عرفته جيداً عبر مجلّته "المنبر"(1) التي وثّقت الكثير عن الاغتراب بشكل عام، وعن الاغتراب السوري القومي الاجتماعي، ثمّ عرفته في مسؤولياته الحزبية، وعلى الأخصّ حين تولّيه رئاسة المجلس القومي إلى جانب نائب الرئيس الأمين عادل شجاع(2) وناموس الأمين يوسف فضول(3). كنت في حينه ناموساً للمجلس الأعلى، فكنت إلى جانب رئيسه الأمين محمود عبد الخالق، نلتقي في جلسات عديدة مع مكتب المجلس القومي، يمكنني أن أصفها أنها كانت منتجة، ثمّ عندما كنت عميداً لشؤون عبر الحدود ألتقي أمناء ورفقاء لهم حضورهم الجيد في عالم الاغتراب، أذكر منهم الأمناء مسعد حجل، عادل شجاع، احميد عز الدين، جهاد العقل، فاروق بو جودة، رشيد رسامني.
والرفقاء فؤاد خليفة، نمر ثلج، أحمد بشير وغيرهم، وآسف أن يكون سقط أي اسم سهواً.
كان الأمين منصور عازار مميزاً بحضوره، باهتمامه المستمر، بثقافته اللافتة عن الاغتراب، وبمعرفته الواسعة عن معظم العاملين في الجامعة اللبنانية الثقافية، وقد بنى معهم صداقات جيدة. أشهد أنّ الأمين منصور عازار، وقد كان دائم التواصل معي، كان من الأكثر اهتماماً، متقدماً بالاقتراحات والمعلومات، وواضعاً نفسه بتصرف الحزب في عالم الاغتراب، وقد خبره جيداً وكان من بين ألمع الناشطين فيه.
عن الأمين منصور عازار يكتب الكثير.. لا شكّ أن كتابه "السيرة" الصادر عن دار "أبعاد" عام 2015، يغطي جوانب عديدة من مسيرته الغنية، المتنوّعة، في الوطن وفي الاغتراب، في مجالات الأدب والسياسة والاقتصاد والأعمال، وفي مسؤوليات قيادية في الحزب. إنما كان جيداً أن يكتب عنه من رافقوه في الكثير من محطات حياته، واطّلعوا على ما تمتّع به من كفاءات متعددة، ترجمها عبر ما أسّس وأنشأ وترك من بصمات ستبقى في الذاكرة وفي تاريخ حزبنا.
*
الانتماء.. عهد جديد
ولانتمائي للحزب السوري القومي الاجتماعي حدثُ يروى، إذ إنّ لكلّ تلميذ من تلامذة صف القسم من البكالوريا في مدرسة الحكمة طاولة لها غطاء يحفظ كتبه عندما يخرج من الصف في استراحة. وفي يوم من الأيام فتحت هذه الطبقة لأضع فيها بعض كتبي، فوجدت كرّاساً مستطيل الشكل مكتوباً على الصفحة الأولى منه "مبادئ الحزب السوري القومي مشروحة بقلم الزعيم". كان هذا الحدث احتكاكي الأول بسعاده ومبادئه، احتكاك فكري وعلى الورق وبالكلمة الهادفة، وأخذتني الحيرة لأعرف مَن هي اليد المجهولة التي دسّت هذا الكتيّب في طاولتي؟!
وفي يوم من الأيام، وبعد مرور وقت غير طويل من اكتشافي هذا الكتيّب وقرأته، أصبحت منتمياً عفوياً إلى مبادئه، لكوني كنت أفتّش عما ينضّج ما كان يتحرّك في نفوسنا ما كنا قد اكتسبنا من القراءات السرية لجبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وغيرهم، لأنّ نظام المدرسة في الحكمة كان يمنع قراءة مثل هذه الكتابات!
