إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الباحث انيس النقاش واول عميد للحربية في الحزب الرفيق الدكتور زكي النقاش

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2021-03-16

إقرأ ايضاً


الباحث والمناضل الدكتور انيس نقاش سطّر الكثير في ميدان النضال القومي بمواجهة العدو الصهيوني وحفلت حياته بالتضحيات وبكثير من التفاني.

كتب عنه كثيرون عند رحيله وسوف يُكتب الكثير .

عنه هذا القليل.

*

تشييع حاشد للمناضل أنيس النقاش في الغبيري

حمّود: لنبتعد عن العصبيات ونتّحد جميعاً على طريق فلسطين

شُيّع أمس المفكر والمناضل الراحل أنيس النقاش إلى مثواه الأخير في الغبيري بعد أن قضى بصراع مرير مع فيروس كورونا.

وافتتحت مراسم العزاء في «خيمة الحوراء زينب» في الغبيري بحضور العديد من الشخصيات والفاعليات.

وألقى رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة» الشيخ ماهــر حــمّود كلمة خلال مراسم التشييع دعا فيها إلى أن «نتّحد جميعاً على طريق فلسطين ولنبتعد عن العصبيات الــتي تبــعدنا عن طريق فلسطين".

وأضــاف «نقــول للجــميع لكلّ من يدّعي الإسلام ويرفــع راية العدالة، من دون فلسطين شعاراتكم ناقصة".

وأكد أن «نصرنا أكيد وأبطالنا ومن بينهم فقيدنا الراحل الأستاذ أنيس النقاش عبّدوا الطريق نحو فلسطين".

ثم ووري جثمان النقاش في مقبرة الحرج الجديدة في بيروت.

*

وقدّمت الأمانة الدائمة لـ"لمؤتمر الدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية" في رسالة، تعازيها لـ"جميع مجاهدي محور الحق ضدّ الاستكبار والصهيونية" بوفاة النقاش "الذي قضى جزءًا مهماً من حياته في الدفاع عن المظلومين، خصوصاً الشعب الفلسطيني المظلوم".

وأضافت "بالرغم من أن الشعب الفلسطيني والمقاومة فقدوا مساعداً دائماً وحاضراً في المشهد، إلاّ أن الروح النضالية والدؤوبة للراحل أنيس النقاش أصبحت نموذجاً للعديد من المناضلين وأصحاب الحق في العالم. لن يمرّ وقت طويل قبل أن يشهد العالم تحرير القدس والأراضي المحتلة من نير الاحتلال الصهيوني وإقامة المجاهدين والشعب الفلسطيني صلاة النصر في المسجد الأقصى"

واعتبر رئيس «لقاء الفكر العاملي» السيد علي عبد اللطيف فضل الله "أنّ الخسارة بالمجاهد أنيس النقّاش خسارة لكلّ الساحة الجهادية بكلّ عناوينها الأخلاقية والمعرفية والميدانية"، مضيفاً انه "النموذج الجــهادي الذي لم تحكمه إلا مكوّنات الهوية الإيمانية الأصيــلة وموجبات القضية ومواجهة الظلم والاحتلال في زمن الردة العربية والإسلامية والصفقات والتسويات المذلة، هو الشاهد على عصره بالكلمة والموقف والعمل الميداني المقاوم، فقد كان المتميّز بقدرته على الارتقاء الى مستوى المسؤولية برؤيته الثاقبة ووعيه المتقدّم وسلوكياته المترفعة عن حيثيات التكسّب والانتهازية والنفعية" .

ولفت السيد فضل الله في بيان إلى أنّ الراحل الكبير "لم يكن في كلماته إلا شاهد الحق الذي لم ينهل إلا من عصارة عقله المنفتح وفكره النيّر وقلبه الصافي، ولم يكن في نهجه إلا الثابت الذي لا يتغيّر والأصيل الذي لا يداري والوحدوي الذي لا يتعصّب، كان الشاهد على عصره بالموقف وهو من جيل السابقين الأولين الذين تبنوا نهج المقاومة فحملوا همّ العمل الفدائي من أجل تحرير فلسطين منذ الانطلاقة الأولى في القرى والساحات العاملية، وكم حدّثني عن ذكرياته في جبل فريز في عيناثا التي كانت قاعدة لانطلاقة العمل الفدائي المقاوم".

وتابع السيد فضل الله قائلاً: "هكذا بقيَ الأنيس أميناً على نهج المقاومة عندما انتمى إلى ثورة الإمام الخميني بلا حسابات وشروط، فأعطاها من أصالة فكره وسعة ثقافته وعنفوانه الثوري وكلّ قدراته وطاقاته، وبذلك كان نموذجاً للثوري الذي يعطي دون أن يأخذ ويبذل دون أن يتكسّب وينتمي دون أن يتعصّب".

