عن مجلة "صباح الخير" العدد 459 تاريخ 02-12-1984
في أكثر من مناسبة تحدّثت عن الرفيق(1)، الشاعر والمناضل، وجيه الأيوبي، ورافقته في كثير من حضوره الحزبي المميز، وكنت دائماً معجباً بأدائه الحزبي، بمناقبه، بسويّته العقائدية المرتفعة وبتفانيه، كما عرفت عنه الكثير من الأمين جبران جريج، وتسنّى لي أن أعرف شخصياً أبناءه الرفقاء: الأمين أحمد الأيوبي، الدكتور عيسى، الشاعرة الراحلة مي، والرفيقين عامر وكنعان، وعرفت عن الرفقاء الأحفاد الذين أعتذر عن إيراد أسمائهم كي لا أقع في أي خطأ.
ومنذ مدة نشرت نبذة غنية بالمعلومات عن الرفقاء من آل الآيوبي، يمكن لمن يرغب من الرفقاء والمواطنين والأصدقاء أن يطّلع عليها عبر موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
*
وجيه الأيوبي
كنت في شوق للتعرف إليك. كنت أعرف قديماً والدك، صديق العائلة فنحن جيران – بيترومين والنخلة – كنت قد تعرّفت إلى أكثر أهالي القرية وأنا أعمل سراً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، فقد كنت مسؤولاً عن منطقة (القلع)، وكنت أنتظر فرصة التعرف لأحدثك عن الحزب ومبادئه وغايته، لأني كنت أتوسّم فيك خيراً وأنت من الشباب المثقف إلى أن أتحتَ أنت بنفسك، هذه الفرصة، وإذ بي ألتقي في منزلي في بيترومين بشاب يقدم نفسه إليّ قائلاً: "أنا وجيه الأيوبي" والابتسامة مرتسمة على شفتيك.
رحّبت بك، فأكملت قائلاً: "أنا قادم إليك لأنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا لزوم للشرح لأني اطّلعت على كل ما يجب أن أطّلع عليه، ولا ينقصني إلا أداء القسم فتفضّل". كان ذلك في ربيع سنة 1936، فانتميت وانطلقت تعمل على طريق الحياة.
ولا بدّ لي من تسجيل بعض الذكريات التي جمعتنا في هذه المسيرة، والتي اقترنت بوجود فاعل للزعيم معنا، وأبدأها بحضورك إلى مركز الحزب وتطوّعك للعمل فيه. كنتُ يومها وكيلاً لعميد المالية، وبعد التباحث معك اتفقنا على أن تعمل في عمدة المالية في حقل الحسابات. رفعت الاقتراح إلى الزعيم وانتظرت الجواب.
استدعاني الزعيم وأبدى الملاحظة التالية: "وردت كلمة "محاسب" والأصح أن تكون "حاسب"، والفرق بين الاثنتين هو أن المطلوب مسجّل للحسابات لا أن يجري الحسابات بين مختلف الاعتمادات من قبض وصرف. أن يدقق فيها. إنّ هذا القبض والصرف هو من مهمات الخازن العام، أما الحاسب العام فيسجل هذه العمليات الرقمية، لذلك يجب أن تكون التسمية "الحاسب" لا "المحاسب".
ثم أثناء وجودك في عمدة المالية، اكتشفت شاعريّتك، وذلك بالمناسبات التالية: تشجيعاً للفن، قرّر الزعيم تبنّي لوحة منحوتة من الجفصين، قدّمها الفنان حليم الحاج، على أن تكون مشروعاً مالياً أيضاً، وهي ترمز إلى شروق شمس النهضة من خلف الجبل وأشعتها المحيية تتدفق الحياة في الوجود ومقابلها امرأة تحمل طفلها توجهه نحو هذه الأشعة.
استأذنت أن تزيّنها بأبيات من الشعر، فوافقت ووزّعت اللوحة على الفروع الحزبية مع الأبيات، وهي:
يا دفقة النور السخيّة! يا افترار الزوبعة!
هذا صغيري أرضعيه من الرموز الأربعة
غذّيه من دين الزعيم وحبّه كي يتبعه
كذلك لن أنسى ذلك التصويب الذي رويته لي، قام الزعيم بتوجيهه إليك وهو يسمعك تقول في جملة تلفظها كلمة "أفوّضه"، فالتفت إليك وفاجأك بقوله: "رفيق وجيه! تقول الآية الكريمة "أفوّض أمري إلى الله"، إذن يجب أن تقول: "أفوّض إليه، لا أفوّضه". كنت تروي لي هذه الواقعة وأنت معجب بسعة اضطلاع الزعيم باللغة، وخصوصاً مصادرها القرآنية وأنت الضليع في اللغة.