ومرة كنت في الملعب الكبير لمدرسة الحكمة أمشي وحيداً، إذ ربّتت يد فتيّة على كتفيّ من الخلف فأدرت ظهري لأعرف من الطارق. فإذا بي أجد أحد زملائي في صف البكالوريا السنة الأولى، ويدعى خضر عضاضة من محلة البسطة في بيروت، وهو تلميذ في القسم الخارجي وأنا من التلامذة الداخليين، فسألته مَن أنت وكيف وصل هذا الكتيّب إلى يديك؟
عرّفني خضر إلى نفسه وتبنّى دسّ الكتيّب في طاولتي، فبدأ يشرح لي انتماءه إلى هذا الحزب، وأنّ الزعيم موجود في لبنان ويقوم بحركة هامة جداً لتغيير أوضاع الوطن لتحريره من الانتداب ونفوذ القوى الأجنبية. وأسرّ لي أنّ عدداً من التلامذة من الصفوف العليا في المدرسة كانوا قد انتموا إلى هذا الحزب، وإذا انتميت عندئذ يمكنك التعرّف إليهم إفرادياً. فأجبته لا تتعب في إقناعي بهذه المبادئ، فأنا مقتنع بها وعندي الاستعداد لأقسم اليمين وبعده يمكنني أن أتعرّف إلى رفقائي هنا.
وبعد هذا الحدث بأسبوع أو أسبوعين جاءني خضر عضاضة وقال لي: يمكن أن تقسم اليمين وراء مسرح المدرسة، لأنه مكان خفيّ ونعتمده لهذا الاستحقاق أحياناً، ويجب أن يكون هناك شاهدان لقَسَمك وفق دستور الحزب، فأجبته بأنني حاضر لهذه المغامرة. وهكذا عيّن لي الموعد وجاءني مع رفيق اسمه إدمون كنعان من كفرشيما، فانسللنا إلى المكان المتفق عليه المذكور أعلاه، وهناك خلف مسرح مدرسة الحكمة حينذاك، أقسمت يمين الانتماء إلى حزب سعاده.
في الجامعة الأميركية
بعد تخرّجي من معهد الحكمة، وكنت قد بلغت السادسة عشرة من عمري، انتقلت مع بعض الرفقاء القوميين الاجتماعيين إلى الجامعة الأميركية، إذ إنّ اتصالاتنا برفقائنا هناك قد شجعتنا على هذا الانتقال، لكون المناخ هناك يسهّل لنا النمو الفكري ورحابة الحوار وحرية الكلمة أكثر من معهد الحكمة.
تختزن الذاكرة في هذه المرحلة الكثير من المعلومات، والحياة تستمر وأنا أصبحت في الجامعة، أنهيت البكالوريا في مدرسة الحكمة وكان عمري 16 عاماً، وكانت قد ولدت الثورة فينا، ووجدنا أنّ الجامعة الأميركية هي المكان الذي نستطيع أن نمارس الحرية فيها، ذهبنا إلى الجامعة، فريق من الرفقاء الذين دخلنا معاً في الجامعة الأميركية.
كان أستاذ التاريخ محمد بعلبكي، نقيب الصحافة السابق، وكان أستاذ الفلسفة من آل اليازجي، واللغة الفرنسية التي كنت أتقنها جيداً بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية، كانوا يسمحون لي أن أعمل في مكتبة الجامعة، فغرقت في قسم الكتب المتعلقة بالفلسفة. هنا اشتغل دماغي بين ما أدرسه وما أقرأه عند وليام جايمس وبرغسون وديكارت، واستطراداً عند كل الفلاسفة الأميركيين والأوروبيين وبين عقيدتي أنا وفلسفتي، فأصبحت عندي قاعدة أساساً وهامة فلسفياً وفكرياً. أدركت في ذلك الوقت ما يريده سعاده، من دون أن أقرأه عند أحد، وذلك من خلال الاستنتاج الشخصي وكانت أمنيتي الوحيدة أن يعود لأغرف المزيد من معين تعاليمه.
وفي غمرة بحثنا عن جواب لهذا الضياع والحيرة، التقينا العام 1938 بأنطون سعاده ومبادئه!
