من كتاب "في الزوايا خبايا" للأديب الراحل سلام الراسي اخترنا المعلومات التالية:
"الجمّيزة" صديقة البيروتيّ
عبد الفتاح حمادة له حسنة تُذكَر. يُقال إنّه زرع كميّة من أشجار الصنوبر في حرج بيروت، لعلّه بذلك أراد أن يعوّض عمّا فعله محمد علي باشا عندما أمر باقتطاع أشجار الجمّيز الوارفة، في بيروت وضواحيها، ونقلها إلى مصر حيث تصنع مخابيط لدقّ الأرزّ.
في ذلك الزمان كانت الجمّيزة صديقة البيروتي. كلّ بيتٍ في بيروت أمامه شجرة جمّيز، يلعب تحتها الأولاد في ساعات الحرّ، وتجلس على مصطبتها كل مساء نساء العائلة، حول "الأراكيل"، يمضغن المسك ويشربن البيلسان والبابونج والبيسمون، بينما يصعد ربّ العائلة إلى عرزاله المشدود في قلب الشجرة، فينام فيه سيّداً رفيع الجانب.
وكانت تنهض عدّة أشجار باسقة في الساحات والطرق، يستظلّ بها عابرو السبيل، وكانت لبعض هذه الأشجار كرامات. كان الله يُعلن رضاه عن إحدى هذه الأشجار فيُلهم طيور اليمام أن تأتي وتبني أعشاشها فيها. وطير اليمام هذا طير مقدّس يعيش في المعابد. لذلك كان كثيرون من قُدامى البيروتيين ينشدون رضا الله عن طريق اليمام فيطرحون أمامه ما تيسّر عندهم من طعام.
كذلك، كانت لبعض الأشجار شفاعات وقدرة على شفاء بعض الأمراض، يعلٌّ المؤمنون قطعاً من ثيابهم على أغصانها، فتهبهم الطمأنينة. وهذا النوع من الأشجار كان معروفاً في عدّة أماكن، في لبنان وسوريا وفلسطين، وأنا، شخصياً، أعرف شجرة كبيرة على طريق مرجعيون – فلسطين، يسمّيها أبناء المنطقة "شجرة أم شراطيط"، يخلع المريض ثوبه على أحد أغصانها فتخلع عليه ثوب الشفاء. ومن كثرة ما تجمّع على أغصانها من الثياب البالية صار اسمها "أم شراطيط".
نعود إلى جميز بيروت لنروي قصّة رواها لنا "هنري غيز" في كتابه "بيروت ولبنان" المطبوع سنة 1837 – نقله إلى العربيّة مارون عبود – قال: "كان يوم باشر فيه الجنود بقطع أشجار الجميز مأتماً، فالنظر الذي تعوّد رؤية هذه القباب الجميلة الخضراء لم يرتح إلا بصعوبة إلى ذلك الفراغ الذي حدث عندما فُقدت".
ثمّ يروي المؤلّف هنري غيز – قنصل فرنسا في بيروت في ذلك الزمان – قصة شجرة جميز في باب السماطية إلى الغرب، صمدت أمام فأس الوالي، لأنّ جنوده عندما قدموا لاقتطاعها وجدوا رجلاً يُمسك بالجميزة ويقبلها. وعندما أبلغوه وجوب انسحابه وإفساح الطريق للّذين يقومون بأعمال القطع، أجاب: "إنّكم لا تستطيعون أن تقطعوها قبل أن تقطعوا رقبتي".
ويضيف المؤلف: "إنّ بعض المسلمين الأأتقياء يهتمّون بترك مآثر خلفهم تقدّس ذكراهم، وتستمطر لهم نعم العزّة الإلهيّة. فالشرقيون اعتادوا أن يسألوا الله الرحمة لفاعل الخير. وقد تبيّن أنّ جميزة باب السماطية غرسها رجل صالح قرب سبيل ماء، ليتفيّأ بها عابرو السبيل فيترحّمون عليه. لذلك عندا فهم الضابط الموفد لقطعا قصّتها، عفا عنها.
