ان تنتمي فتاة الى حزب، ان تترافق وشاب في طريق الصراع. ان تسفر عن وجهها، ان تعرف السجون والملاحقات وتقف في قفص المحكمة تتحدى وتواجه، فهذا ليس غريبا في ايامنا هذه ولا يدعو الى الدهشة.
انما ان يحصل ذلك في ثلاثينات القرن الماضي، وفيها عرف الحزب انتماء رفيقات كان لهن دورهن في سنوات التأسيس وما بعده، وبعضهن حزن على رتبة الامانة، فهو ما يستحق التوقف عنده والتعرف إليه، فيطلع الرفقاء على سير الرفيقات الاوائل، وعلى نضالاتهن وبطولاتهن.
*
نحن في اواسط الثلاثينات من القرن الماضي، القاضي المعروف احمد اللبابيدي دعا سعادة لحضور عرس ابنته الرفيقة مليحة، ابناه رفيقان:
صلاح: كان تولى قائم مقامية بعلبك ثم مديرا لشرطة مدينة بيروت، حتى احالته الى التقاعد. كان شاعرا وعضوا سريا في الحزب.
زكريا: احد مناضلي الحزب الافذاذ، صحافي، عرف السجون مرارا وتكرارا. تولى في الحزب مسؤوليات عديدة وبقي على ايمانه والتزامه الى ان وافته المنية.
قبل ذلك كان القاضي لبابيدي حضر احتفال اول اذار الذي اقيم في منزله عام 1938 واستمع، واقفا ومدهوشا، الى خطاب سعاده الذي دام زهاء ساعتين.
عن العرس يروي الامين جبران جريج ان الرفيقة مليحة كانت من الرفيقات الناشطات في مديرية السيدات في بيروت وعلى معرفة بسعاده.
حضر سعاده يرافقه رئيس مجلس العمد نعمة ثابت، جبران جريج، مأمون أياس، أنيس فاخوري، صبحي فؤاد الرئيس. حضر أيضا المفتي نجا، وجلس على مقعد مجاور للقاضي غلاييني القائم بأعمال العقد.
انتهت عملية العقد وتقديم القهوة والضيافة. الرفيق زكريا ينظر الى شقيقه صلاح: ترى كيف يقوم سعاده بتهنئة العروس، "هي الجالسة في غرفة الحريم. فما كان من صلاح إلا أن توجه الى غرفة الحريم، يصطحب شقيقته الرفيقة مليحة ويخرج بها، قائلا لسعاده: " أقدم لك العروس يا زعيمنا ". شكلت هذه المبادرة "قنبلة الموسم" في الوسط البيروتي.
يرد في كتابه "سعادة في الاول من الاذار" وفي مقدمة خطاب سعادة عام 1938 في دار الرفيق ذكريا لبابيدي، المقطع التالي:
" ما يجدر ذكره ان الخطاب سجل وطبع ووزع وقرأه الرفقاء في حفلات جميع الحزب في الوطن السوري عدا العراق، في الليلة التالية للحفلة المركزية التي اقيمت لتكريم الزعيم في بيت الرفيق لبابيدي في بيروت.
وكانت هدية اول اذار للرفقاء وللامة السورية كتاب نشوء الامم. فقد خرج هذا السفر القيم الى ايدي القراء صبيحة اول اذار بعد ان عمل الطابعون والمجلدون طيلة ليلهم بهمة وفرح عظيمين لاتمامه واخراجه في يوم مولد باعث النهضة القومية الاجتماعية وقائدها".
*
حادت مماثل، انما في مكان اخر، وبطله الرفيق الشاعر وجيه الايوبي، احد مناضلي الحزب المميزين في الكورة.
يروي الامين جبران جريج في الجزء الرابع من مجلده (ص 134) ان الرفيق حسن درويش الايوبي من بلدة دده، طلب ان يراه وهو يعاني سكرات الموت. فهرع الى دده واذ وصل الى السرير حيث يمضي الرفيق حسن لحظاته الاخيرة، فتح الرفيق حسن عينيه رافعا يده اليمنى زاوية مستقيمة هاتفا وهو يبتسم "لتحيا سورية" واسلم الروح. بعد وفاة الرفيق حسن درويش الايوبي طلب مني الاهل ان انعيه الى الزعيم والرجاء اليه بالحضور. كان الزعيم مطلعا على صلاح سيرته وحسن سلوكه ومحبته التي قرّبت فريقين متنازعين في قريته لاجراء صلح نهائي.