*

أنيس النقاش: بيروت التي نعرفها

الوزير والنائب السابق بشارة مرهج

من الأسباب التي دفعت أنيس النقاش لتبنّي القضية الفلسطينية وإعطائها الأولوية على سواها من القضايا ومرافقتها فكرياً وميدانياً تحرّره الكامل من العصبية الطائفية، أو “اللوثة اللبنانية” التي تتسرّب إلى الإنسان غداة ولادته وتنمو معه بقوة البيئة والمصلحة والتقليد.

وقد ساهمت عائلته، كما محيطه البيروتي المتأثر بمدرسة جمال عبد الناصر، في تطوّره الفكري والسياسي خارج المنظومة الطائفية التقليدية التي تشدّ الفرد الى العزلة والكيانيّة. فما أن شبّ راحلنا العزيز وتشكل وعيه العام حتى كانت الثورة الفلسطينية في عزّ انطلاقتها تردّ على الهزيمة التي هزت وجدان الشباب العربي، وتردّ على التخاذل الذي طبع مواقف الأنظمة، في معارك فعليّة على الأرض كانت ذروتها معركة الكرامة التي انتشلت النفوس من حضيض اليأس وطرحت نموذجاً يقتدى به للخروج من حال التردّي والاستسلام. في تلك اللحظة، أتصوّر، أنّ أنيس وجد نفسه في ذلك التيار الذي كان يبعث الحياة في جسم مترهّل لا يقوى على النهوض، ووجد نفسه أمام قضية تحرّر وطني صادقة تقرن القول بالفعل وتستحوذ على فكره ومشاعره فاتحد بها واتخذها بشرعيتها ووهجها بوصلة توجّه مواقفه وتطبع ممارساته.

لكن أنيس لم يقتنع بهذه العلاقة التي أرادها أشمل وأعمق وأوثق. فقد ارتسمت أمامه القضية الفلسطينية بصفائها وحقيقتها – وكان ذلك قبل أن تتسرّب الأنظمة الى شجرتها وفنائها – ارتسمت قضية شعب يناضل من الخيام والشتات ضدّ الاستيطان والاستلاب ويقدّم، منذ عقود، شلالاً متواصلاً من الدماء والتضحيات لانتزاع حرياته واستعادة حقوقه وتحرير أرضه التي لا يريد أرضاً سواها.

وهنا التقت الفطرة لدى أنيس مع عقله المتوهّج الذي لعب دوراً كبيراً هو الآخر في حصول هذا التماهي مع الثورة الفلسطينية الذي رسّخه بنضالاته كما بدراساته التي كانت كلها تؤكد قناعاته واختياراته وتزيده عناداً وتوغلاً في خياراته السياسية التي بدت أحياناً غير مألوفة لشاب بيروتي يملك فرصاً كبيرة للارتقاء والتقدّم في مجتمعه التقليدي.

تربى أنيس النقاش ثورياً في كنف حركة فتح التي استهوته كما استهوت صفوة الشباب العربي في ستينيات القرن الماضي. ولم يكتف بالحلقات والمظاهرات والتدريبات فقد التحق مبكراً بالكتيبة الطلابية التي كان لها شأن وشهرة ومكانة إبان الحرب اللبنانية. خصوصاً أنها عرفت كيف تتعامل مع الجماهير اللبنانية في الجنوب وسواه وعرفت كيف توثق هذه العلاقات على قاعدة الودّ والاحترام والتصرّف الحسن مما زاد فعاليتها وشعبيتها وقدرتها على مقارعة العدو بفعالياته العسكرية ونشاطاته السرية.

وقد كانت تلك الكتيبة متوجّهة بكليتها للنضال ضدّ الاحتلال الصهيوني عندما وجدت نفسها مرغمة على خوض بعض معارك الداخل في إطار الحرب الأهلية اللبنانية عندما تعرّضت قوى الثورة الفلسطينية، كما الحركة الوطنية اللبنانية، لحرب شعواء شنّتها قوى الانعزال والالتحاق بدعم من قوى غربية ورجعية.

وبعد اتفاق الأطراف العربية على وقف الحرب في لبنان وتكليف قوات الردع العربية – حيث للسوريين الحصة الأكبر – بهذه المهمة دخلت الأوضاع اللبنانية ومعها الثورة الفلسطينية فترة هدوء نسبيّ ومراجعة مع إصرار على استكمال العمل في الجنوب والبقاع الغربي لمواجهة العدوان الصهيوني المستمرّ والذي بدأ يأخذ أشكالاً استيطانية مسلحة على الأرض اللبنانية.

