من كان ليصدق أن ذلك البيت المجاور لسجن الرمل، الوحيد في بحر كثبانها، كان يستقبل سعاده في الكثير من أيام الملاحقة، وفيه أمضى أيامه الأخيرة في بيروت قبل أن ينتقل في حزيران 1949 إلى دمشق.
من حيث كان يقيم أحياناً، كان سعاده يشرف على سجن الرمل، يرى رفقاءه من حين إلى آخر، يستمع إلى أناشيدهم وهي لم تتوقف في أحلك ساعات العذاب .
ومن البناية الوحيدة(1) في جوار سجن الرمل كان يمكن رؤية أية سيارة قادمة. " لذا كان الرفيق علي عوض، مرافق سعاده، منبطحاً والرشيش في يده، على البلكون يراقب من فوق حافته كل حركة، وينظر إلى كل مكان.
" كنت صغيراً عندما أتى سعاده بعد حادثة الجميزة. بات عندنا أياماً. ما زلت أتذكر كيف وضع نظارات سوداء فوق عينيه، تناول طربوشاً كان لوالدي وغادر. أكثر من سيارة كانت بانتظاره. لم أعد رأيته. عرفت بعد ذلك انه استشهد. بكيته كثيراً، قبل أن أعرف أنه كان زعيم حزب ومؤسس نهضة عظيمة ".
هذا ما قاله الأستاذ جهاد الحسيني عن والده الأمين منير، عن سعاده يمضي أيامه الأخيرة في بيروت، في منزلهم.
نسأله، فيجيب:
أساس العائلة من شمالي سورية، ثم توزعت إلى مناطق متعددة، من آل حسين، فتحولت إلى الحسيني.
والده نصرت، ووالدته من أصل تركي: زهرة خادمي.
ولد في بيروت 10 كانون الثاني عام 1910 .
اقترن من السيدة عائشة الحسيني عام 1935 وأنجبا: جهاد(2)، فؤاد (توفي عام 1988 إثر نوبة قلبية حادة) مهى حسني بزي، وهدى منير البيبي .
أشقاؤه:
- فوزية والدة مأمون أياس، الذي كان من أوائل الرفقاء وتولى مسؤوليات مركزية ثم طرد مع نعمة ثابت، ونزار.
- نعمت النبهاني .
- صبري .
درس في الكلية العلمانية Lycée، ثم انتقل إلى الجامعة اليسوعية لدراسة الحقوق، إنما لم يكمل علومه فارتبط للتدريس في ثانوية المقاصد التي فيها كان يدرّس زكي نقاش، من الرفقاء الأوائل وأول عميد للحربية في الحزب(3).
أمضى معظم سنوات الحرب العالمية الثانية مديراً للمدرسة الداوودية في عبيه، عاد بعدها إلى المقاصد يدرّس مادتي التربية الوطنية واللغة الفرنسية .
عام 1956 انتقل موظفاً مرموقاً إلى "مصلحة التعمير" إثر الزلزال الذي ضرب مناطق عديدة في لبنان، ثم انتقل إلى ديوان رئاسة الوزراء، واستمر إلى أن تقاعد في العام 1974 .
أما عن مسؤولياته الحزبية، فإن الأستاذ جهاد يذكر أن والده الأمين منير تولى في النصف الثاني من الأربعينات رئاسة مكتب عبر الحدود، كما تولى مسؤولية مدير مديرية خاصة بالرفقاء السريين.
ويتابع: كان والدي يهوى الموسيقى، يتمتع بأذن موسيقية متعمقاً في الموسيقى الشرقية، ويتابع الاستماع بشغف إلى سيد درويش، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وأبو العلاء محمد. كان أيضاً يعزف على العود ويتمتع بصوت جميل طالما كان يصاحب عزفه .
توفي الأمين منير الحسيني في 17 آذار 1989. بعد رحيله بأيام نشر تلميذه ورفيقه، الشاعر الأمين محمد يوسف حمود مقالة في جريدة "النهار" تحت عنوان "أستاذي منير الحسيني في صف الشهادة الابتدائية عام 1934" . بعض ما قاله:
" كنت في صف الشهادة الابتدائية عام 1934 أيام كان معلمي للغة الفرنسية في مدرسة "الفاروق" المقاصدية بوجه طافح الضوء مشرق التطلع، في محبة ترسلها عيناه الحلوتان شاملة غامرة تلاميذه في الصف كما في الملعب وكما في الطريق، وبطيبة لا ندري معها أهو المعلم المربي الآمر الناهي أم هو الصديق المحب النجي المتناهي.
