دخلت مكتبها في وزارة الثقافة موجّهاً سؤالاً محدداً قبل أن أحيّيها: هل يستقيم عقد الثقافة في معرض الكتاب بمكتبة الأسد الوطنية من دون اشتراك دار فكر للأبحاث والنشر في هذا المعرض؟
أجابتني الدكتورة نجاح العطار، وزيرة الثقافة في الشام: ولكنكم لم تطلبوا الاشتراك الذي تمّ قبل شهرين من الآن، وقُدّمت جميع العناوين إلى الرقابة منذ ذلك التاريخ، وغداً الافتتاح.
سحبتُ ورقة بيضاء من على مكتبها وكتبتُ عليها: "السيدة الدكتورة نجاح العطار وزير الثقافة، آمل الموافقة على اشتراك "دار فكر للأبحاث والنشر" التابعة للحزب السوري القومي الاجتماعي في معرض الكتاب السنوي الذي يُقام في مكتبة الأسد الوطنية".
وضعت الورقة أمام الدكتورة العطار، فكتبت عليها مع الموافقة للتنفيذ فوراً، وأرسلت الكتاب إلى غسان اللحام المدير العام لمكتبة الأسد الوطنية.
ومن دون أن أضيّع وقتي سُدىً، قفلت راجعاً إلى بيروت وتوجّهت إلى مكتب دار فكر، وملأت سيارتي بالكتب الحزبية، وزّعتها بين المقعد الخلفي والأمامي والصندوق، ولم يعد هناك فراغ لقشّة، ورجعت فوراً إلى دمشق إذ كانت الطريق تأخذ وقتاً إضافياً لأننا كنّا نمرّ على طريق الكرامة بين القرى بسبب إغلاق طريق الكحالة.
كنتُ في دمشق الساعة الواحدة ظهراً، فتوجّهت فوراً إلى مكتبة الأسد حيث معرض الكتاب، توقفت أمام الباب الرئيسي فذُهِل جميع من على الباب، قلت لهم اتّصلوا بغسان لحام المدير العام. وما هي إلا لحظات حتى قدم المدير العام بنفسه وسمح لي بالدخول بسيارتي ورافقني إلى حيث أوجدوا لنا جناحاً، بعد أن امتلأت الأجنحة كافة قبل أسبوع على الأقل، وقد أفرز لي الأستاذ اللحام عدة أشخاص لكي يساعدونني بإفراغ الكتب من السيارة ووضعها على الرفوف في جناح دار فكر للأبحاث والنشر، وكان الافتتاح في الساعة السادسة مساءً تحت رعاية السيد الرئيس حافظ الأسد وتقوم بتمثيله الدكتورة نجاح العطار.
عدتُ إلى المنزل وأحضرت زوجتي الرفيقة هدى لكي تقف في الجناح، إذ لم أستطع لضيق الوقت أن أتصل بأحد من الرفقاء أو الرفيقات، ولم يبقَ للافتتاح إلا ساعتَين.
حضرت الدكتورة العطار وعدد من الوزراء والمسؤولين لحظة الافتتاح، وكنتُ أقف وزوجتي أمام جناح "دار فكر"، نتقبّل التهاني باشتراكنا في المعرض للمرة الأولى، وكان لافتاً وجود الكتب الحزبية كاملة من مؤلفات الزعيم إلى مؤلفات الرفقاء القوميين الاجتماعيين، وجميع هذه المؤلفات لم تمرّ على الرقابة السياسية كما باقي كتب المعرض، حتى أنه في اليوم الثاني للافتتاح كانت زوجتي تجلس في جناح فكر، حتى أطلّ العقيد "محمود علقم" المسؤول الأمني عن مدينة دمشق، ومعرض دمشق من ضمن مسؤوليّته، سأل زوجتي: هل عُرِضَت هذه الكتب على الرقابة؟ أجابته من دون تردّد: عليكَ أن تسأل زوجي الأمين سمير رفعت... عندها قال لها: لقد أجبتني إجابة تجعلني أبتعد عن هذا الجناح منذ الآن وحتى آخر أيام معرض الكتاب... بلّغي الأستاذ سمير تحيّتي..