لماذا أكتب كلّ هذه التفاصيل؟
لأني أسأل نفسي اليوم، وبعد ثلاثة وتسعين عاماً قضيتها في هذا الكون وإثر تخرّجي من معهد الحكمة وانتقالي إلى الجامعة الأميركية في بيروت، أسأل نفسي كيف يمكن لتربية صارمة ودينية مثل تربيتي أن توصلني إلى العقيدة السورية القومية الاجتماعية؟ هل يُعقل أنّ هذا النوع من السلوك في أيامي الأولى يمكن أن يصل بي إلى هذا المعتقد الغريب ظاهرياً عن الأجواء التي تربيتُ عليها؟... سؤال مهم وخطير أفتش عن جواب له؟ وأين أجد هذا الجواب؟
أكتب عن هذه المرحلة من حياتي، لأنها كوّنت شخصيتي وكان انتمائي إلى سعاده يعبّر عن قناعة عميقة عندي تولّدت من تأملاتي في ما درست وقرأت وفي ما تأثرت باحترام النظام والانضباط واحترام القوانين الصارمة التي سادت عمر المراهقة ومقاربة المستقبل بهذه الروحية المتولدة فيّ لمواجهة المستقبل بالعزم والإيمان والنجاح.
أهلّتني دروسي الجامعية في "الأميركية" لأقتحم الحياة لاحقاً بقوة ومعنويات عالية جداً، وثقة بالنفس كافية لأنجح في دروسي الفلسفية وعلم النفس، فتخرّجت متفوّقاً وكانت الحرب الكونية الثانية قد انتهت فأقدمت على الزواج وسافرت لملاقاة والدي في أفريقيا الغربية في شهر أيلول من العام 1945، كما ذكرت سابقاً.
وكنت قد وصفت رحلتي إلى تلك الديار بدقة وعناية في كتابي "أوراق من الماضي".
.. وحقوقي في "اليسوعية"
عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، نشأت عندي بطبيعة الحال نزعة للسفر، هذه النزعة لم تأتِ هكذا، بل بناءً على رغبة الوالد الذي كان منذ مدة طويلة في أفريقيا، وكان يحتاج إلى من يتسلّم منه كي يأخذ قسطه من الراحة بعد مرحلة طويلة من العمل الشاق، فوالدي كان تبع والدته ياقوت وهي بدورها تبعت والدتها تيريز هذه في تسعينيات القرن التاسع عشر الماضي، واتفق والدي مع أمي أن يتركانا عند الراهبات ويسافرا معاً ليتابعا الأعمال مع والدته.
في هذا الوقت كنت أنا أكبر وأتعلّم إلى أن أخذت البكالوريا من مدرسة الحكمة، ومن ثمّ انتقلت إلى الجامعة الأميركية حيث درست الفلسفة في الجامعة، وهناك بدأت أفكاري تقوى وتظر احتكاكي بقراءة جبران. الأفكار الثورية ساعدتني لفهم العقيدة أكثر، كنت من المتفوقين نسبياً بمعرفة العقيدة، كنت أستوعبها ومتفهّماً لها، وكان الزعيم قد سافر إلى أميركا اللاتينية في العام 1937 حيث كان عمري 15 سنة، كنّا نمارس طريق كتاباته التي تركها لنا، في الجامعة كان عمري 17، وكانت فرنسا تضطهد القوميين الاجتماعيين، وكنّا نحن ممن وضعوا على اللوائح الاسمية للمضطهَدين، حيث تمّ القبض على بعض المسؤولين، بينما جورج عبد المسيح لاذ بالفرار، لكنه كان في هذه الحال المسؤول الأول حينذاك وبقينا نحن كلّنا في التنظيم نعمل بسرّ وكتمان ونأخذ التوجيهات كلّها منه.