في تلك المرحلة اهتزّت المنطقة على وقع الثورة الإسلامية في إيران التي اقتلعت الشاه شرطي الخليج والركيزة الأولى للسياسة الأميركية – “الإسرائيلية” في الإقليم.

وعندما بادرت الثورة الإيرانية الى إغلاق السفارة “الإسرائيلية” في طهران وفتح أول سفارة لفلسطين في إيران وعقد التفاهمات مع القيادات الفلسطينية وجد أنيس النقاش نفسه وسط هذه اللقاءات متجاوباً أشدّ التجاوب مع الأفكار السياسية التي بدأت تطرحها إيران حيال قضايا المنطقة لا سيما القضية الفلسطينية.

هنا انفتحت مرحلة جديدة من حياة أنيس النقاش خاض معاركها بكلّ قناعة إلى جانب الثورة الإيرانية التي أصبحت موئله ومرجعه من دون أن ينفصل لحظة واحدة عن القدس حبه الأول والأثير.

*

الفارس أنيس النقاش

الأمين الياس عشّي

كان الراحل أنيس النقاش فارساً قاتل أميركا حتى اللحظة الأخيرة من حياته، فأميركا، كما رآها هو ونراها نحن، تقمّصت في إنسان ساديّ هدر دم المسمّى خطأً بالهندي الأحمر، وحوّل الأفريقي إلى عبد، ثَمّ أعطى الضوء الأخضر للصهيونية العالمية لإقامة وطن عنصري يهودي على حساب ملايين الفلسطينيين، هم الآن نقطة ضوء في وجدان العالم الحر .

لن ننسى أبداً، أيها الراحل المثقف، أنّ الكلّ، بالتكافل والتضامن، قد اغتصبوا فلسطين، وأباحوا دم القدس، في أكبر عملية إبادة منظمة ومدروسة ومحمية من عالم متغطرس، ومن منظمات دولية مشتراة، ومن أنظمة عربية تآمرت، وما زالت، على تهويد فلسطين .

وداعاً لك أيها الفارس الشجاع…

*

من أوائل المنتمين وأول عميد للحربية في الحزب(*)

الرفيق الدكتور زكي نقاش

(*) كُتبت ونشرت وعممت في وقت سابق. أعيد نشرها فأهديها الى ابن شقيقه، الباحث الدكتور انيس النقاش.

الامينان عبد الله قبرصي ومحمد يوسف حمود مع الرفيق د. زكي النقاش

من الرفقاء الأوائل الذين ساهموا في تأسيس الحزب وكان لهم دورهم في مراحله الأولى، فكان أول عميد للحربية في الحزب ومع سعاده ونعمة ثابت وقف في المحكمة المختلطة إبان الانتداب الفرنسي إثر انكشاف أمر الحزب، وتوقيف زعيمه وعدد من أركانه وأعضائه .

هو المدرّس في ثانوية المقاصد الإسلامية، ثم في غيرها من المدارس، الحائز على الماجستير في التاريخ من الجامعة الأميركية، ثم على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة، الكاتب والمؤرخ والمربي الرفيق زكي النقاش، فماذا عنه.

*

في الصفحة 159 من الجزء الأول من كتابه "من الجعبة" يورد الأمين جبران جريج أن سعاده عثر وهو ينقب في مجلات قديمة في مكتبة الجامعة الأميركية على مقالات في مجلة "الكشاف المسلم" تحت عنوان "نظرات في تاريخنا" موقعة باسم زكي نقاش تدل على أن صاحبها سوري قومي دون أن يكون منتمياً إلى الحزب فجاء بهذه الأعداد وسلمها إلى الأمين عبدالله قبرصي الذي كان مكلفاً بالدعاية والنشر للإطلاع عليها واكتشاف مقر زكي نقاش والبدء معه باتصالات تؤدي به إلى الانخراط في صفوف النهضة القومية .

بدوره يوضح الأمين عبدالله قبرصي هذا الأمر في الجزء الأول من مذكراته (ص 48) يقول: "بعد دخولي الحزب بقليل، دعاني سعاده وسلمني أربعة أعداد من مجلة اسمها "الكشاف" تصدر في بيروت. والأعداد كلها عائدة لسنة 1924. ولفت نظري إلى مقالات الأستاذ زكي نقاش عن مقومات الأمة وإيمانه بالتالي بالأمة السورية. قال لي سعاده: هذا الكاتب يفكر مثلنا تقريباً. عليك أن تجده وأن تحاوره وتأتيني بالنتيجة.

