لانه يجب ان نكون أوفياء لكل عمل جليل وقساة على كل خطأ فادح، ننقل ما أورده الأمين جبران جريج في الصفحتين 534 – 535 من الجزء الرابع في مجلده "من الجعبة"، وفيهما يضيء على ما قاساه مسؤولون في الحزب في فترة الحرب العالمية الثانية.
" جاء في كتاب "عبدالله قبرصي يتذكر" عن نبأ إعلان الحرب ما يلي: "أعلنت الحرب ونحن مدعوان أنا وزوجتي الى الغداء في دارة الدكتور فؤاد غصن في ضهور الشوير. تبلغنا الخبر على الراديو فعلقت لقمة الطعام في حلوقنا. من بين الحاضرين، كنت وحدي أوجس خيفة ان اساق الى السجن، للعلاقة "الوهمية" بدول المحور. انا إذن متعاون مع أعداء فرنسا. الحزب إذن "عدو" فرنسا. ومصير " العدو" في زمن الحرب معروف.
فجأة، يوم اعلان الحرب، تغيّر كل شيء في ضهور الشوير وكل مكان. فُقد البنزين من المحطات بدأت السلطة بمصادرة السيرات كبيرها وصغيرها. المواد الغذائية طارت من الأسواق (ويل لكم يا أثرياء الحرب كيف أثريتم لولا إخفاؤكم المؤن لبيعها بأضعاف أضعاف أسعارها؟!).. الذعر خيّم على لبنان.. شبح المجاعة وصور الجثث على الطرقات !(1).. في هذا البلد الصغير، هكذا نفهم الحرب: ارتعاباً وجوعاً وسجوناً ومشانق. متى نفهمها إقداماً عليها وإقبالاً، بلوغاً لمرحلة السلام العالمي، السلام الذي لا حروب بعده ولا من يحزنون، لأنه السلام الذي يسلّم فيه العالم بحقوق كل الشعوب وكل الأمم!.
بدأت الحملة على الحزب فوراً. كان عبد المسيح اول ضحاياها. دوهم في منزله في بيت مري – على ما اعتقد – وسيق الى السجن..
ويقول الأمين كامل أبو كامل في مذكراته المخطوطة عن هذا الردح من الزمن بين التوقيف والاعتقال ما يلي:
" فؤاد أبو عجرم(2) كان قد عاد من اميركا حاملاً معه شهادة الصيدلي ويحمل في يده الثانية رتبة الأمانة التي منحه إياها الزعيم استناداً لماضيه المجيد وللأعمال التي قام بها في أميركا أثناء وجوده فيها لإكمال تخصصه. فاستعاض الأمناء خسارتهم بسفر الأمين فخري معلوف بأمين جديد وقدّر بأن يكون سكنه في عالية قريباً من عمله. فأصبحت عاليه مرجعاً للقوميين لوجود أمينين فيها (كامل أبو كامل وفؤاد ابي عجرم) . وكثيراً ما كان ليتسلل عبد المسيح الى عاليه بعد ان يكون سلك طريق الأحراش ما بين بيت مري وعاليه فنجتمع نحن الثلاثة ونتداول في شؤون الحزب، وكان عبد المسيح خفيف الظلّ في ضيافته لهذا كانت الأمهات تستقبله بالترحاب وأذكر مرة والوقت صيفاً ان تفتح والدتي الباب وترجع الى الوراء مذعورة وتدخل غرفة نومي لتقول لي قُمْ وانظر من تراه يكون الرجل النائم على الصوفة أمام الباب. فنهضتُ من فراشي وتطلعت من الشباك الذي يطل الى حيث الصوفة حيث أجد عبد المسيح نائماً عليها. خرجت فوراً ودعوته ان يدخل غرفة الضيافة حيث يرتاح فيها فأخبرني بأنه وصل إلينا حوالي الساعة الثالثة صباحاً ولم يشأ إزعاجنا. وقد كان انهى جولة حزبية تفقّد فيها منطقة المتن الشمالي مشياً على الاقدام من مديرية الى أخرى".
" ما لبث عبد المسيح أن أعيد الى السجن.. كانت السلطات تخشى بأسه. اعتبرت ان القبض عليه يعني الاستيلاء على الذراع الضارب وبالتالي شلّ أي محاولة تحرك حزبي عنيف.
" كان نعمة ثابت قد تعاهد مع ماري حلبي على الزواج، فتوارى على ما أظن في الشمال ثم استسلم لما عرف ان منزله يداهم وأن السلطة جادة في أثره. لم يستطع الإفلات إلا جبران جريج ومأمون اياس(3). عندما التقينا لاحقاً في سجن القلعة أطلعني نعمة على أسباب استسلامه. لم يكن قادراً على الاختفاء بسهولة. التواري فنّ وبراعة ودهاء مع قسط كبير من الحظ. ويبدو ان نعمة لم يكن فناناً في فن الاختفاء من وجه المظالم – لم يكن محظوظاً.
جبران ومأمون بقيا إذن حرّين لا من أجل الاستمتاع بحرية الحرب – اذا كان من أثر للحريات في زمن الحرب – بل للإشراف على روحية الأعضاء. وتهدئة أعصابهم، وإعدادهم نفسياً لتحمل التضحيات. نحن مستهدفون ولا ينقذنا من المأزق إلا مواقف البطولة، والصبر والاحتمال والانضباط الكلي، لان أية كلمة، أي إشارة، يمكن ان تفسّر تفسيراً يتناقض كلياً مع مضمونها الحقيقي. "
هوامش:
(1) يقصد الحرب العالمية الأولى وما جرى من مجاعة تحدث عنها التاريخ .
(2) فؤاد أبو عجرم: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(3) مراجعة النبذة المعممة بعنوان "مرحلة من مراحل العمل الحزبي في فترة الحرب العالمية الثانية" على الموقع المشار إليه آنفاً.
|