في هذه الأثناء كان قد أتى خالي الأصغر أسد الأشقر من أميركا، وكانت الحرب محتدمة وبات عبد المسيح يظهر في المنطقة كل شهرين أو ثلاثة أو أربعة، إذ نكون على موعد معه ونلتقي به في أحراش الزيتون والصنوبر، يعطينا التعليمات ونعمل على نشرها، فلا أحد ينتبه علينا، إذ كنّا شباناً صغاراً ما بين الـ 17 والـ 18 من أعمارنا اليافعة. في تلك المرحلة كان اتجاهي أن أدرس الفلسفة وأعلّمها في الجامعة؛ هكذا كان ميلي النفسي والاتجاه المنطقي يقولان، كان هذا منهج حياتي، الأصدقاء الذين كانوا معي تأثّرت بهم وتوجّهت إلى الحقوق، لكنّي حامل في عقلي فكراً فلسفياً. تسجلّت في تخصّص الحقوق ودرسته في الجامعة اليسوعية.
ولمّا أنهيت دروسي في الجامعتين الأميركية واليسوعية، أصرّ الوالد على السفر إليه لأنّ الوضع كان متعباً جداً له طوال تلك السنة، وكنت قد أصبحت مكتمل الوعي والنضج إثر إنهاء دراساتي في الفلسفة في الجامعة الأميركية ودراستي الحقوق في الجامعة اليسوعية في بيروت.
انتقلت من جو العمل الحزبي العاصف هذا الذي مررنا به، وكانت معارك قوية ضدّ المنتدب. فقبل أن يحلّ ديغول في لبنان كانت ما سمّي زمنذاك "جماعة فيشي" في فرنسا هي الحاكمة فيه، ونحن كطلاب كنا ناشطين جداً، وفعلنا ما يمكن فعله في هذه المرحلة الهامة جداً من تاريخنا في الجامعة الأميركية وفي اليسوعية ومدارس بيروت، هذه المرحلة التي شكّلت مرحلة هامة جداً في حياتي كمرحلة صراع مع متطلباتها العتيدة، وبعد دخولي في الحزب اجتاحني الإيمان به وكنت من أكبر المعجبين بسعاده وبدأت حركتي مع الرفقاء، كما ذكرت سابقاً.
إنما في سنة 1945، كانت الحرب قد انتهت فطلب مني والدي أنه حان الوقت لأسافر وأساعده في أعماله، واشترط أن لا أذهب عازباً لأنّ الحياة الخاصة في أفريقيا تشكّل خطراً على الشاب العازب. فكتبت له أنّي حصلت على منحة من الجامعة الأميركية كي أسافر إلى أميركا، وكانت الحرب قد انتهت، لأتخصص في الفلسفة شرط أن أعود وأعلّم في الجامعة مدة زمنية. عندها كان جوابه: "يا بنيّ، وهل أنا أوصلتك إلى هذا المستوى من الدروس حتى تكون أستاذاً في الجامعة، من الأفضل لك أن تتسلّم أعمال والدك الناشطة لأني أرغب بالعودة إلى لبنان". انصعقت لرغبة الوالد، وكنت لم أره فيها منذ فترة خلال نشوب الحرب تعدّت سنوات عدّة، وعلّمت لفترة دروساً خصوصية في الجامعة الأميركية مقابل ليرتين سوريتين كل ساعة.
وكان التنازع بين السفر إلى أفريقيا، وهي بلاد مختلفة جداً من النواحي كلها عن بيروت، وبين ازدهار نشاطي الفكري والثقافي في بيروت، وأتلمّس الفارق الكبير بين الواقعين. هل يمكنني أن أتحوّل أحد أفراد تلك الجاليات التي كانت أسّست لها مراكز في أفريقيا الغربية، ومنها أكرا ولاغوس وأبيدجان؟
كان هذا التحوّل تغيراً كبيراً في حياتي.
هوامش:
(1) مجلة المنبر: مجلة تعنى بالاغتراب، كان أسّسها الأمينان منصور عازار وواصف فتال. تُعتبر من أرقى المجلات الاغترابية.
(2) الأمين عادل شجاع: تولّى في الحزب مسؤوليات عديدة، أبرزها رئاسة مجلس العمد. كان مميزاً بوعيه العقائدي، بالتزامه النهضوي، وبثقافته الحزبية المتقدمة. للإطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى الموقع التالي: www.ssnp.info.
(3) الأمين يوسف فضول: من بلدة كفر شيما، تولى في الحزب مسؤوليات عديدة، مركزية ومحلية، مُجاز في التاريخ.
|