في الجزء الثالث من كتابه عن أنطون سعادة، يورد الرفيق الدكتور سليم مجاعص في الصفحات 103 – 104 – 105 – 106 وجزء من الصفحة 107 معلومات شائقة عن "جولييت المير" (التي عرفت بالامينة الأولى بعد اقترانها من زعيم الحزب)، وعن اللقاء الأول الذي جمعها به.
في نبذات عديدة كنت تحدثت ونشرت عن حضرة الامينة الأولى التي كنت زرتها مراراً في دار الزعامة في ضهور الشوير، وفي منزلها في منطقة فردان.
نذكر ان حضرة الامينة سمحت لنا (الأمين انيس فاخوري والرفيق لبيب ناصيف في حينه) ان ننقل من منزلها لوحة العرزال للفنان الرفيق مصطفى فروخ(1) كي يقوم الأمين انيس بطباعة كمية كبيرة من رسم العرزال على ورق مصقول، وقد تمّ عرض اللوحة الفنية الرائعة ضمن معرض اقمناه في بيت الطلبة في ساحة الدباس، وقد أتيت على ذكره في احد النبذات التي يمكن العودة اليها على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info،
والرفيق الدكتور سليم مجاعص احد النخبة من القوميين الاجتماعيين الذي يملك كفاءة متقدمة من الفكر والثقافة القوميين الاجتماعيين، الى رفعة اخلاق ومناقب وتجسيد حقيقي للكثير من فضائل الالتزام القومي الاجتماعي.
ل. ن.
*
هاجر والد جولييت عبدو المير، الى الارجنتين في مطلع القرن العشرين بحثاً عن فرص أفضل لتأمين مستقبله. وكالعديد من أبناء جيله، عاد الى سورية ليختار عروساً له، فوقع اختياره على حنّة التي كانت قد فقدت والدها وهي طفلة. واستقرّ في الارجنتين مع عروسه الجديدة وأنجبا ثلاث بنات وابناً. ولكن ابنتهما الكبرى توفيت وهي بعد في الثالثة من العمر، فانفطر قلب أمها وأبت ان تتعزّى. لذا، وفي محاولة لمساعدة زوجته الحامل على تخطّي الحزن الذي أصابهما، أعادها وأولاده الثلاث الى سورية يلتمس العزاء والمساندة من والدة حنّة وعائلتها. وهكذا وُلدت جولييت في سورية بعد فترة وجيزة من وصول العائلة. وعاد والدها الى طرابلس بعد ذلك بوقت قصير محاولاً ان يبدأ عملاً تجارياً. ولكن صعوبات الحالة الاقتصادية في سورية لم تساعده على ذلك. فعاد ادراجه الى الارجنتين قبيل بدء الحرب العالمية الأولى. وأدى اندلاع الحرب الى محاصرة حنّه وأولادها في سورية واضطروا الى البقاء في طرابلس، ليشهدوا البؤس الجامح الذي ولّدته هذا المحنة العنيفة والكارثية. وكانت جولييت في الثالثة من العمر عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. وفي خلال السنتين الأوليين من الحرب، كانت العائلة لا تزال تتلقى الأموال من عبدو. ولكن بعد فرض الحصار البحري الغربي، تعرقلت كلّ عمليات نقل الأموال من القارة الأميركية، فعمدت والدة جولييت الى بيع الأغراض المنزلية والممتلكات الشخصية لتفادي الجوع وتجنيب أولادها اهوال المجاعة. ومع ذلك، عاينت جولييت عمليّات النهب التي اجتاحت مدينتها وجوارها، وكانت ويلات المجاعة والامراض مشهداً يومياً دائماً في حياتها. وعند نهاية الحرب، استطاع عبدو إرسال الدعم المالي لعائلته، إلا ان افراد العائلة لم يستطيعوا القيام بالترتيبات اللازمة للسفر الى اميركا الجنوبية عبر مارسيليا، إلا بعد مرور سنتين. وفي 20 أيلول 1920، إلتمّ شمل العائلة بوصول حنّة وأولادها الى بوينس آيرس، والتحق الأولاد بمدرسة رسمية في ضاحية المدينة حيث كانت العائلة تُقيم. وكان اول التحديّات التي واجهها الأولاد تعلّم اللغة الاسبانية، ومع انهم تسجلّوا في بادئ الامر بمدرسة إنكليزية، إلا انهم بعد فترة قصيرة وبسبب المنهج المحدود، اضطروا الى متابعة دروسهم في ثانوية أرجنتينية رسمية. ولم تكتمل فرحة العائلة بلقاء الوالد نتيجة ظروفه الاقتصادية الصعبة. فقد كان عمله التجاري على حافة الإفلاس من جراء الخسائر التي سببها شريكه، شقيق حنّة، في ألعاب المقامرة. وتوفي عبدو في العام 1929 عندما كانت جولييت في الثامنة عشرة من عمرها.