*
بين "المصيطبة" و"الأشرفيّة"
في القرن الماضي وما قبله كان المسافر إذا مرّ في إحدى القرى يسأل عن منزول القرية فينزل فيه. والمنزول، غالباً، بيت من بيوت القرية ينزل فيه الغرباء، على أن يتعاون أبناء القرية في تأمين طعام النّزلاء وعليق دوابهم، حفظاً لسمعة قريتهم. والمنزول غير المضافة الموجودة في بيوت الزعماء، حيث يضيفون الناس كما تقضي أصول الزعامة. أمّا في المدن، فينزل الغرباء في الخانات، حيث لا توجد منازيل ولا مضافات.
في ذلك الزمان، كانت قرية "المصيطبة" تبعد عن مدينة بيروت مشي ربع ساعة، أنّها كانت أقرب قرية إلى مدينة بيروت. وقد اشتهرت بمنزولها الذي كان اسمه منزول السلاطين، لأن الأمراء وكبار القادة كانوا ينزلون فيه. وكلمة مصيطبة – تصغير مصطبة، وتكتب مسطبة كذلك – معناها "منزول" قاموسيّاً وعاميّاً، وقد نسي الناس معناها هذا، لعدم حاجتهم إلى استعماله، وذلك عندما اختفت المنازيل من القرى أواخر القرن الماضي.
وكان الواقف على سطوح المصيطبة يرى بيوت قرية الأشرفيّة التي يُقال أنّها سُمّيت بذلك نسبة إلى الملك الأشرف بن الملك قلاوون، الذي حارب الصليبيين وانتزع مدينة بيروت من يدهم، وجعل مقرّه في تلك المحلّة فصار اسمها "الأشرفيّة" إلى يومنا هذا.
وبين المصيطبة والأشرفيّة، في المكان المعروف الآن بِاسم رأس النبع، كان ينساب جدول صغير باتجاه قرية الكراوية فإلى ساحة الدركاه داخل مدينة بيروت. وكانت تقوم هنالك خلافات ومنازعات دائمة على ملكيّة المياه وعلى سقاية المواشي والأراضي بين أبناء المصيطبة والأشرفيّة.
*
ينشرون الناس على صنوبر بيروت
من الاصطلاحات الشائعة على ألسنة اللبنانيّين، قولهم عن امرأة، مثلاً، حامت حولها الشكوك ولاكت سمعتها الألسنة: "نشروها على صنوبر بيروت".
ويقول عالم ثقة إنّ غابة الصنوبر، جنوبي مدينة بيروت كانت حتى منتصف القرن العشرين، متنزّه أهالي المدينة، تنتشر في أفيائها مئات العائلات، حيث تقضي أكثر ساعات النهار.
وكان القادمون إلى غابة الصنوبر يستحضرون معهم مختلف أنواع الأطعمة والأشربة، فتتعمّر الأراكيل بسرعة ويتحلّق حولها الرجال الذين كانوا يتعارفون بسرعة ويتداولون شتّى الأحاديث.
كذلك النساء، سرعان ما تلتئم حلقاتهنّ وترتفع الكلفة بينهنّ، فيجدن في غابة الصنوبر متنفّساً لأقوالهنّ وأفكارهنّ، لأنّ المحاذير الاجتماعية المسيطرة، ذلك الزمان، على حياة وتصرّفات المرأة في المدينة، تخفّ كثيراً في رحاب الغاب، وتنشط عندئذ الإشاعات والخبريّات:
- هل سمعتنّ أنّ ابنة فلان شوهدت وحدها ليلة أمس في محلة كذا؟
- يا عيب الشوم، شو هالجرسة!
- وماذا فعل أخوتها بها؟
هكذا كانت تنتشر الأخبار بين الناس، وما زلنا نقول حتى الآن، إذا أردنا تشهير أحد الناس: "سننشره على صنوبر بيروت".
|