" دعوت بدوري الرفيق فؤاد سليمان، ورحنا نقوم بالتحريات اللازمة. فإذا بنا نكتشف أن الأستاذ النقاش ناظر كلية المقاصد الإسلامية الواقعة في محلة الحرش .

" اتصلنا به هاتفياً وعين لنا موعداً في اليوم التالي الساعة الرابعة .

" وتوجهنا، فؤاد سلمان وأنا إلى المقاصد. كيف نصل؟ في الترامواي، المسافة طويلة! في العربات، الأجرة غالية. جمعنا المبلغ المتوفر لدينا فكان ثلاثة عشر قرشاً ونصف القرش. لنستمتع بركوب العربات ذهاباً، ثم نعود إياباً على الأقدام. نحن في تشرين الثاني والطقس اعتدل.

" ووصلنا فإذا الأستاذ زكي النقاش بالانتظار .

" وجه يقطر دماً وعينان شرراً ولسان ذرب يستجيب لموجات من النهر الهادر حتى الصخب. ذلك انطباعي الأول عن زكي النقاش، الدكتور في التاريخ والمعلم المتقاعد حالياً.

أخذت الكلام .

" في تقاليدنا القومية يتكلم المسؤول الأول، والمعاونون يصغون. كان فؤاد سليمان يصغي، قلت له مؤداه:

س: معنا مجلة "الكشاف"، ولك فيها مقالات عن الأمة السورية، هل أنت حقاً كاتب هذه المقالات، وهلا تزال تؤمن بها بعد مرور عشر سنوات ؟

ج: أنا الكاتب، إني أؤمن بالأمة السورية... وأشهد أن الروح لا تموت. أشهد أن الفكر لا يموت...

س: هل تريد أن تظل مقالاتك أدب كتب أم تريد أن تسعى لتحقيقها ؟

ج: إني مستعد أن أعمل لتحقيقها بكل إمكاناتي".

هكذا بدأ الأمين قبرصي حديثه مع الأستاذ زكي النقاش، وعندما وجد منه تجاوباً واستعداداً اتفقا على موعد آخر في مكتب شركة كنارد لاين التي كان يديرها الرفيق نعمة ثابت وتقع فوق مكاتب الأمن العام الفرنسي في منطقة "خان أنطون بك" والذي كان يرتاده الرفقاء الأوائل في بداية التأسيس.

ويضيف الأمين قبرصي: " كنا نحن الاثنان فؤاد وأنا. انضم إلينا نعمة ثابت. ثم حضر الدكتور نقاش، صرنا أربعة. صار العدد ضخماً. أقفلنا الأبواب. سلمنا الأستاذ زكي الدفتر السري. فانتحى به زاوية وراح يقرأه بإمعان. يدقق في كل خطوطه. يقرأه ثم يستعيد قراءته. كنا نتابع تقاطيع وجهه. زكي النقاش رجل قلبه في وجهه. إنه شفاف. يصعب عليه إخفاء ما يبطن. ليس لديه خلفيات محجوبة. فإذا كانت موجودة مشت أمامه. طرحها على بساط البحث. لا يعرف النفاق لا السياسي ولا الاجتماعي ولا العلمي...

" أنا حاضر..

" بعد أن تشبع، بل حفظ غيباً على ما ظننت، كل سطر من الدفتر، جاء إلينا موافقاً، أنا حاضر، أعطوني يوماً للتبصر والتأمل .

" واتفقنا على لقاء جديد لأخذ الجواب القاطع .

" وكان اللقاء في نفس المكان، وكان إعلان الإيمان بالمبادئ والقبول بأداء القسم .

" قام السيد نعمة بالمراسيم بوصفه عميداً للداخلية مسؤولاً عن عمليات الانتماء وحافظاً للبطاقات والبصمات والصور .

" ما أذكره، أن زكي ساعة أقسم اليمين، وبعد القسم كان فرحاً. فاصطحبناه فوراً إلى كوخ الزعامة في رأس بيروت، في الشارع الذي صار شارع المقدسي اليوم، واختفت معالمه القديمة وشيدت على أرضه العمارات الضخمة .

" دخلنا على المعلم وقدمنا الرفيق زكي. فما إن حياه حتى خرج من وراء مكتبه وتعانقاً. شاهدت بعيني زكي النقاش دموعا. وصوته يتهدج. عاد بضع خطوات إلى الوراء، والباب خلفه مقفل، وألقى كلمة حماسية، أود لو أذكر بعض مقاطعها... لم نكن ندون. والذاكرة لا تسجل مثل هذه المواقف بحذافيرها برسم الحفظ نصف جيل !... "

" استمر اللقاء مع الزعيم حوالي الساعتين، وجرى نقاش وحوار علمي حول الحزب وما يخطط للمستقبل " .