كنا نحبه كلنا. نحترمه تهيباً لا تخوفاً. وحده كان سيد صفه من بين المعلمين، وحده، كان المدير فؤاد قاسم لا يفاجئه بالدخول إلى الصف ساعة درسه مراقباً كعادته مع سائر المعلمين. ووحده كان محور المعلمين في الفرصة يتحلقون حوله متهامسين أو مقهقهين – كلهم كانوا يأنسون إليه، يحبونه، ويجلونه مع أنه كان الأصغر سناً بينهم.
لم يكن يكبر تلاميذه بأكثر من عشر سنين. لولا الحياء فينا وضرورة الفارق وشاربان تحت أنفه وكرافات قبة قميصه المنشاة على عنقه، لحسبه المطل على ملعبنا أحدنا... ولولا بعض كلمات كان يقولها بالعربية لبعض زملائه لخاله الغريب عن المدرسة أجنبياً، فرنسي المحيا والبشرة والهمسة.
إمتاز كفاءة وتميز مناقب حتى شاءت كلية المقاصد في الحرش من بعد، ومدرسة الصديق في القنطاري، وثانوية علي بن أبي طالب في الأشرفية، والمدرسة الداوودية في عبيه بطلب من عارف النكدي، ومصلحة التعمير برغبة من عميدها إميل البستاني، ورئاسة مجلس الوزراء بإلحاح من أمينه العام عمر مسيكة، أن تستدعيه أو تستعيره إليها معلماً أو مديراً أو مسؤولاً مثالياً علمياً وعملياً.
ذلكم هو بعض أستاذي منير نصرت بك الحسيني الذي غدوت له في العام 1937 رفيقاً، وفي العام 1954 مثله أميناً، ومن بعد مثله في المجلس الأعلى لقيادة أعظم ظاهرة قومية اجتماعية في تاريخنا الحديث موعودة "بأعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ" ما لآلامه في غير مسيرة المسيح ومحمد من مثيل. من مسؤولياته الكبرى في حركة النهضة أنه رأس "مكتب عبر الحدود" في مركز الحزب بتكليف من الزعيم وتحت إشرافه،
ذلكم هو الذي انوجع، على ما أذكر، ثلاث مرات وما بكى: مرة، عندما سمع من بعيد كما الحالم المشدوه في بيته على تلة الرمل غربي بيروت رصاصات الإعدام تمزق فجر الثامن من تموز سنة 1949 وتخترق صدر حبيب عقله معلمه تعاليم الحياة، ثم رأى قبضات الطغاة تطارده وتلكمه لا لذنب إلا لأنه قومي...
مرة واحدة انهار الكبير فيها وبكى: ساعة تلقى قاسمة الظهر قبل أيام، فجيعته باختطاف الموت حبيب حشاشته فتى المروءات فؤاد، مدير البنك الإفريقي العربي الدولي، في عز شبابه الاندفاعي وطموحه المستقبلي !
ومرة أخيرة، بكى فيها بدموع الأطفال يشهقون ابتهاجاً بلعبة، إذ تهلل وجهه الثمانيني اغتباطاً أمس عندما قلدته يد الرئيس سليم الحص ما بين لفيف من أهله وتلاميذه ورفقائه وسام المعارف تقديراً لعطاءاته .
لست أنساه كيف كان يسارع عند الانصراف من المدرسة، للقاء شابين من أوسم شباب بيروت كانا من يوم لآخر ينتظرانه لدى الباب، ليتجه معهما من هناك إلى ... أين؟ إلى خلوة سرية في اجتماع مع رفقاء مثلهم، قلة متكتمة تلتف حول "حضرة الزعيم" في بيت فخري ورشدي وحلمي وفوزي وفايزة المعلوف الذي كان مقراً منطلقاً من رأس بيروت لأعظم دعوة رسالية نهضوية من لبنان إلى سورية كلها ودنيا العروبة في القرن العشرين .