بدأت معرفتي بالعقيد علقم حين كان رئيس فرع الأحزاب والهيئات في الأمن السياسي في الشام، وقام بالتحقيق معي العام 1975 حين سُمِحَ لي بالعودة إلى دمشق وإلغاء مذكّرة التوقيف بأمر السيد الرئيس حافظ الأسد، والتي استمرّت منذ العام 1967 وحتى 1975، وقد دامت صداقتي مع العقيد علقم، الذي أصبح برتبة لواء وعُهد إليه أن يكون معاوناً لوزير الداخلية إلى أن توفّاه الله.
ونعود إلى أيام معرض الكتاب، حين مرّ العقيد علقم من بعيد، فقالت لي زوجتي: هذا الرجل أتى ليسأل إذا كنّا قد قدّمنا عناوين الكتب المعروضة للرقابة، وأجبته أن يتصل بك، فقمت بمناداته وعرّفته إلى زوجتي، الذي قال لها: "سيدة رفعت من زمان كُلّفت بالتحقيق مع زوجك الأستاذ سمير، وللحقيقة هو الذي حقّق معي على مدى عدّة أيام، لذلك حين قلتِ لي أن أتصل به لسؤاله عن عناوين الكتب التي تعرضونها، تذكّرت فترة التحقيق معه، وفضّلت أن لا أعود إلى نفس الموقف.
وفي معرض الكتاب، خاتَم يحمل اسم المكتبة والمعرض، يجب أن يُختَم به كل كتاب يُباع أثناء المعرض، فكنت خلال فترة الاستراحة من الساعة الثانية حتى الخامسة مساءً أعترف أني أضع الخاتم في جيبي وأتوجّه إلى مكتب "البناء" في المرجة بدمشق، وأقوم بختم جميع الكتب الحزبية الموجودة في المكتب بصورة غير نظامية، وبذلك أصبح وجودها مشروعاً في الشام، ويمكن نقلها من محافظة إلى أخرى على أنها مُباعة في معرض الكتاب... وللمفارقة أننا اضطررنا إلى كمية من أحد الكتب الذي نَفَدَ خلال فترة المعرض من الجناح، فأحضرت الكمية من مكتب "البناء"، وإذا بها تحمل ختم المعرض في دخولها إلى المكتبة، أي قبل أن تُباع. هنا استغرب المسؤول عن عملية إدخال الكتب، وحين راجع المدير العام غسان اللحام، أجابه بالحرف: كلّ ما يقوم به سمير رفعت مُباح من دون الرجوع إليّ، فقد استحصل على موافقة المراجع العُليا.
وهكذا استمرّ اشتراك "دار فكر" في معرض الكتاب السنوي في دار الأسد حتى اليوم.
وفي إحدى السنوات، كنتُ وزوجتي نقف في جناح دار فكر في معرض الكتاب، وإذ بالآنسة بشرى الأسد، ابنة الرئيس الأسد، ورفيقة لها تتجوّلان في أرجاء المعرض، وقفت أمام جناح "دار فكر" تتأمّل عناوين الكتب، فناديتُ على الرفيقة المكلّفة بالبيع وقلت لها: رحّبي بالآنسة بشرى الأسد، وقدّمي لها جميع العناوين هدية من الدار، وحين سألتها عمّن أعطى هذه الهدية قالت لها إنّه الأمين سمير رفعت، هنا التفتت إليّ وحيّـتني بحرارة وشكر، وعرّفتها على زوجتي، فقالت لي: إني أعرفها، فحين نحضر، والدتي وأنا، احتفال عيد الشهداء في السادس من أيار كل عام في مدارس بنات الشهداء، أفتش حين دخولي القاعة عن صاحبة العينَين الجميلتَين، فأراها إلى جانبك تجلسان في الصف الأمامي إلى جانب والدتي راعية الاحتفال، لذلك فأنا أعرفها جيداً، ونادت على شاب يقف بعيداً عنها لأمتار، وكلّفته بإخراج نسخ الكتب المقدّمة هدية لها.
سألتني زوجتي عن سبب تقديمي جميع العناوين هدية للآنسة بشرى الأسد، فقلت لها إنني بذلك أدخلت الكتب الحزبية كلّها إلى القصر الجمهوري وصارت في متناول الرئيس الأسد، وأعرف أنه قارئ نهم، خاصة وأنّ الآنسة بشرى كانت ما زالت تقطن مع عائلتها قبل أن تتزوّج. هذه طريقة مشروعة لأن نضع الكتب الحزبية في مكتبة القصر الجمهوري.
|