تعيينه عميداً للحربية

بعد أيام قليلة استدعي الرفيق زكي نقاش ليبلغه سعاده تعيينه عميداً للحربية (بدل اسم هذه العمدة مراراً، فكانت عمدة الرياضة ثم عمدة التدريب ثم استقر اسمها عمدة الدفاع) .

من المعروف أن أول مجلس عمد تألف في سنوات التأسيس الأولى قبل انكشاف أمر الحزب، من الرفقاء نعمة ثابت للداخلية، سامي قربان للمالية، عبدالله قبرصي للدعاية والنشر وزكي نقاش للحربية. وتعيّن الرفيق فؤاد سليمان (الأديب المعروف) سكرتيراً لعمدة الدعاية والنشر.

بهذه الصفة إذن اعتقل الرفيق زكي نقاش عند انكشاف أمر الحزب، وأحيل إلى المحاكمة، إلى جانب سعاده ومعاونين له وأعضاء في الحزب. في 28 كانون الثاني 1936 صدر الحكم الذي نص على سجن سعاده لمدة 6 أشهر، وبسجن كل من زكي النقاش، نعمة ثابت، عبد الله قبرصي وأسعد الأيوبي شهراً واحداً مع تأجيل التنفيذ، وبجزاء نقدي على كل منهم قدره 25 ليرة .

*

للشاعر الأمين الراحل محمد يوسف حمود رواية أخرى عن الرفيق زكي نقاش نشرها في كتابه "هتاف الجراح" . فبعد أن يورد كيف التحق طالباً في كلية المقاصد، يقول:

كان زكي النقاش ناظر الكلية العام، وكان استاذ التاريخ فيها، وكانت له على الطلاب سيطرة المحبة على الاحترام وسلطة التعليم على التعلم، وكانت لنظراته ونبراته في نفوسهم رهبة وطاعة، وكان لأسلوبه في تلقين التاريخ وقع الإيمان ومتاع النشوة .

دخل علينا في الصف الرابع الثانوي في صبيحة يوم من مطلع تشرين الثاني عام 1935 واجماً على غير عادته، وأطرق ثلاث دقائق ساد فيها صمت مطبق. ثم راح يذرع أرض الغرفة مراراً بخطواته الحازمة متكتفاً يتمتم بما لم نكن نسمع.. إلى أن توقف، ورفع رأسه وشمل العشرين تلميذاً بنظرة واحدة منه وابتسم وأرسل:

صباح الخير، نهارك سعيد، بونجور، مرحبا، العوافي، مساء الخير، سعيدة، بونسوار، الله معكم، السلام عليكم، بخاطركم... اف ما أكثرها!.. وهنا وجدنا نحن التلاميذ متنفساً فابتسمنا، بل ضحكنا ملء صدورنا المطبقة.

وتابع استاذنا يقول بالعربية الفصحى التي ما تخلى لسانه يوماً عنها: حبذا لو نوحد هذه التحيات في تحية واحدة يرددها جميع المواطنين المسيحيين والمحمديين. وردد: حبذا. وراح يتساءل: وماذا نقول ؟ وماذا نحيي ؟ أرضنا ؟ سماءنا ؟ شعبنا ؟. وأطرق من جديد دقيقتين صمتنا فيهما بدوي التساؤل عما سيطلع به علينا الأستاذ. وانتفض كمن يستفيق من غيبوبة، يقول بلهجته الخطابية التي اشتهرت عنه: وهل أجمل وأحلى وأمتع وأصوب من تحية الوطن وتحية الأمة بتحية واحدة في كل آن ومكان ؟ صباحاً وظهراً أو اصيلا ومساء ؟ في المدرسة والشارع والبيت ؟ هل أروع من أن نحيي دائماً بلادنا فنقول: تحيا.. وتوجه إلينا بسؤال: وما اسم بلادنا ؟ فأجبنا معاً

بصوت واحد: سورية... فقد كان هذا الجواب بديهياً عامذاك نتعلمه حتى في كتاب التاريخ لفرحات الذي أقرته وزارة المعارف اللبنانية ليعتمد في الامتحانات الرسمية. وأطرق استاذنا أيضاً هنيهة، ثم أشرق وجهه المحمر والتمعت عيناه وهتف: تحيا سورية.. هذه هي.. وجدناها.. هذه هي التحية التي يجب أن تعم وأن تردد فتحل محل كل تحية سواها.. تحيا سورية.. قولوا معي: تحيا سورية!.. فرددنا كلنا: تحيا سورية.. وتقدم استاذنا نحو كل منا يصافحه بدوره متهللاً قائلاً: تحيا سورية، فيتلقى الجواب من كل منا: تحيا سورية.. وما ان انتهى من المصافحات وتبادل التحيات حتى عاد إلى منبره، واستوى، وتطلع إلى فوق مرسلاً من أعماقه بانشراح وارتياح: اللهم إني بلغت !