هكذا قيل لنا، هكذا تأكدنا. هكذا قال لي بعد انكشاف الحزب السري الخطير، وبعد انتمائي والتحاقي معه بالندوة الثقافية التي كان رئيسها زكي النقاش وأمين سرها فؤاد سليمان، والتي كانت الملتقى الدوري لأهل الفكر وحملة الأقلام من القوميين الاجتماعيين في حضور سعاده المعلم المفكر الأديب الخطيب الرائد الزعيم الذي كان يولي كل شأن من شؤون" النظرة الجديدة إلى الكون والفن والحياة " ما تتطلبه رسالته الفلسفية المدرحية إلى الإنسان الجديد" ... قال لرفيقه الشاعر المطل على الجيل بإبداعه سعيد عقل: ما لك ولبنت يفتاح الخرافية اليهودية التوراتية، إليك أسطورة قدموس الكنعاني زارع الدنيا بحروف الأبجدية الفينيقية وراء أخته "أوروب" التي على أسمها كانت أوروبا تلميذة لبناننا بالمعرفة والمدنية... وقال لرفقائه براعم الفنون الجميلة خليل مكنية وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وأمين الباشا ومحمد البكار وسواهم: هلموا وجددوا، من تراث أمتكم ومن نفسيتها خذوا ولا تقلدوا، إن الموسيقى، كما الرسم، كما الشعر والنحت والتمثيل والرقص والطرب، لمن آيات الإنسان في التعبير عن تطلعات الإنسان وشوقه إلى أبعاد الزمان من منطلقات المكان... وما الزمان والمكان إلا من تاريخكم وبلادكم لو تعلمون... وهنا مجال القول أن منير الحسيني كان سيد العود المجدد الهاوي، وأن عوده كان سيده المتغاوي سلطنة وتربة طرية بين يديه وتحت عينيه كم إنسابت في نفسيتنا نشوة إنشداد إلى وعي الذات وتعاليها من السمر حتى السحر... وتسمح لنا هذه الذكرى أيضاً بالتذكير في أن إعجاب الفنانين الطليعيين النحات يوسف الحويك والرسام مصطفى فروخ والمسرحي محمد شامل بالعبقري سعاده أوحى للأول فصب عبقريته رأساً ما سلمت من نسخه البرونزية الخمس سوى واحدة تتصدر بيت اليسار أنطون سعاده رفيقة حياة سمير أبو ناصيف(4)، وأوحت للثاني فصوّر بريشته عرزال الزعامة الشويري الذي يتصدر بيوت القوميين الاجتماعيين والعديد من دور المواطنين، وأوحت للثالث بركانية من الشعر على جبل النار "البسطة الفوقا" بايعت أنطون فزلزلت "زعامة" رياض! أما الشابان اللذان كانا ينتظران أستاذنا لدى باب المدرسة حذرين من أن يلفت توالي انتظارهما هناك الانتباه ويستثير التساؤل، فهما رفيقاه المقنع كل منهما بنظارتين سوداوين: مأمون أياس ومحمد النقاش، رفيقا صلاح لبكي وجورج عبد المسيح وأسد الأشقر وعبدالله قبرصي ونعمة ثابت وزكي النقاش وجورج مصروعة وإنعام رعد وهشام شرابي وفايز الصايغ وجبران جريج وعبدالله سعاده ورياض طه وغسان تويني ويوسف الخال ومحسن سليم وكريم عزقول ووليم صعب وخليل حاوي و... “
الأمين عبدالله قبرصي له رأي مماثل بالأمين منير، فهو "رصين، عقائدي، قدير، يفهم الحزب بالعمق، ويشعر بالمسؤولية.
بدوره يتحدث عنه الرفيق إبراهيم يموت في كتابه "الحصاد المر" (ص 65) فيقول:
" خلال صيف 1939 ازدادت معرفتي بالحزبيين المركزيين. ساعدت جورج عبد المسيح في نسخ مقالات جريدة "سورية الجديدة" التي كانت تصدر في المهجر الأميركي الجنوبي، وتعرفت أكثر إلى نعمة ثابت ومأمون أياس. وكلفني جبران جريج، في أحد الأيام (في 19/7) أن أوصل بعض الرسائل إلى منير الحسيني، وهو خال مأمون أياس. وكان مسؤولاً في مكتب عبر الحدود، وهو مكتب الصلة بين القوميين خارج الوطن وبين مسؤولي الحزب في الوطن .
" تردّدت على منير أكثر من مرة، وما كنت أتصور أن معرفتي به، وصداقتي له، ستستمر نصف قرن، دون أن تشوبها شائبة، أو تخبو جذوتها، إلى حين وفاته عام 1989، اشتركنا منذ عام 1954 بالكثير من النشاط الحزبي المسؤول في مجالس الحزب العليا .
