مات عبد الحليم خدام... نعته محطة تلفزيونية لبنانية مع إيراد قسم من حديث أجرته معه وهو في منفاه الباريسي، بثّ فيه حقده على القيادة الشامية كرمى لعيون ورثة رفيق الحريري، الذين أسكنوه قصراً في باريس ليقول ما قال من ترّهات لا تمتّ إلى الحقيقة، ثم طردوه من هذا القصر، بعدما أدّى غرضه، وأودعوه في شقة صغيرة تليق بحجمه.
وحين كنت أستمع إلى نعيه وأرى ما فعلت به الأيام، تذكرت حادثتَين لي معه؛ الأولى أنه اتصل بي يوماً محدّداً موعداً للقاء بيني وبينه في مكتبه في ساحة حديقة المدفع في دمشق، والتي تبعد عن مكان عملي كمستشار سياسي وإعلامي في مجلس الشعب الشامي مدة سبع دقائق مشياً على الأقدام. الموعد كان الساعة الحادية عشرة في أحد الأيام الدمشقية الربيعية الجميلة، والموضوع، كما حدّده هو، يخص الحزب السوري القومي الاجتماعي.
ذهبت إلى الموعد المحدد، وكنت في مكتب مدير مكتبه الساعة الحادية عشرة إلا ثلاث دقائق.. استقبلني مدير مكتب خدام بكثير من التأهيل والترحيب، عارضاً عليّ فنجاناً من القهوة. اعتذرت لأنّ موعدي قد أزف، فقال لي مبرّراً إنّ الموعد سيتأخر حوالى ربع ساعة، لأن السفير الأميركي في دمشق قد جاء لأمر هام واجتمع إلى السيد نائب الرئيس خدام!
كنت ما زلت واقفاً.. علّقت قائلاً: ولكن موعدي الذي حدّده السيد خدام نفسه في الحادية عشرة، أي الآن، لذلك أعتذر عن عدم الانتظار، ولنحدّد موعداً آخر.. غادرت وأنا أرفع يميني زاوية قائمة محيّياً: تحيا سورية... كما هي عادتي.
وصلت مكتبي في مجلس الشعب بعد سبع دقائق، وأنا أهمّ بالدخول رنّ هاتفي الخاص، وكان المتكلم عبد الحليم خدام.. بدأ حديثه قائلاً: ولو.. ألم تستطع الانتظار لدقائق؟ فقد غادر السفير الأميركي بعد دقائق من مغادرتك. أجبته: يا سيد خدام، أنا سمير رفعت قد أسمح لنفسي بانتظارك لدقائق، ولكن حين أمثّل الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يجوز لي أن أنتظر دقيقة واحدة. حينها اعتذر مني طالباً أن أعود للاجتماع به، فاعتذرت وطلبت تحديد موعد آخر في يوم آخر، رغم أنه لم يكن هناك ما يشغلني.. في الموعد الثاني وجدته ينتظرني عند باب مكتبه...
*
الحادثة الثانية كانت عندما كان وزيراً للخارجية وجاءنا إلى مجلس الشعب وفد من النوّاب الألماني كبير العدد، وفيه اثنان يمثلون الجالية اليهودية في ألمانيا. وفي برنامج الزيارة، مقابلة مع وزير الخارجية الشامي، اتصل بي عبد الحليم خدام يوم تحديد موعده مع وفد الكونغرس طالباً مني الحضور إلى وزارة الخارجية قبل الموعد بساعتَين، وكان الموعد في الثانية عشرة ظهراً.
ذهبت، فوجدته ينتظرني لأعطيه معلومات عن كل عضو من أعضاء الوفد، وماذا طرحوا في لقائهم مع رئيس مجلس الشعب الشامي آنذاك عبد القادر قدورة. وبالفعل وضعته في صورة المحادثات التي تمّت في المجلس، ولفتُّ نظره إلى أنّ العضوَين اللذين يمثلان الجالية اليهودية في ألمانيا تحدّثا كثيراً عن حقوق اليهود في الشام، وأن معلوماتهما تقول إنّ اليهود لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتّع بها الشعب في الشام.
بدأت الجلسة الحوارية، وأجلسني إلى يمينه لأضع له ملاحظات عن كلّ طالب كلام من أعضاء الوفد، وحينما طرح العضوان اليهوديان مخاوفهما على اليهود في الشام، أجابهما خدام فوراً: يبدو أنكما تشعران بضعف موقفكما في الانتخابات القادمة، وبحاجة إلى بعض الأصوات الانتخابية، والتي يمكن تدبيرها من خلال ما تطرحان من مخاوف على اليهود هنا. لذلك، سأبعث بكما فوراً إلى حارة اليهود في دمشق لتريا كيف يُعامَل اليهود من قِبَل الدولة والشعب.. وبالفعل هكذا كان، وغادر العضوان اليهوديان الألمانيان بصحبة موظف من وزارة الخارجية لزيارة بعض اليهود القاطنين في دمشق.