سعاده حاملاً طفلته صفية برفقة زوجته جوليت المير
في بوينس آيرس أواخر سنة 1942
ساعدت جولييت أخاها في العمل التجاري العائلي ثمّ التحقت بكليّة التمريض. كانت في البدء ترغب بدراسة الطب، لكنّ خيارها المهني لم يحظ برضى ومساندة عائلتها، فتنازلت عن رغبتها ودخلت مجال التمريض. وبعد التخرّج بدأت العمل في المستشفى البريطاني في بوينس آيرس (Hostpital Britanico de Buenos Aires) وسرعان ما ترقّت لتصبح الممرضة المسؤولة، وذلك بعد سنة واحدة فقط، وبعد ان أمضت ثلاث سنوات في العمل، اضطرت الى اخذ إجازة بسبب التهاب حاد في المرارة واصابتها بإرهاق شديد نتيجة الدوام المتعب.
وبعد التعافي، انضمت جولييت الى فريق عمل الطبيب غييرمو بوش(Guiller- mo Bosh) أفضل وأبرز جراح ارجنتيني، في مستشفى أرغريتش (Argerich Hospital) حيث تقدمت بسرعة لتتولى مسؤوليات ممرضة جراحيّة تساعد الدكتور بوش في عملياته الكثيرة، إذ ان جدول أعماله كان مزدحماً دائماً، وفي العام 1939، طلب الدكتور بوش منها مرافقة والديه المسنين اللذين لا يتقنان اللغة الإنكليزية في جولته الى أميركا الشمالية. وكان والد الدكتور بوش يعاني من مرض كلوي مزمن وبالتالي يحتاج الى عناية طبية مستمرة. وافقت جولييت، وخلال الجولة ، بادرت بزيارة مستشفيات عدّة في نيويورك للاطلاع على معايير العناية والرعاية، ولا سيما في مجال التخدير. وبعد ذلك، عادت الى بوينس آيرس واستأنفت عملها مع الدكتور بوش وهي تخطط للعودة الى نيويورك للتدرّب بشكل رسميّ على التخدير. وللأسف، اضطرت الى تغيير خطتّها بسبب الموت المبكر للدكتور بوش في تلك السنة.
كانت جولييت قد تخلّـت عن دراسة الطب نزولاً عند رغبة عائلتها التي مانعت هذه الفكرة، فاستعاضت عن هذه الفرصة الضائعة بتقدمها الى مستوى أعلى في مهنتها كممرضة، وبخاصة لأنها كانت تطمح لتحقيق المزيد في حياتها المهنية. ولكنها ستتنازل مرة أخرى عن كل فرصة لتقدّمها المهني من اجل حب عظيم وقضية عظيمة. وسيتبيّن حجم تضحيتها بشكل أفضل متى ادركنا ان هذه المرأة، التي كانت تتوق لتحقيق حياة مهنية متقدمة، ستقبل، من دون تردد وعن طيب خاطر، بالوظائف الاكثر تواضعاً والاقل أهمية نتيجة لما ستفرضه ظروف العيش مع سعادة.