" نزلت عند رغبة الاهل واتصلت بالزعيم فقبل انما، لارتباطه بموعد سياسي، قبل الاهل بتأجيل الدفن الى اليوم التالي، ضاربين عرض الحائط بالتقاليد التي تقضي بالدفن في اليوم ذاته. حضر الزعيم مع بعض المركزيين مأتم الرفيق حسن درويش الذي شيّع بكل ما يستحق من اكرام، وابّنه الزعيم بكلمة رائعة ذكر فيها اعماله واهميته على الصعيد القومي والمحلي.
جاء في كلمة سعاده:
" نحن هنا لنودع رفيقا قوميا ارتبطت حياته بحياة رفقائه جميعهم وعمل لحياته وحياة رفقائه جميعهم بالمعنى العام. عمل لحياة امته، ليس لمجرد انه عضو في الحزب السوري القومي، ليس لمجرد هذا الاسم، نحن هنا، لكن للصفات الحقيقية والحقائق الاساسية التي يجمعنا عليها الحزب السوري القومي والتي تدل على صفة هذا الحزب والحقائق التي تجمع المصالح في الشعب موحدة الجماعات، تربط كل فرد منا بالاخر وتولد الارادة، الارادة العجيبة التي هي ارادة المجموع تذوب فيها كل اراداتنا لتوليد القوة العامة المتغلبة الساحقة".
" لم يكن الراحل الرفيق حسن الايوبي مجرد اسم في سجلات الحزب السوري القومي. انه مثّل في حياته مظهرا قويا من مظاهرنا العملية في الحزب.. انه عمل لازالة الكثير من العوامل المسبّبة لتأخر المجموع واحلال الفضائل الاساسية المتينة التي تربطنا في مصلحة واحدة وارادة واحدة. لقد عمل للقضاء على مبدأ الخلاف ووضع مبدأ الحياة، مبدأ القوة، مبدأ الحرية، مبدأ الواجب".
" ان من نتائج اعماله انه ازال الاختلافات في قريته وان فاعلية عمله تستمر بعد موته لانه قد أسسها في الحياة".
" نحن هنا لنقدر حياة الراحل في الاعمال والخدمات التي قام بها: وحدة، فاعلية، حياة، اتجاه".
" نحزن لان هذا الرفيق الذي رحل باكرا جدا، انه كان يمثل فضائل المبادئ تمثيلا صحيحا، كان يعطي لما حوله عزيمة وقوة، نحزن لأن فاعليته قد وقفت عن طريق ذاته. لكننا نتعزى ان الفاعلية اثبتت وجودها في المجتمع. ان فاعلية حسن درويش الايوبي قد اوجدت طريقا مستمرا لا تموت بموته ".
بعد الدفن انتقلنا الى منزل احد انسباء الرفيق حيث تجمعت الوفود لتعزية الاهل.
بعد الانتهاء من مراسم التعزية، وقبل ان ينصرف الزعيم الى بيروت، دعا الرفيق وجيه الايوبي الزعيم الى منزله للتعرف الى القوميات الاجتماعيات والقوميين الاجتماعيين من القرية في جلسة خاصة فلبّى الزعيم الدعوة وذهبنا، كلنا، الى بيته.
"تمّ التعارف، وفي هذا الوقت بالذات حصلت طرفة يجب ان تسجل لما تدل عليه من معان اجتماعية سامية لا يمكن ان تنتسى. كانت القوميات الاجتماعيات محجبات، فتقدم الرفيق وجيه من شقيقته اولا ونزع الحجاب عن وجهها قائلا: "هذا، (مشيرا الى الحجاب) لا يجوز امام الزعيم".
وهكذا بدأ السفور انطلاقا من هذه المبادرة التي تجرأ على القيام بها الرفيق وجيه.
|