وانطلقت "تحيا سورية" منذ فرصة الساعة العاشرة يومئذ تتردد في ملعب الكلية، وعمت جميع التلامذة والطلاب في اليوم التالي: فلا تحية سواها .

وبات لنا كل صباح عقب اجتماع الصلاة، قبل الدخول إلى الصفوف، هتافات نرددها مع الناظر العام:

- يا أبناء الحياة لمن الحياة ؟

- لنا ! –

ولمن نحيا ؟

- لسورية !

– تحيا سورية !

– تحيا سورية !

وبعد أيام، في صبيحة نهار أدينا واجب الصلاة، ولم نهتف... ذلك لأن الناظر العام غائب، لعله مريض، سلامته.

وفي الصبيحة التالية كان هذا الخبر في الملعب يستقبل التلاميذ الوافدين: الأستاذ زكي محبوس، وهذه صحيفة "المعرض" تحمل صورته: إنه عميد الحربية في حزب سياسي سري اسمه الحزب السوري القومي يريد أن يقلب الحكم في البلاد. وهذه صورة مأمون أياس، وصورة محمد النقاش. وهذه صور كتب تحتها نعمة ثابت، صلاح لبكي، عبد الله قبرصي و.. هذا هو "الزعيم" انطون سعاده، وهذه الزوبعة شعار الحزب السري الذي اكتشف أمره، وهذه عبارة تقول: تحيتهم "تحيا سورية" !

وبعد شهر من ذلك اليوم، أفرج عن الأستاذ زكي النقاش. وها هو عميد الحربية في أخطر حركة، يعود إلى المدرسة. وما إن وطئت قدماه الحازمتان مدخل الكلية، حتى كان فوق "علي السبع" الطالب القوي المنكبين في أمواج الطلاب المتظاهرين ابتهاجاً بعودة من يحبون ويحترمون ويقدرون. وكان تعييش زكي النقاش وتسقيط فرنسا التي حبسته ظلماً وعدواناً، وكان أن أطلق "علي السبع" صرخة من تحت من يحمل: يعيش الزعيم زكي النقاش يا... فسارع صوت من فوقه إلى الصراخ: لا، لا، أبداً، لا زعيم إلا الزعيم !

كان ذلك منذ احدى وعشرين سنة. وكان لا بد لي من سنتين عامذاك، حتى يتاح لي البدء بالدروس الأولى في مدرسة الحياة هذه بكفالة الشرف والحقيقة والمعتقد، ولم أكن أظن أن زكي النقاش سيحبس نفسه في سجن، نفسه مؤبداً، وأن محمد النقاش(1) سيكتفي بكرسي صغير يقتعده في زاوية من غرفة جريدة "بيروت – المساء" .

وفي محاضرة كان أعدها الشاعر الأمين محمد يوسف حمود لإلقائها في عمان بدعوة من رئيس الخطوط الملكية الأردنية آنذاك الاستاذ علي غندور، إلا أن أحوال الأردن حالت دون ذلك،

يقول شاعرنا الأمين محمد عن الرفيق زكي النقاش:

" لاستكمال الشهادة على استاذي في كلية المقاصد الاسلامية زكي النقاش، أقول أنه هو الذي علمني منذ خمسين، فيما كان يلقنني دروس التاريخ، كيف أغدو قومياً اجتماعياً واتبعه إلى الندوة الثقافية منبر الاتجاه والتوجيه. واذكر كيف طرد من مورد رزقه تلك الكلية الاسلامية لأنه قومي اجتماعي ولم يجد مجالاً للاسترزاق في مدرسة سواها لسبب عينه. وكيف اشترطت عليه العودة الصاغرة إليها أخيراً ان يكون كما تشاء هي لا كما يشاء هو !

قيل لي أن المؤرخ الدكتور زكي النقاش الذي شيعناه أمس تاريخياً في مدار مئته استقبل كبير مجايليه القومي الاجتماعي الأكبر في الأمناء عجاج المهتار بارتعاشة من شفتيه تقول: تحيا سورية! "

*

سيرة ذاتية

• ولد الرفيق زكي نقاش في بيروت عام 1898 .