وآخر واقعة كانت تلك التي حدثت معك عندما كان الزعيم يتهيّأ للسفر سنة 1938، وقد رويتها لي كما يلي: "تسرّبت إلى قيادة الحزب أخبار كثيرة من مصادر متنوعة تنبئ بقرب القيام بحملة ملاحقة تستهدف الزعيم بدرجة أولى، ولذلك صدرت الأوامر بتفريغ مركز الحزب من جميع الوثائق والملفات. لم يبق إلا شنطة وكيس بانتظار من يأتي لنقلهما. ولكن يظهر أنّ الزعيم لم يكن مستعداً للبقاء في المركز أكثر من الوقت الذي قضاه، فتوجّه إليك وأنت آخر من بقي من المسؤولين معه.
أبلغك الزعيم أنّ الوقت مداهم، والانتظار قد تكون عواقبه وخيمة، فطلب منك أن تساهم في نقل الشنطة والكيس. انطلقت نحو الشنطة بحماس واندفاع، ولكن ما أن حاولت حملها حتى هبطت حرارة الحماس والاندفاع، لأنك ما استطعت تحريكها فهي ضخمة وأنت النحيل البنية.
وهنا أنجدك الزعيم ووجّهك نحو الكيس قائلاً: "اترك الشنطة لي". أسقط في يدك ولم تستسغ فكرة ترك الشنطة له، ولكن ليس في اليد حيلة، فانصعت للأمر وما كدت تفعل بعد أن عدتَ من ذهولك إلا وكان الزعيم قد حمل الشنطة وأصبح بعيداً عنك يهبط الدرج من الطابق الخامس (وكان المركز في شارع المعرض ولم تكن البناية مجهّزة بمصعد).
سلّمت أمرك لله وحملت الكيس، أو بالأحرى جررته وراءك جرّاً وأقفلت الباب وحاولت جهدك اللحاق بالزعيم الذي كان قد أوقف سيارة عند مدخل البناية ينتظرك، فما أن وصلت حتى انطلقت بكما السيارة إلى مكان ما.
كنتَ والزعيم آخر من غادر المكتب بعد أن أشرف الزعيم على صحة التنفيذ. إنه لم يتوقف عند الشكليات، بل قارن القول بالفعل وما طلبه من سواه ولم يستطعه قام به هو بشكل عادي طبيعي.
وأختم هذه الذكريات القديمة بأبيات من الشعر نظمتها وأنت تعمل في "أحراج القاموعة" إبان الحرب سنة 1944 ولحنّها الأمين الجزيل الاحترام الدكتور منير خوري، وهي تعبّر أصدق التعبير عن أوضاعنا الحزبية التي كنّا نمارسها.
يا بسمة النور
يا بسمة النور كم بُحّت حناجرنا من الهتافات واحمرّت أيادينا
في كل واد، لنا عبّ يظلّلنا وأعين عن أعادينا توارينا
لكل زنبقة من عطرنا عبق وفي فم الدهر لحن من أغانينا
نحن الحياة فصولاً في مظاهرها وجوهر الحق في شتى نواحينا
للصيف من دمنا أمثولة برزت وللربيع اخضرار من أمانينا
وللشتاء أعاصير وزوبعة وللخريف نضوج من مبادينا
ما قام في يدنا قيد برنّته إلا وكانت مع الدنيا تلاحينا
وكانت النكبات السود تتبعنا كأنها بالعلى والمجد تغرينا
فنترك السجن قدساً من طهارتنا ونقطف الغار حباً عن نواصينا
عودوا إلى الساحة الملأى بزرعكم وعلّموا الكون درساً عن تآخينا
لم تُخرس النكبات السود صرختنا إلى الزمان وما غلّت أيادينا
وإنما صهرتنا في مبادئنا وأشعلت جذوة من حقنا فينا
نسير والمشعل الوضّاء في يدنا والحق في قلبنا والصدق في فينا
وهناك الكثير الكثير من إنجازاتك في المجتمع أو في حقل الأدب أو في عملك الحزبي، سأعود إليها في مناسبة أخرى وأكتفي الآن بباكورة أعمالك في حياتك الحزبية.
لا بدّ من التنويه في الختام أنّك طبّقت قسمك الحزبي: وأن أجعل مبادئه السورية القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي، فتزوّجت من الرفيقة عفاف التي ما كانت تقلّ عنك نشاطاً، وهي قد تربّت أيضاً في كنف عائلة سورية قومية اجتماعية وأنجبتما عائلة سورية قومية اجتماعية تفتخر النهضة السورية القومية الاجتماعية بها، والبقاء للأمة.
*
هوامش
(1) كان الرفيق وجيه الأيوبي قد مُنِح رتبة الأمانة من جانب التنظيم الحزبي المستقل، بعد أن تمّت الوحدة الحزبية ألغيت الرتبة عن جميع حامليها، ومنهم الأمين في حينه وجيه الأيوبي، ثمّ راحت تُمنح تباعاً بناءً لما كان يصل إلى لجنة منح رتبة الأمانة من اقتراحات يرفعها الرفقاء عبر التسلسل الحزبي، وبناءً للأنظمة الحزبية المعمول بها.
|