وكان اللقاء المقرّر مع الرئيس حافظ الأسد، وقد استثنيت منه هذين اليهوديَّين بحجة ضخامة عدد الوفد، وقد اعترضا بشدة على هذا الإجراء ولكنّي لم أستمع إلى اعتراضهما، وجنّبتُ الرئيس الأسد الإحراج الذي يمثّلانه.
من بين عدد لا بأس به من اللقاءات التي جمعتني بالخدام، تذكّرت هاتين الحادثتين وأنا أستمع إلى نعيه في التلفزيون.
ومن تداعيات الذاكرة اللعينة التي تأبى النسيان، أنّ الحركة التصحيحية التي قامت في العام 1970 بقيادة الرئيس حافظ الأسد، كان لها من يؤيّدها ومن يعارضها، ومِن بين المعارضين، الناصريّون في الشام ولبنان، وكانت جريدة الأنوار التي يملكها ويرأس تحريرها سعيد فريحة تنضح ناصريّة. وحين أراد فريحة أن يكتب منتقداً الحركة التصحيحية في الشام، استغلّ كنية وزير خارجيّة الشام قبل الحركة، وكان من آل السيد، والوزير الجديد الذي كان من أهم أركان تلك الحركة وهو عبد الحليم خدام، فكتب عنواناً لصحيفة "الأنوار" على الأعمدة كلها، يقول العنوان: استبدلوا السيّد بالخدام.. وسواء كنّا نؤيّد خط الأنوار السياسي أو نختلف معه، ولكننا لا بدّ من أن نعترف بأن حِرَفِيَّة سعيد فريحة في انتقائه لهذا العنوان كانت مميّزة، رغم أنه لم يرَ في الحركة إلّا هذه المفارقة.
يقولون في الصحافة إنها تنقسم إلى قسمَين في قرّائها، فقارئ لعنوان وصورة كما مجلة "باري ماتش"، وقارئ لموضوع كما "لوبوان".. والعرب بشكل عام قرّاء عنوان مميز وصورة لافتة.
ولأنّ الذاكرة اللعينة تأبى الغياب، فقد تذكّرت عنواناً ذكياً وضعته منتصف السبعينات من القرن الماضي، حين كنت مديراً لتحرير مجلة "الديار"، وكنتُ أرأس اجتماع التحرير الأسبوعي أكثر الأحيان، وخاصة في غياب صاحب ورئيس تحرير "الديار" آنذاك الصديق الأستاذ ياسر هواري..
في اجتماع التحرير، يُدلي كلّ رئيس قسم بدلوه من المواضيع، وبعد أن تمّ استعراض الأقسام الرئيسية وصل الدور للقسم الرياضي، واعتذر رئيس القسم أن لا أحداث رياضية محلية هامّة الأاسبوع المقبل، سوى مباراة بين كلّيّتَين جامعيّتين في الجامعة الأميركية، وأنهى عرضه بأن قال إنّ الشيخ بيار الجميّل سيرعى المباراة بكرة القدم تلك.. هنا توقّفت لأسأل: وهل سينزل الشيخ بيار إلى الملعب، أجابني: بل وسيرتدي "الشورت" ويضرب الكرة الأولى.
هنا صار لتلك المباراة معنىً خاصّ لديّ، وطلبتُ تغطيتها وأرسلت المصوّرين مسعود قرداحي وناجي لتصوير الشيخ بيار بعدّة لقطات تُظهر مفاتن جسده النحيل.
وضعتُ خبر المباراة على عمود واحد من المجلة، وأفردتُ صورة الشيخ بيار الجميّل على صفحتَين، أي على خمسة أعمدة، وعنونت الموضوع بعنوان "رجوع الشيخ إلى صباه"...