اللقاء الاوّل
في أيلول 1939، التقى أنطون سعاده بجولييت للمرّة الأولى في منزل أهلها، إذ كان، عبر نشاطه في أوساط الجالية السورية في بوينس آيرس، قد أنشأ تواصلاً بينه وبين شقيقها الذي وجّه دعوة الى سعاده للقاء في منزل العائلة. وفي موعد الزيارة كانت جولييت قد عادت الى البيت بعد مناوبة ليليّة في المستشفى ولا يزال وصفها لهذا اللقاء الأول، الذي كتبته بعد أكثر من 20 سنة، يحمل في طيّاته نضارة انطباعاتها الأولى وقوّتها وحيويّتها وذلك من خلال التعابير التي أفعمتها جولييت، كما هي عادتها، بالوداعة والتواضع. ففي مذكّراتها، تصف الثياب التي ارتداها يومذاك وتستعيد لياقته وكياسته ونظراته الثاقبة ونواياه الجديّة. فحُفرت كلماته وافعاله مباشرة في ذهنها وشعرت بإلفة وانسجام فوريين مع أفكاره وخططه لوطنهم الأم. ولدى مغادرته، شجّع أنطون جولييت وأختيها على التفكير في الانضمام الى الجهود الرامية الى تحرير سورية وأحيائها. وهكذا، شغل هذا اللقاء أفكارها، فوجدت نفسها، في فترات الهدوء اثناء عملها، تسرح وتفكرّ في القضية القومية وفي الرجل الذي يتحمل عبئها.
وبعد زيارة سعادة، اجتمعت مديرة فرع النساء في الحزب السوري القومي في بوينس آيرس مع الشقيقات الثلاث وقدّمت لهن نسخاً عن شرح المبادئ، وأجرت بعض المناقشات الإضافية معهن. فتكللت المحادثات بتأدية الشقيقات الثلاث، كاتالينا وديانا وجولييت، قسم الانتساب وانضمامهن الى صفوف الحزب السوري الاجتماعي بعد ذلك، شاركت الشقيقات بفعاليّة في نشاطات الحزب وحضرن الاجتماعات وبحثن عن منتسبين جدد. وكانت جولييت متحفّظة خلال هذه الاجتماعات. فهي أمرأة مفكّرة لا تميل الى التحدث إلا بعد إيلاء الاهتمام والتفكير اللازمين للموضوع ولرأيها بشأنه. ولاحظ سعاده كرامتها الرزينة وذكاءها وسلوكها المتحفّظ والمحترم. فعمد الى اشراكها في المحادثات اثناء الاجتماعات وبعدها، وراح يسألها عن ارائها ووجهات نظرها حول المواضيع قيد المناقشة. وبهذا الشكل، بدأ سعادة، من خلال هذه الحوارات، يدرك مدى عمق التزامها بالقضيّة القومية وإخلاصها لها، ونضجها الروحي والعاطفي المتجلّي في سلوكها الرقيق ونظرتها المستنيرة للحياة التي تكمن وراء رزانتها ولياقتها.
وفي إطار نشاطاتها داخل الحزب السوري القومي، كانت جولييت تشارك في الاجتماعات المنعقدة في منزل سعاده. وساعدتها فطنتها المهنيّة كممرضة على الانتباه الى مرضه المزمن الذي كان يمتص طاقته ويسبب له نوبات متكررة من الألم. ولاحظت ايضاً كيف ان إميليا يونس، وهي صديقة قديمة لوالد سعاده. بادرت الى رعايته، فكانت تقوم برتق ملابسه وشراء بعض القمصان الجديدة له. وعندما أصيب بمرض شديد من جراء التهاب الجهاز التنفسي نقلته إميليا الى منزلها لتتمكن من العناية به، فسارعت جولييت الى تقديم المساعدة المهنيّة.
سعاده مع جولييت وطفلتيهم صفية واليسار أواخر سنة 1946
وهكذا، ازداد إعجابها بأفكاره مع تقديرها لمعاناته الجسدية والروحية ومثابرته في مواجهة كل التجارب والمحن التي اعترضت طريقه في نضاله من اجل القضية القومية، وبالتالي، مهّد انسجامهما الفكري الطريق لتقاربهما العاطفي وسرعان ما شعرت بأنها في موقع يتيح لها تولّي احتياجاته الطبية وتحديد مواعيده للاستشارات الطبيّة المتخصصة فيما تقوم بالاشراف على نظامه الغذائي والوقاية الصحيّة.
هوامش:
(1) مصطفى فروخ: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
|