المفضل "يانانجه"، يكتب على قفا علبه بعض مقالاته في المقهى وفي الترامواي وفي السـيارة".
*
1- كان لهذه الغربة الطويلة أثر كبير على نشأة الطفل فؤاد. فقامت بينه وبين والده – كما يقول الدكتور موسى شقيقه – مراسلات عن الهجرة ووجوب رجوع المهاجرين إلى الأمة. وفي تفجعه على خراب القرية بسبب هجرة أبنائها بعض أثر لذلك كما سنرى.
2- المسؤول عن الرصد الجوي يوم إعداد الأطروحة.
3- مخطوطته: "فؤاد سليمان رفيق صبا رفيق صراع" كتبها وهو سجين إثر المحاولة الانقلابية القومية الاجتماعية. بدأها في 18/10/1967 وانهاها في 10 آذار 1968.
4- تسمى في فيع درب العويني. يقع بيت حبيبته فوقها. وعنه حكى في كتابه "درب القمر".
5- طبيب في الجامعة الأميركية. (حالياً في شيكاغو) (وافته المنيّة منذ اشهر. ل. ن.)
6- ماجستير في الاقتصاد يعمل في حقل البترول.
7- ماجستير في العلوم السياسية. كان مدرّساً في الكلية الثانوية من الجامعة الأميركية، ويقيم الآن في لندن.
8- صحافي طرابلسي كان صاحب جريدة "الرائد".
9- صاحب جريدة "لسان الحال": من حديث في كانون الثاني 1971.
|