من المؤسف اني لم احظَ بأعداد مجلة "الندوة" التي كان أصدرها الأمين عبدالله قبرصي أثناء إقامته في فنزويلا والتي، ان وجدت، لسدت الكثير من تاريخ العمل القومي الاجتماعي في فنزويلا وجزر البحر الكاريبي، التي شهدت حضوراً حزبياً اتينا على ذكره في نبذات سابقة، ويستحق ان يُكتب عنه وعن رفقاء تميّزوا بنشاطهم الحزبي.
من هؤلاء الرفقاء، الرفيق عفيف نجار(1) الذي كان اقام في جزيرة ترينيداد وأسس حضوراً جيداً على صعيدي الجالية السورية، والدولة.
فيما كنت ارتب محفوظاتي، مؤخراً، عثرت على ما كانت أوردته جريدة "الديار" في عددها بتاريخ الاثنين 6 تشرين الثاني 1995 بعنوان "رسالة جوابية الى المغترب عفيف نجار"، ننقلها ادناه بالنص الحرفي لمزيد من فائدة الاطلاع.
ل. ن.
*
هذه رسالة جوابية من المحامي عبدالله قبرصي، على رسالة المغترب العائد الى الوطن زائراً بعد نصف قرن اغتراباً عفيف نجار، والتي نشرتها "الانوار" الاثنين الأسبق، وفيها ذكريات من الماضي، و"ادبيات رسائل" جديدة، عند الجيل القديم، بين محام أديب ومغترب شاعر خطفه الاغتراب من الوطن والشعر:
أيها الرفيق والصديق،
ها قد رجعت إلينا من مغتربك القصي، حاملاً في قلبك الكبير المحبة للوطن والرفقاء والأصدقاء. ما استغربت لقاءك الحار لي، كما لم استغرب دموعك التي لا تزال تسبح بين شعراتي البيض. بيننا تاريخ طويل من الحب والاشواق والنضال المشترك.
هل تعرف انني اول ما لقيتك انك كنت في سن المراهقة، تتسلل الى مخابئي في قريتك العزيزة بترومين، تحمل إلي الزاد والشراب، وعيناك مسمرتان على ما وراء الزيتونات العتاق، لكي تأمن شر الجواسيس والمخبرين. منذ اطلالتك على الحياة، ولانك ربيت في أحضان والدين قوميين، كنت قومياً بالدم وبالحليب الذي رضعت!.
لله كم لي من الذكريات العذاب والملاح في بترومين، التي كانت ولا تزال مرتبطة بقريتي الحبيبة دده. وكأنهما ضيعة واحدة... هل استطيع ان انسى كل أولئك الأحباء الذين ما كنت انزل عليهم ضيفاً بل فرداً من افراد العائلة، آل جريج واندراوس والنجار. هل يمكن ان انسى نور قبرصي حريكي التي ربطتني بحبل طويل مشدود الى سريري، حتى اذا داهمني رجال الامن، انزل من النافذة على الحبل لأتوارى بين الزيتون، لأصل الى الوادي حيث تتلقاني الجنيات بنات الأوهام والخرافات!
يا عفيف،
كم يحلو لي ان اخاطبك باسمك بهذه البساطة، كما كنت اخاطبك وانت تحبو تحت سنديانة الكنيسة العتيقة، وكما يحلو لك ان تنادي الناس بأسمائهم، ولو كانوا رؤساء وزارات او رؤساء مجلس نواب!
يا عفيف،
أليس لقاؤنا بعد أعوام طوال في ترينيداد، الجزائر الجزيرة الزمردية في بحر الكاريبي، بعد غياب سنوات مديدة، اليس ذلك اللقاء حلماً من الاحلام التي تحققت بفضل احكام الإعدام التي انزلها بي الظالمون ؟
الترينيداد، ثم فنزويلا، حيث اشرقت عليّ كالشمس في فجر من نيسان، الا أزال اذكرهما وكأنهما وطن لي ثان، لكثرة ما غمراني من حب وحسن وفادة وضيافة ؟ بفضلك وفضل الاهل والأصدقاء أمضيت ما يقارب العشر سنوات في المنفى. الذي تحوّل الى منازل في الجنة ؟ لله كم تفعل المحبة من العجائب، ان احداها ان يحوّل الجحيم الى نعيم، والغربة الى وطن والمنفى الى اعراس ؟
ها انت العائد الى ارض الأباء والاجداد، ضميرك مرتاح وقلبك مطمئن، لأنك ما اغتربت من اجل المال والثراء، أكاد أقول انك اغتربت عن الوطن من اجل الوطن... كيف لا وقد كرّست حياتك للقضية القومية تكافح وتنافح من اجلها، الكبار والصغار، وحولك رجال ونساء، يبذلون من اجلها الغالي والرخيص ليثبتوا للعالم ان من آمن بقضية مقدسة تظل مقدسة في عقله وقلبه وكل كيانه، ولو طار بها الى القمر والمريخ، متى اصبحا في متناول الانسان ؟
دموعك التي لا تزال تسبح بين شعراتي البيض، عندما التقينا، ليست تعبيراً عن محبتك لي وحدي، انها الدموع التي سكبتها عندما هبطت بك الطائرة في مطار بيروت. انها فرحة اللقاء بجبلنا الاشم وترابنا الأحمر، وارضنا المباركة، ارض القديسين والانبياء والرسل!
ما اجترح أنطون سعادة العجائب، ما فتح عيون العميان، ولا أقام الموتى من قبورهم. أنه صنع العجيبة المعجزة، بأن ألغى بريشة قلم، كل العصبيات، لكي تبقى عصبية واحدة: الايمان بالشعب، الايمان بالوطن، الايمان بالأمة !
انت العائد بعد اغتراب احدى هذه العجائب، تترك الوطن سحابة نصف جيل، وتعود إليه، فإذا انت تحبه أكثر مما كنت تحبه يوم غادرته، واذا أنت مؤمن بسيادته، أكثر مما كنت مؤمناً به يوم أقسمت اليمين .
وأنك تشاهد الخراب والدمار بعينيك في لبنان وتسمع وترى كيف يتهافت الكبار على المصالحة مع العدو، ما عدا عبقري سوريا الكبير حافظ الأسد، فتسأل نفسك:
لو أقبل الناس مثلي – أي مثلك انت – ومثل رفقائك الشهداء الاحياء، هل كان حدث هذا الدمار، وهل كان حدث هذا التهافت على المصالحة مع إسرائيل ؟
لو ان الهلال الخصيب موحد، كيف كان بالإمكان لعدد صغير من الصهاينة، ان ينقض على فلسطين، فإذا بها إسرائيل ولو موقتاً !
لا أقول ما أقول لأضعِف ايمانك بالوطن. ان امبراطوريات زالت من الوجود، ولا بد ان تقوم قيامة شعبنا، ولو بقي قومي واحد على قيد الحياة، لاستعادة أمجادنا الغابرة واراضينا المغتصبة.
أهلاً بك يا عفيف في بلادك الحبيبة! اهلاً بك مع كتاب ذكرياتك الذي يصدر قريباً كما وعدتني. أهلاً بك ولو كنت بعد قليل ستسافر ...
القوميون المؤمنون، يسافرون ولكن قلوبهم تبقى في قلب الوطن... انهم لا يهاجرون. انهم يغتربون فقط !.
هوامش:
(1) للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
في: 23/08/2021 لجنة تاريخ الحزب
|