• والده الحاج عبد الرحمن النقاش .

• اقترن من السيدة يسر فاخوري ورزق منها بكل من الأستاذ بسام والدكتور تمام .

• بعد إنهائه المرحلة الابتدائية في "مدرسة المعلم عيسى" انتقل لمتابعة علومه في المدارس التالية:

- مدرسة راهبات القديس يوسف في محلة زقاق البلاط .

- المدرسة البطريركية في المحلة نفسها .

- مدرسة الآباء اليسوعيين .

- الكلية السورية الإنجيلية (التي عرفت فيما بعد بالجامعة الأميركية) .

• في عام 1917-1918 تخرج من القسم الاستعدادي والتحق بصفوف الكلية الأربعة التي تخرج منها في حزيران عام 1922 حاملاً شهادة "بكالوريوس علوم" .

• في عام 1922-1923 تعاقد مع جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت للتدريس في مدرستها الابتدائية الأولى الواقعة في محلة الحرج .

• انتقل إلى مدينة نابلس في فلسطين بعد أن تعاقد مع إدارة مدرسة النجاح الوطنية، حيث أمضى خمس سنوات متتالية يعلّم اللغة الإنكليزية والتاريخ والجغرافية الطبيعية .

• صيف العام 1928 أنهى تعاقده مع مدرسة النجاح وانتقل للعمل في مدرسة الحرج لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، كناظر ومدرّس، واستمر حتى السنة الدراسية 1937-1938 .

• انتقل إلى بغداد ليدرّس على مدى ثلاث سنوات في مدارس بغداد الرسمية، حتى كانت ثورة رشيد عالي الكيلاني في أيار 1941 فاضطر مع جميع اللبنانيين والشاميين إلى مغادرة العراق.

• في صيف العام 1941 جددت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت ارتباطها معه ليعمل في مدرسة الحرج التي أصبحت تعرف بـ "كلية المقاصد الإسلامية في بيروت" .

• وكالكثيرين من رفقاء وأبناء الوطن اعتقل الرفيق زكي نقاش إبان الانتداب الفرنسي واقتيد إلى معتقل "المية ومية" فيقضي فيه ما يقرب من ثلاثة أشهر، ليعود بعد الإفراج عنه إلى عمله في الكلية .

• في شباط 1942 عهدت إليه جمعية المقاصد في إدارة الكلية، وبعد فترة أضافت إليه شؤون التفتيش في مدارسها الأخرى .

• عام 1959 بلغ سن التقاعد، إنما استمر يعمل، بارتباط جديد مع جمعية المقاصد، في تدريس التاريخ في كليتي الجمعية للبنين والبنات، وفي عام 1962 – 1963 تقاعد نهائياً .

• تابع الرفيق زكي نقاش تحصيله العالي الأكاديمي فيما كان لا يزال يعمل متعاقداً مع جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية.

• في حزيران 1947 تسلم الرفيق زكي شهادة الماجستير في التاريخ من الجامعة الأميركية في بيروت .

وفي 3 أيلول 1953 منح شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة القاهرة .

• منح دكتوراه فخرية من كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية .

• تفرغ بعد تقاعده النهائي عام 1963 للمطالعة، والبحث، كما للكتابة والتأليف، فكان له مقالات نشرت في الصحف اللبنانية، ومؤلفات عديدة، منها:

1. في تاريخ العرب وسورية، ولبنان:

- العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بين العرب والإفرنج خلال الحروب الصليبية .

- لبنان بين الحقيقة والخيال .

- أضواء توضيحية على تاريخ المارونية .

- التبشير وسيلة من وسائل الاستعمار .

- دور العروبة في تراثنا اللبناني .

- الدكتور زكي النقاش يصحح الدكتور فيليب حتي .

2. المؤلفات المدرسية :

- تاريخ سورية ولبنان المصور ( بالاشتراك مع الدكتور عمر فروح) .

- سلسلة في الجغرافية العامة (بالاشتراك مع الأستاذ محمد إسماعيل، أحد موفدي وزارة المعارف المصرية للتدريس في بعض مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت) .

*

يحمل الدكتور زكي نقاش الأوسمة التالية :

- وسام المعارف الوطني اللبناني، في 18 حزيران 1949 .

- وسام الأرز الوطني من رتبة فارس، في 29 كانون الثاني 1960 .

- الميدالية الذهبية من جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت .

وافت المنية الرفيق الدكتور زكي نقاش في نيسان عام 1988، وقد بلغ التسعين من عمره .

*

كتب عنه الكثيرون من مقدريه وعارفيه، منهم الدكتور حسن صعب، الدكتور هشام نشابة، الدكتور حسان حلاق والأديب سعيد الصباح.