" الذي يتعرف إلى منير يتعرّف إلى الفهم الهادئ، والإيمان العميق الذي يعرف كيف وأيمتى يثور. ورغم الأعباء المادية والعائلية التي كانت تتطلب في بعض الأحيان شيئاً من التوقّي والحذر، وتجنب البروز الحزبي المسؤول، ممّا جنّبه الكثير من عذابات السجون والمعتقلات، رغم ذلك فإنه لم يبخل بجهده ورأيه، تحدوه نفس رضيّة، وأسلوب مهذّب لبق، احترمه فيه حتى الذين اختلفوا معه في الرؤية والرأي.
" كان سعاده يأنس إلى منير وإلى جوّ عائلته وزوجته عائشة، أم جهاد، ووالده نصرت بك، وهو الذي سمّى مولود منير البكر جهاداً، وكان كلفه ببعض المهام الدقيقة. وقد لجأ إلى بيته بعض الوقت في فترة المداهمات الكبيرة صيف 1949. بيت منير كان خلف سجن الرمل، وكان منه يسمع سعاده هتافات القوميين السجناء في تلك الفترة فتغمره مسحةَ من الحزن العميق.
" منير كان عازفاً مبدعاً على العود. عزفه ناعمٌ سلس، وله صوتٌ جميل رقيق، ويحفظ الكثير من الأدوار والموشحات القديمة، وله أذن موسيقية لا تخطئ .
" رافقت منيراً طيلة سنواته الأخيرة وقد أصيب بمرض "الباركنسن" العُضال الذي يمهل ولا يهمل. وأخذ يذوي رويداً رويداً رغم عناية رفيقة حياته عائشة وأولاده وأحفاده، ورغم العلاجات التي كانت تُوصف له بإشراف ابني الدكتور باسم، الاختصاصي بأمراض الجهاز العصبي. كانت الأدوية تمدّ في عمر منير. إلاّ أن الأبحاث التي جرت حول هذا المرض لم تكن قد توصلت إلى طريقة العلاج الشافي. وجاءت وفاة ابنه الشاب فؤاد في شباط 1988 لتزيد من آلامه . واستمرت صحّته في التدهور حتى توفي في 18/1/1989 " .
هذا هو "بعض" أحد الأمناء الذين تميزوا في تاريخ الحركة السورية القومية الاجتماعية، وكانوا للأجيال منارات تستمد الضوء من أشعة زعيم النهضة، وبها تعطي الدفء لأمة يراد لها أن تنتهي .
*
- في الصفحة 358 من مجلده "من الجعبة"، الجزء الثالث، وفي معرض الحديث عن الندوة الثقافية التي أنشأها سعاده بعد خروجه من أسره الثالث، وتولى رئاستها الرفيق زكي نقاش وناموسيتها الرفيق فؤاد سليمان، يورد الأمين جبران جريج بين أسماء الرفقاء المشاركين، اسم الرفيق، في حينه، منير الحسيني.
- يعتبر الرفيق صبري الحسيني (شقيق الأمين منير) من أوائل رفقائنا في فلسطين، وهو كان يقيم في عكا عندما باشر الرفيق مأمون أياس في أوائل الثلاثينات اتصالاته لنشر الدعوة القومية الاجتماعية، فكان أن انتمى خاله صبري، ونسيب له يدعى خير الدين النبهاني في حيفا.
*
هوامش
(1) كانت البناية من طابقين وتخص مواطناً من آل صعب. كان الأمين الحسيني يقطن الطابق الأول منها.
(2) يفيد الأمين جبران جريج في الجزء الثالث من مجلده "من الجعبة" (ص 337) أن سعاده هو الذي أطلق تسمية جهاد على الابن البكر للأمين الحسيني، وقد تمّ ذلك عندما قام الزعيم بزيارة الأمين الحسيني والرفيقة زوجته للتهنئة بالمولود البكر .
(3) تلك كانت تسمية عمدة الدفاع في بدء سنوات تأسيس الحزب .
(4) من قب الياس. كان صحافياً وإعلامياً ومناضلاً قومياً اجتماعياً. تولى في الحزب مسؤوليات عديدة. توفي في 5 أيلول 1995 بأزمة قلبية.
|