وبينما كنّا نتصفّح عدد "الديار" في غرفة الأستاذ ياسر صباح صدوره، سمعنا صوتاً مجلجلاً آتياً من غرفة السكرتاريا، يرغي ويزبد ويصرخ: أين الأستاذ ياسر... دخل صاحب الصوت مزمجراً، فإذا هو الشيخ أمين الجميّل، وبدأ بالصراخ: كيف تهينون الشيخ بيار بهذا العنوان؟ وقف الأستاذ ياسر محاولاً تهدئته وبقيت أنا جالساً أتفرّج على ثورة الشيخ أمين، الذي التفت إليّ مستغرباً عدم وقوفي. سألته: لماذا تصرخ، ماذا أخطأنا مع الشيخ بيار، أنت تقول عنه شيخ.. وحزبكم بدأ تاريخ تأسيسه فريقاً رياضياً، إذن أين الخطأ في العنوان؟ هنا احتدّ الشيخ أمين وسألني: وكتاب الزعران الذي اسمه "رجوع الشيخ إلى صباه"؟! أجبته بكل ثقة أنّ هذا الكتاب يعرفه الزعران كما قلت، أما أنا واضع العنوان فلم أرَ نسخة من هذا الكتاب في حياتي.
خرج الشيخ أمين غاضباً أكثر ممّا دخل، وقال لي الأستاذ ياسر معلقاً: ما بالك قد أظهرت حقدك القومي على الأب أولأً ثمّ الابن...؟
وصودف أن كنتُ أحضر اجتماعاً لأصحاب الصحف والمجلات في مكتب الأمين محمد بعلبكي نقيب الصحافة، ونيابة عن الأستاذ ياسر هواري، وتطرّق المجتمعون إلى شؤون وشجون الصحافة اللبنانية، وملاحقة الأمن العام لكلّ صغيرة وكبيرة، حينها تدخّل غسان تويني قائلاً: الصحافي الذكي يستطيع أن يكتب ما يشاء من دون أن يدع الأمن العام يتدخّل في عملنا، مثلاً من أجمل وأذكى ما قرأت من عناوين في الصحافة اللبنانية، عنوان وضعه الرفيق سمير عن الشيخ بيار... ولم يستطع الأمن العام التدخّل بحجة القدح والذمّ، رغم وضوحهما في العنوان.
ولأنها الذاكرة اللعينة التي تأبى الغياب، فقد عادت بي إلى أيام الاجتياح الإسرائيلي اليهودي للبنان عام 1982، وصدرت مجلة البناء، التي كنتُ أرأس تحريرها، تحمل عنواناً على الغلاف، وهو نص من قانون العقوبات اللبناني، وكما أذكر المادة 275 على ما أعتقد، يقول النص: "كلّ من تعامل مع العدو وساعده على فوز قوّاته في الحرب عُوقِب بالإعدام"، وحين وضعت العنوان لم يخطر ببالي أبداً أن يعمد الأمن العام آنذاك إلى مصادرة العدد ومنعه من التداول، وحين اتصلت أستفسر عن السبب، قيل لي إنه دعوة للفتنة الطائفية. حاولت جاهداً أن أناقش المتكلم، ولكن عبثاً... فالفتنة الطائفية تأتي – حسب رأي الأمن العام – من تطبيق مادة من مواد قانون العقوبات اللبناني الذي لم يُعدَّل ولم يُلغَ حتى تاريخه.
والغريب العجيب أن من تنطبق عليه هذه المادة في العمالة لليهودي، اعتُبر وما زال "شهيداً"، بينما من نفّذ حكم القانون، حُكِم بالإعدام...
وبالأمس، ذكرّنا سماحة السيد حسن نصرالله في حديثه الإذاعي المتلفز بما أورده إيهود باراك، رئيس وزراء العدو، عن أسباب اجتياح لبنان... وهما سببان فقط؛ الأول إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان لإرسالها إلى الأردن لكي تقوم بتنفيذ مشروع "الوطن" البديل...
أمّا السبب الثاني، فهو إيصال آل الجميّل إلى الحكم في لبنان، ولتنفيذ هذين السببين كان الاجتياح، وكان احتلال بيروت.. وكانت المقاومة التي حرّرت الأرض.
الزعيم قال لنا: "لا يشعر بالعار من لا يعرف العار، ولا يشعر بالشرف من لا يعرف الشرف، ويا لذلّ قوم لا يعرفون ما هو العار وما هو الشرف".
رحم الله غسان تويني، لأنني لم أسمع رأيه بالعناوين الذكية في بلد يدّعي الحرية... اسمه لبنان.
في مصر، سنّوا في فترة سابقة قانوناً اسمه "قانون العيب"، ولو طُبّق هذا القانون هناك لألغى أولاً اتفاق الذلّ بين مصر والكيان اليهودي... وفي لبنان، كم نحن بحاجة إلى قانون كهذا، فالعيوب أكثر من أن تُحصى...
|