بعض مما قيل فيه

• برحيل الدكتور زكي النقاش افتقد الوسط التربوي رجلاً طالما نذر نفسه من أجل تربية الأجيال الصاعدة، إلى كونه الباحث التاريخي المجلي .

عرفته يوم كنت طالباً مقاصدياً في ثانوية علي بن أبي طالب فكان مديراً لهذه المدرسة الزاهرة ومدرّساً لمادة التاريخ فيها .

بعد انتقالي إلى الدراسة الجامعية كنت أزوره في منزله في محلة قصقص ، فأجده منكباً على أبحاثه التاريخية ، وهو على كبر سنه وتوالي العديد من الهزائم والنكسات على الوطن لم يضعف إيمانه ولو للحظة بعودة لبنان إلى سابق عهده .

لشهر خلا كرّمته الحركة الثقافية – انطلياس ، وبتكريمه مع أقرانه الشيوخ – الإعلام تكرم العلم والإبداع في هذا الوطن الجريح وترسي دعائم وأسساً للبنان الجديد الواحد .

الأديب سعيد الصباح، "النهار" 11/5/1988 .

• لم يكن زكي النقاش المعلم الحرفي بل كان المعلم الرسولي، وكان الحماس رسالته يبلغ به حداً يحملنا على أن نتساءل وهو يخطب فينا ، ليلهبنا بالقيم التي يعتقدها ، أيكون هذا الرجل مربياً أم متصوفاً للحق وللتاريخ وللمعرفة وللوطنية أم متصوف النور ؟ ومعلمنا وناظرنا ومديرنا كان يريدنا رسل النور إلى مجتمعنا، فيصرخ بنا حيثما التقانا في قاعة الدرس، أم في باحة الاجتماع، أو في مخيم الكشاف : " أنر الزواية التي أنت فيها " وكان هذا الشعار ينطلق من جوارحه ، بجموح حماسي ، يهزنا أكثر من كل ما كنا نتعلم في الكتب ، وكان نور وجهه يشع علينا ، وهو يطلق الشعار ، بصدق وهاج ، يجعل المعلم ملء كياننا ، فنتحرك بتعاليمه أكثر مما نتحرك بتعليمه .

الدكتور حسن صعب، "النهار" 23/4/1988 .

• لم يقترن فكر بحماسة واندفاع كما اقترن فكر زكي النقاش فإذا غاب زكي النقاش افتقد محبوه وتلامذته والمعجبون بفضله الحماسة المتدفقة والحيوية التي تفيض.

من مِن أبناء جيله من المربين لم يكن له مع الدكتور النقاش جوله أو حادثة تجلّت فيها مبادئه في التربية الصحيحة والوطنية الصادقة والإيمان العميق ؟ من مِن تلامذته لم يتأثر به عندما كان يخطب فيهم موقظاً مكامن الخير في نفوسهم ، أو محركاً حماستهم لنصرة قضية وطنية ، أو داعياً لفضيلة تناساها المجتمع

مستعملاً في سبيل ذلك اللين تارة ، والكلام اللاذع أحياناً .

الدكتور هشام نشابه، "النهار" 28/4/1988 .

*

نشرت "صدى النهضة" في عددها 65 تاريخ 11 أيار 1946 الخبر التالي:

فايز الصايغ يحاضر في المقاصد

" دعت كلية المقاصد في بيروت الأستاذ فايز الصايغ، الأستاذ في دائرة الفلسفة في جامعة بيروت الأميركية ليحاضر في طلبة قسم البكالوريا فيها صباح الخميس في 9 مايو (أيار) .

وقد تحدث الأستاذ الصايغ للطلبة حديثاً ارتجالياً عن المذاهب الاجتماعية المختلفة ورغم أن المحاضرة استغرقت ثلاثة أرباع الساعة وهو الوقت المحدد للمحاضرات فقد أظهر الطلبة رغبتهم في إلقاء الأسئلة على المحاضر لاستكمال الفائدة فوقف مدير المدرسة الأستاذ زكي نقاش وسمح بمتابعة الاجتماع رغم أن وقت الصفوف المحدد قد حل فتتابعت الأسئلة التي كان يجيب عليها الأستاذ الصايغ بوضوح وإقناع مدة نصف ساعة بعد المحاضرة .

ثم اختتم الأستاذ زكي نقاش الاجتماع بكلمة بليغة عن قيمة المحاضرة وأثنى فيها على الأستاذ صايغ ".

هوامش:

(1) من الرفقاء الذين انتموا في اوائل الثلاثينات


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024